قضايا وآراء

اغتيال الجنرال الروسي ياروسلاف موسكاليك: ما علاقة الموساد؟

محمد علي صنوبري
"تنفيذ عملية بهذا الحجم في قلب موسكو لا يمكن فصله عن مسار التصعيد في الملفات الدولية المرتبطة بروسيا"- سبوتنيك
"تنفيذ عملية بهذا الحجم في قلب موسكو لا يمكن فصله عن مسار التصعيد في الملفات الدولية المرتبطة بروسيا"- سبوتنيك
في مشهد يعكس تحوّلا دقيقا في طبيعة المواجهة مع روسيا، جاء مقتل الجنرال ياروسلاف موسكاليك، نائب مدير إدارة العمليات في هيئة الأركان العامة الروسية، إثر انفجار سيارة مفخخة في إحدى الضواحي، كمعزز لفكرة أن للصراع الدولي جانبا خفيّا، وأدوات متعددة يجب تفكيكها لفهم مشهد الصراع العالمي بعد الحرب الباردة.

بعيدا عن الضجة الإعلامية المحيطة بالحادثة، فإن قراءة متأنية لطبيعتها وطريقة تنفيذها تشير بوضوح إلى أن الصراع مع موسكو قد دخل مرحلة أكثر تعقيدا، حيث لم تعد العمليات تقتصر على ميادين القتال التقليدية، بل أصبحت تلامس بنية الدولة الروسية في مستوياتها العليا.

يعد اغتيال موسكاليك، بالنظر إلى موقعه الوظيفي، أكثر من مجرد عمل انتقامي أو تكتيكي محدود. فالمسؤوليات التي كان يتولاها ترتبط مباشرة بإدارة العمليات العسكرية والتخطيط الاستراتيجي، مما يجعل استهدافه ضربة موجهة نحو القدرة العملياتية لهيئة الأركان العامة الروسية. هذا النوع من الضربات، التي تستهدف شخصيات مركزية في الهرم العسكري، لا يهدف إلى إحداث خسائر فورية فقط، بل يسعى إلى التأثير بعيد المدى عبر خلخلة منظومة اتخاذ القرار، وإضعاف الكفاءة القيادية في الأوقات الحرجة.

 قراءة هذا الحادث بمعزل عن التطورات الكبرى سيكون اجتزاء للواقع، فحرب الاستنزاف التي تُمارس ضد روسيا اليوم لم تعد تقتصر على الساحات الخارجية، بل امتدت لتضرب الرموز القيادية؛ في محاولة لإحداث أثر استراتيجي بعيد المدى. هذا النهج، الذي يعتمد على ضربات دقيقة ضد الأفراد، يمثل في جوهره اعترافا بأن المعركة العسكرية المفتوحة باتت أقل أولوية من المعركة على المعنويات، وعلى قدرة الدولة على الحفاظ على تماسك أجهزتها العليا.

ولعل من اللافت أن عملية الاغتيال هذه، تأتي ضمن سلسلة من الاستهدافات النوعية التي طالت في الفترة الأخيرة مسؤولين روسا رفيعي المستوى، بما في ذلك مقتل الفريق إيغور كيريلوف في حادث مشابه أواخر عام 2024. التكرار هنا لا يشي بعمليات منفردة أو معزولة، بل يشير إلى اعتماد نمط عملياتي محدد، يستند إلى مراقبة دقيقة للأهداف، واختيار توقيتات ومواقع مدروسة لتنفيذ الضربات دون ترك دلائل مباشرة.

من الناحية التقنية، يظهر أسلوب التنفيذ، عبر عبوة ناسفة زرعت في سيارة وتم تفجيرها عن بُعد، تشابها مع أساليب شهدتها مناطق أخرى من العالم، حيث تم توظيف هذا النمط لضرب شخصيات علمية أو أمنية في بيئات حضرية محصنة نسبيا. استخدام هذا الأسلوب في موسكو، يكشف عن قدرة على تجاوز الإجراءات الأمنية المشددة، وعن امتلاك معلومات دقيقة عن تحركات الهدف اليومية. كما يشير إلى أن المواجهة باتت تدار بأدوات خفية تعتمد على إضعاف الخصم عبر عمليات محدودة الأثر ماديا، لكنها كبيرة التأثير سياسيا وعسكريا.

