كتاب عربي 21

عبد الناصر بين الخبث والخبائث!

سليم عزوز
"إذا سلمنا بصحة المقطع الصوتي، فإن توقيت بثه مريب للغاية، وهو الاتجاه العام للتفريط في القضية الفلسطينية"- إكس
"إذا سلمنا بصحة المقطع الصوتي، فإن توقيت بثه مريب للغاية، وهو الاتجاه العام للتفريط في القضية الفلسطينية"- إكس
عندما هممت بكتابة هذا المقال، وجدتني في مواجهة مقدمات كثيرة له، كلها تتزاحم في رأسي، فلا أعرف أيها أختارها كمدخل، ولم يكن موضوعه مطروحا ليكون مقال هذا الأسبوع!

المقدمة الأولى: من سخريات القدر، أنه عندما أنشأت مؤسسة "الأهرام" الصحفية قسما لتاريخ المرحلة الناصرية، وأسندت رئاسته لكريمته الدكتورة هدى عبد الناصر، أستاذة العلوم السياسية، كتبتُ مقالا حمل عنوان "التاريخ لا يكتبه الأبناء"، استنكرتُ فيه الفكرة، فكيف يمكن أن ننتظر من ابنة أن تكون محايدة أو موضوعية بشأن والدها، وكل فتاة بأبيها معجبة!

وأتذكر أن المقال كان قبل أكثر من ربع قرن، وبالتحديد قبل عام 1999، لأنه كان ضمن مقالاتي الأسبوعية، وقد انتقلت منذ ذلك التاريخ لكتابة زاوية يومية!

وعندما يكون التسريب الأخير لعبد الناصر والعقيد معمر القذافي، وفيه يبدو ناصر كما لو كان عبد الفتاح السيسي، من حيث رضوخه أمام إسرائيل، ونعلم أن هذا تم من خلال قناة تديرها الأسرة (هدى وعبد الحكيم جمال عبد الناصر)، فإن ما ذهبتُ إليه لم يكن دقيقا، فالأسرة لديها استعداد كامل لنبش قبره، من أجل التماهي مع المرحلة الراهنة، فبدلا من سترهم أباهم، ها هم يجردونه من أهم ما يملك، وهو الموقف المعادي لإسرائيل!

ولم تكن هذه البداية، فقد كانت منذ اندفاع عبد الحكيم جمال عبد الناصر في استغلال اسم والده، للمشاركة في التمهيد للانقلاب العسكري على الرئيس المنتخب، ثم في تصدره المشهد للدعاية للسيسي باعتباره الامتداد الطبيعي لوالده!

ونجل الرئيس السابق ليس سياسيا، فهو مجرد رجل أعمال فاشل، بدون أي خلفية سياسية، فلما فشل في أعماله، استدار ليتاجر باسم أبيه. وكان التماهي مع المرحلة من شيمة الناصريين، وقد استشعرتُ خطر ذلك، ليس خوفا على سمعة عبد الناصر، ولكن الخوف من إدخال الغش والتدليس على العامة الذين أحبوا الرجل ويرون فيه أنه رمز البطولة والفداء، فكتبت مبكرا مقالي "الاستدعاء القسري لعبد الناصر"!

وقد واصلت هدى عبد الناصر المسيرة، فبررت التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، وقامت بالإفتاء بأنها وجدت في مستندات والدها ما يؤكد سعودية الجزيرتين! الأمر الذي يعني أنها ذهبت بعيدا عن التصور الذي رسمتُه عندما أسند إليها مركز الدراسات الخاص بوالدها، فلن تضيف إليه من أجل تكريس الصورة الذهنية الإيجابية لدى الناس، ولكنها يمكن أن تمثل بجثته من أجل مصالحها هي الخاصة!

تقدرون فتضحك الأقدار، بل وتقهقه أحيانا.

موقف راشد الغنوشي:

المقدمة الثانية: عندما سمعت بأمر التسجيل الصوتي الخاص بالرئيس جمال عبد الناصر والعقيد معمر القذافي، تذكرت موقفا قديما خاصا بتسجيل صوتي لرئيس حركة النهضة التونسية الشيخ راشد الغنوشي، ومثّل لي درسا مهما.

كان أحد التونسيون قد أرسل لي مقطعا صوتيا يخص زعيم النهضة، وبدا فيه يأخذ على مصابي الثورة وأسر الشهداء الذين يطلبون تعويضات مناسبة لهم، والعلاج على نفقة الدولة في الخارج بالنسبة للمصابين، وهو يعلق: كيف يقبضون الثمن على موقف قاموا به، وعلى دور وطني أدوه، وكأنهم في تجارة مع الوطن؟ ولم أكد أنشره مع تعليق مناسب عن هذا الذي يتعالى على من شاركوا في ثورة أعادته لبلاده معززا مكرما، وكأن دور الثوار في أن يسلموه الثورة ثم يذهبون غير مأسوف عليهم!.. حتى بدا كما لو كانت هناك لجان تنتظر نشري، لأجده انتشر انتشارا سريعا عبر منصات التواصل الاجتماعي، إلى أن نبهني أحد الأكاديميين التونسيين إلى أن المقطع مجتزأ، فقد حُذفت مقدمته، وفيها أن الغنوشي يستنكر من يقولون ذلك، ويرفضون أن تعالج الدولة الجديدة المصابين، وتكافئ أسر الشهداء، لكن بحذف المقدمة بدا أن المقولة للغنوشي!

