كتاب عربي 21

الممدانية وتجديد السياسة في العالم

نور الدين العلوي
"قدرة تواصلية فائقة وحضور يدرّس في الأكاديميات"- جيتي
"قدرة تواصلية فائقة وحضور يدرّس في الأكاديميات"- جيتي
شيء ما في زهران ممداني يؤهله لقيادة العالم؛ سننتظر نهاية الانبهار بنجاحه السياسي الأول كعمدة لمدينة عظيمة ومخيفة ونتابعه ينفذ برنامجه الاجتماعي، ونرجح بشيء من الأمل أن يكون مقدمة لجيل سياسي عالمي جديد يجدد السياسة، بعد أن هرمت الديمقراطية الغربية وفقد الناس في كل مكان الأمل في التغيير بواسطة الصندوق الانتخابي.

باللسان الفصيح وبالشباب الغض وبالكثير من الوسامة وبالضحكة التي تملأ الوجه مبشرة بالقرب والحميمية مع الجمهور المغبون بوجوه الرؤساء العواجير الكالحة؛ عناصر كثيرة تخدم كاريزما الرجل لكن الشكل سيبقى معلقا بالإنجاز على الأرض، فإما فلاح ومراكمة أرصدة لما هو أكثر من إدارة مدينة بحجم دولة، أو فشل وانتكاسة ونسيان وعودة إلى مربع الرؤساء العواجيز الكالحين. لا نستبعد في الأثناء خطة الرصاصة الطائشة التي عصفت بجون كيندي، فالسيستم المستقر في مسلّماته، أي نظام المصالح الراسخة، يرتعب دوما من التغيير السريع.

خطاب الفوز وميلاد زعيم
الخطابة نفسها صارت موضة قديمة، لكنه أعاد الألق للتواصل المباشر مع الناس في زمن الديجتال والتواصل الصامت أو بالصور المصطنعة بالذكاء الصناعي

خطاب الفوز كان مبهرا؛ قدرة تواصلية فائقة وحضور يدرّس في الأكاديميات. لقد صنع الفتى شخصيته وفرض لونه على من ناصره وعلى من عاداه. من العسير زحزحته عن عرش الخطابة السياسية بعد الآن، فقد كانت تمر أمامنا ونحن نستمع إليه بلغته ونقرأ الترجمة بهدوء؛ صورُ "زعماء" أقل من رؤساء يعجزون عن تأليف جملة مفيدة بأية لغة. الخطابة نفسها صارت موضة قديمة، لكنه أعاد الألق للتواصل المباشر مع الناس في زمن الديجتال والتواصل الصامت أو بالصور المصطنعة بالذكاء الصناعي. زعيم حديث لزمن قادم لكن بالأسلوب الكلاسيكي، لقد توفق إلى إعادة بناء الصورة المحببة للسياسي الذي قتلته "فرق الكوم" المحترفة. لكن كل الرصيد الذي قد توفره الخطابة والحضور الكاريزمي قد يتلاشى بسرعة وينقلب أثره على صاحبه إذا لم يترافق ذلك مع نجاحات على الأرض.

هناك ضعف يحيط بممداني قد لا يحوّل النجاح إلى ممدانية (أعني تيارا سياسيا مجددا) وهو أن القاعدة الناخبة التي تحمّست للرجل هشة اجتماعيا وثقافيا وصبرها سريع النفاد، فالخيبات تذكر ببعضها وتدفع إلى الإحباط بنسق أسرع، وهذا درس متاح من جمهور الربيع العربي القصير. فجمهور الربيع طلب تحقيق طموحاته بأسرع مما تحتمل المرحلة ومن تصدى لها، فتحول الجمهور سريعا وإعادة إنتاج مآسيه (وقد علمنا لاحقا أن ممداني شهد محرقة رابعة).

تحول النجاح الفردي إلى تيار سياسي مجدِّد ممكن بشروط؛ أهمها الخروج من لحظة السعادة بالانتصار إلى البدء في تحويل الشعارات إلى برامج تنفيذية يجد الناخبون ثمرتها في جيوبهم. الوقت هنا لا يخدم لصالح ممداني، وكل تعثر أو فشل سينعكس بالضرورة على كل المواقف المعلنة والشعارات المرفوعة بما فيها الموقف من فلسطين ومن غزة. ويتذكر الفلسطيني والعربي المناصر له أن كل سياسي عربي رفع اسم فلسطين وفشل في إدارة بلده واحتقر شعبه قد حوّل القضية إلى عبء على شعبه، وليست سوريا ببعيدة.

لم يطرح ممداني تحرير فلسطين فهي ليست قضيته الأم، لكن الجمهور ربط بين تحرر في الداخل وتحرر في قضية إنسانية، وأي تراجع في هذا الربط سيجعل جمهورا كثيرا ينفض من حوله. إن صبر ممداني وإخلاصه لهذا الربط سيكلفه الكثير من العنَت، لكنه سيحوله زعيما أمميا.