المقاربة التي تعتمد على استهداف الأفراد في مواقع القيادة ليست جديدة في الحروب الحديثة، إلا أن تبنيها في مواجهة دولة بحجم روسيا يمثل تطورا ذا دلالات مهمة. فاستهداف عناصر مركزية مثل موسكاليك، يعكس قناعة بأن إضعاف الحلقات القيادية قد يكون أكثر فاعلية وأقل كلفة من الدخول في صدامات واسعة النطاق. كما أن هذا النوع من العمليات يهدف إلى نشر شعور بانعدام الأمان داخل النخبة السياسية والعسكرية، مما يؤدي إلى آثار متراكمة من الارتياب وفقدان الثقة داخل البنية القيادية.

توقيت العملية يطرح بدوره تساؤلات حول مرحلة الصراع القادمة؛ فتنفيذ عملية بهذا الحجم في قلب موسكو، لا يمكن فصله عن مسار التصعيد في الملفات الدولية المرتبطة بروسيا، خاصة مع استمرار المواجهة في أوكرانيا وتصاعد العقوبات الغربية وتوترات المشهد الأمني في مناطق أخرى. إرسال رسالة مباشرة إلى القيادة الروسية عبر استهداف جنرال من هذا الوزن السياسي والعسكري، يعني أن الأدوات المستخدمة لم تعد مقيدة بالجبهات التقليدية، بل تتسع لتشمل الداخل الروسي نفسه كمساحة مفتوحة للصراع غير المباشر.

إن قراءة هذا الحادث بمعزل عن التطورات الكبرى سيكون اجتزاء للواقع، فحرب الاستنزاف التي تُمارس ضد روسيا اليوم لم تعد تقتصر على الساحات الخارجية، بل امتدت لتضرب الرموز القيادية؛ في محاولة لإحداث أثر استراتيجي بعيد المدى. هذا النهج، الذي يعتمد على ضربات دقيقة ضد الأفراد، يمثل في جوهره اعترافا بأن المعركة العسكرية المفتوحة باتت أقل أولوية من المعركة على المعنويات، وعلى قدرة الدولة على الحفاظ على تماسك أجهزتها العليا.

إن القراءة الأعمق لعملية اغتيال الجنرال ياروسلاف موسكاليك، تقتضي عدم عزلها عن التجارب التاريخية الحديثة في ميدان العمليات السرية؛ فهناك تشابه بنيوي واضح بين الأسلوب الذي استُخدم في هذه العملية، وسلسلة الاغتيالات التي استهدفت علماء البرنامج النووي الإيراني في العقدين الماضيين، والتي نفذها جهاز الموساد الإسرائيلي.

في كلتا الحالتين، يعتمد الفاعل المجهول على أدوات متشابهة، وهي رصد دقيق للهدف لفترات طويلة، اختيار أماكن مكشوفة نسبيا رغم الإجراءات الأمنية، تنفيذ الضربة بأقل تدخل مباشر لتفادي الاشتباه السريع، ضرب شخصيات يعدّ حضورها حاسما في مشاريع استراتيجية بالغة الحساسية.

النتيجة في كلا السياقين ليست فقط تصفية شخصية مهمة، بل إحداث صدمة عضوية في بنية القرار، سواء في البرنامج النووي الإيراني آنذاك، أو داخل المؤسسة العسكرية الروسية اليوم.

غير أن الفارق الأهم يكمن في البيئة التي تجري فيها هذه العمليات، فبينما كانت إيران تخوض آنذاك سباقا حساسا على المستوى النووي، فإن روسيا اليوم في مواجهة مفتوحة مع الغرب على أكثر من جبهة، عسكرية واقتصادية واستخباراتية. ومن ثم، فإن استهداف جنرالات بحجم موسكاليك لا يمثل فقط ضربا لشخصية تنفيذية، بل محاولة لكسر الروح المعنوية داخل مؤسسة تخوض صراعا وجوديا على عدة مستويات.

الربط مع أساليب الموساد هنا ليس بقصد التشبيه الأخلاقي أو السياسي، بل هو رصد للتطور العملياتي، نموذج العمليات الانتقائية ضد الأفراد المتنفذين أصبح جزءا من الصراعات الكبرى المعاصرة التي تخوضها إسرائيل، بما في ذلك الصراع مع روسيا.

العالم قد دخل فعليا حقبة جديدة من الصراع؛ حقبة تُستبدل فيها الجيوش بالعملاء، وتُستبدل فيها المعارك المفتوحة بالضربات الانتقائية الدقيقة، وتُستهدف فيها مراكز القوة لا عبر الحصار ولا عبر القصف، بل عبر تفكيك منظومات التفكير والتخطيط نفسها، وما موسكو اليوم إلا إحدى الساحات الجديدة لهذا الصراع الطويل، الصامت أحيانا، والمدوّي في نتائجه دائما.

من زاوية استراتيجية أوسع، ما يحدث اليوم في موسكو يؤشر إلى أن الصراع الاستخباراتي لم يعد يُدار في الأطراف أو عبر العملاء الميدانيين فحسب، بل بات يستهدف النخبة في عواصم القرار ذاتها. الانتقال من تفجيرات هامشية أو عمليات تجسس إلى اغتيالات دقيقة في قلب المدن الكبرى، يدل على أن الخصوم يسعون إلى زعزعة قدرة الدول على حماية كوادرها في الداخل، وليس فقط استنزافها في الخارج.

بهذا المعنى، فإن الاغتيالات التي تطال شخصيات قيادية روسية، ليست سوى مظهر واحد من ملامح تحول أوسع:

1) صراع باتت أدواته الأساسية هي المعلومات، والضربات الانتقائية، وإنتاج شعور دائم بالخطر داخل مؤسسات الحكم.

2) يظهر النمط التاريخي لعمليات الاغتيال الإسرائيلية؛ سواء بالنسبة للعلماء النووين الإيرانيين أو القادة في حماس، على سبيل المثال لا الحصر، أنها ليست فاعلة على المدى المتوسط أو الطويل، لكن تكرار المشهد داخل روسيا يشير إلى تحولات في أسلوب إدارة الصراع الروسي الغربي ذاته، الذي أصبحت إسرائيل جزءا لا يتجزأ منه.

3) على المدى الطويل، تعتمد فعالية هذه الاستراتيجية على مدى قدرة روسيا على تحصين مؤسساتها الداخلية، وتعزيز منظومة الحماية حول شخصياتها الحساسة، ورفع كفاءة أجهزتها الاستخباراتية في التعامل مع أساليب حرب الظل الجديدة، فنجاح خصومها في تكرار هذه الضربات سيعني بالضرورة انتقال الضغوط من ميادين القتال إلى داخل غرف صناعة القرار، مما قد يُضعف تدريجيا الموقف الاستراتيجي الروسي في مواجهة التحديات الكبرى.

ختاما، فإن اغتيال الجنرال موسكاليك، بما يحمله من دلالات عملياتية وسياسية وأصابع اتهام موجهة إلى الموساد، بحسب الطبيعة التاريخية لهذا النوع من عمليات الاغتيال المنهجية، يؤكد أن العالم قد دخل فعليا حقبة جديدة من الصراع؛ حقبة تُستبدل فيها الجيوش بالعملاء، وتُستبدل فيها المعارك المفتوحة بالضربات الانتقائية الدقيقة، وتُستهدف فيها مراكز القوة لا عبر الحصار ولا عبر القصف، بل عبر تفكيك منظومات التفكير والتخطيط نفسها، وما موسكو اليوم إلا إحدى الساحات الجديدة لهذا الصراع الطويل، الصامت أحيانا، والمدوّي في نتائجه دائما.
التعليقات (0)

خبر عاجل