هل نبالغ كعادتنا العربية في تحميل ممداني مسؤولية تحريرنا ونحن قعود؟ في إعجابنا بنجاح الرجل بعض من أمانينا بنجدة تأتي من قبله، لكن رغم نذكر أن قد صار لنا عليه حق الإخلاص لشعاراته. لقد استعمل قضيتنا في دعايته فجلبت له أنصارا منا لهم حق التصويت، وصار لزاما عليه أن يكون في مستوى شعاراته.

الممدانية وجيل زاي

في جانب آخر، تزامنت حملة ممداني الانتخابية مع أحداث نوعية في العالم؛ حركة جيل زاي في بلدين بعيدين (نيبال ومدغشقر) وفي المملكة المغربية. وقد أدت الحركتان في بلدين إلى إسقاط نظامين متكلسين وهزت الثالثة أركان الحكومة المغربية، وربما أشعرت الملك نفسه بالخطر فقد سمع كلمة جمهورية في مملكته.

لقد تبين أن حملة ممداني حملت نفسا من جيل زاي الذي يتحول إلى حركة عالمية أو نمط عالمي من الاحتجاج السياسي والفعل المدني والاجتماعي؛ يتميز بالسرعة والنجاعة والتماسك حول هدف دقيق وقابل للتحقق. وضوح الهدف خارج الأطروحات الأيديولوجية والأفكار الكبرى التي اعتاد الناس أن يصوغوا ضمنها مشاريعهم ويؤطرون فعلهم؛ بما يجعل النظريات عندهم أهم من الفعل الذي يحققها،
شعور عام ينتشر بين جهات نقرأ لها بأن الممدانية هي نقد لمسار الربيع العربي وإن لم يرد على لسانها، إنها الفكر العملي ضد التنظير أو الأصولوية النظرية. إنها احتمال ثبت بأنه يمكن إنجاز تغيير ثوري بدون نظرية ثورية، وإن كان الثائر يساريا
لكن يبدو لنا أن جيل زاي قد قلب المعادلة؛ تحديد الهدف بدقة والذهاب إليه مباشرة بواسطة حركة تفاعل وتشبيك افتراضي تخفف مشقة اللقاءات والنقاشات النظرية، والتي يبدو أن جيل زاي لا يؤمن بها وربما يحتقرها ويحتقر من يتمسك بها.

حملة ممداني كانت فيها بصمة هذا التشبيك الشبابي السريع والفعال، والذي رسم هدفا واضحا وسعى إليه بلا منعرجات جانبية في الطريق فبلغه بالصورة التي أراد، بما يسمح لنا الآن بالتفكير في أساليب العمل السياسي والتساؤل بجدية عن جدوى الأحزاب والاجتماعات الحزبية واللوائح المتقنة الصياغة وكل تلك اللغة الخشبية التي نشأ عليها الجيل العربي الذي أفشل الربيع العربي لأنه كان ثورة مخالفة لكل النظريات الثورية، فقام الجيل بلي عنق التاريخ ليتوافق الربيع مع نظرياتهم فلم يفلحوا في النظرية فأسقطوا الحرية.

شعور عام ينتشر بين جهات نقرأ لها بأن الممدانية هي نقد لمسار الربيع العربي وإن لم يرد على لسانها، إنها الفكر العملي ضد التنظير أو الأصولوية النظرية. إنها احتمال ثبت بأنه يمكن إنجاز تغيير ثوري بدون نظرية ثورية، وإن كان الثائر يساريا. وهذا أطرف ما في ممداني، اليساري الذي يطيح بالنظرية الثورية ويتقدم بلا حزب ثوري ولا يبني دكتاتورية البروليتاريا ولا يرفع الدين أفيون الشعوب، بل يشتغل ضمن نظام رأسمالي متوحش على التعديل الاجتماعي المتأني، فيثور معه المهمشون والفقراء، ويؤلف بهم تغييرا من الداخل ولا يحدثهم عن ثورة البروليتاريا.

الممدانية أو يسارية القرن الواحد والعشرين بأسلوب جيل زاي فيها من لاهوت التحرر والتسامح الديني صورة مطروحة للتأمل والنظر أمام شوارع الشباب العربي الذي غدرت به النظريات الكبرى وفشلت ثورته؛ لأنها جاءت مخالفة للكراسات القديمة اليسارية منها بالخصوص. لدينا وقت كاف لرؤية منجزات ممداني على الأرض، فلا يعلم المرء الراغب في التعلم من أين يأتيه الدرس المفيد.
التعليقات (0)

خبر عاجل