وقد لا يكون المقطع الصوتي الخاص بعبد الناصر والقذافي محرفا، ولكنه معزول عن سياقه، وبدون السياق تصبح دراسة التاريخ عبثا، ولو صح الفيديو لكنا في سياق الموافقة المصرية على مبادرة روجرز، التي قبلتها مصر واعترضت عليها إسرائيل، وحشد البعث العراقي بعض القادة العرب في اتجاه المعارضة الشديدة لعبد الناصر.

ما بين أحمد الشرع وعبد الناصر:

المقدمة الثالثة: كنت قد أعددت العدة للكتابة اليوم عن الحكم السوري الجديد، وأنا أتابع فجيعة البعض فيه، فلم يعد خصوم الثورات وأنصار النظم البائدة هم من يحملون على أحمد الشرع، ففي هذا الأسبوع انتقل العداء له من معسكره، أو ما كنا نتصور أنه معسكره، بعد اعتقال من يمثلون المقاومة من حركة الجهاد الإسلامي في دمشق، وبعد تصريحات منسوبة لوزير الخارجية السوري يؤكد فيها إنهم لا يريدون الدخول في عداء مع إسرائيل!

وإذ قررت تقديم محاولة لفهم طبيعة النظام السوري الجديد، باعتبار أن من مهام الكاتب الشرح والتفسير، وبدون إنحيازات لا أنفيها للتجربة السورية، ودون انخراط في التأييد الأعمى، فلا أتصور نفسي في حضرة الشرع، وزيارة الشام ليست مطروحة على جدول أعمالي.

وإذ قررت العدول عن الكتابة حول هذه الفكرة -على الأقل هذا الأسبوع- فقد راعني أن هناك ما يربط بين فكرة المقالين وهو عبد الناصر! فالذين أصيبوا بخيبة أمل في الشرع لأنه لم يعلن الحرب على إسرائيل، ولم يتصد لتحرشه بها، بل ويقدم "عربون محبة" بأنهم يبحث عن السلام معها، لم يستوعبوا أخطاء عبد الناصر، الذي لم يستوعب أن حكمه في بدايته، وأن جيشه مكشوف للمخابرات البريطانية في اليمن، فكانت هزيمة 1967.

ولعل الشرع استوعب التجربة الناصرية، التي لم تكن بعيدة عن باله، ووالده ناصري قومي، ولعله استوعب نهايتها عندما قبل عبد الناصر بمبادرة وزير الخارجية وليام روجرز بوقف إطلاق النار لمدة 90 يوما، مع عودة الأراضي التي احتلتها إسرائيل بعد عدوان 1967، والتي انتهت في شباط/ فبراير 1971، بإعلان مصر رفضها لها، نتيجة التعنت الإسرائيلي، واللافت هنا أن الإلغاء حدث في عهد السادات!

فلماذا تهاجم إعلان عبد الناصر العداء لإسرائيل دون أن يكون مستعدا لذلك، وأنه مجرد مسدس صوت.. وفي نفس الوقت تريد من الشرع أن يدخل على خط النار بتجربته الوليدة، وبدون جيش حقيقي، ويخضع لمنطق الحماس، الذي وضع عبد الناصر في مذلة قبوله بمبادرة روجرز، من أجل استعادة الأرض المحتلة؟! إن البعض لا يفرق بين إدارة الدول، وإدارة صفحة على منصة "فيسبوك"!

أنا والناصرية:

المقدمة الرابعة: لا يغني حذر من قدر، فها أنا أتقدم دفاعا عن عبد الناصر، وقد اتُهمت بأنني ناصري، رغم أنني لم أضبط متلبسا بأي ميول ناصرية، بل أجدني أكثر انحيازا لتجربة ما قبل ثورة 1952، في جانبها الخاص بحزب الوفد الذي تكالبت عليه الدنيا؛ الملك وأحزاب الأقلية بعد الثورة، والضباط والإخوان والشيوعيون بعدها!

ولا أنفي الفساد السياسي في مرحلة الملك، لكن هذا الفساد كان الوفد من ضحاياه، وكان يمكن البناء على هذه التجربة، ولو حدث لوصلنا إلى تعددية حقيقية، ولكنا في مقدمة التجارب الديمقراطية الرصينة في العالم، لكن جرى ما جرى بحل الأحزاب، وإلغاء البرلمان، واستحداث تجربة المحاكم الاستثنائية!

وفي رأيي، الذي كتبته ولم أسلم من الاتهام بالناصرية، أن ثورة 1952 هي ثورة مضادة على ثورة 1919، التي كانت تحقق نجاحاتها بالتنقيط وليس بالغمر! فما الحال الآن وأنا أدافع عن تجربة المرحلة الناصرية في تكريس العداء للكيان الإسرائيلي، وبنى عبد الناصر على ذلك شرعيته، وهي مرحلة بدأت قبل ذلك، لكن ثوار يوليو من الضباط، اعتبروا أن دور حكومات قبل الثورة كان مؤامرة على القضية الفلسطينية، ولهذا قاموا بثورتهم.

التوقيت والتوظيف للمقطع الصوتي:

وبعيدا عن المقدمات، فلم يعد لنا الكثير لنقوله، فلنسلم بصحة المقطع الصوتي لعبد الناصر في حديثه للقذافي؛ تسليمنا بأن كثيرين من خصوم عبد الناصر تمنوا صحته، ليجردوا عبد الناصر من امتياز له، وهم امتداد لعملية الفُجر في الخصومة التي بدأها الأولون ولا بأس بذلك، فقد رأوا العذاب على يديه وتقطعت بهم الأسباب، فذهبوا ليرموه بكل نقيصة، من أول العداء للدين. وفي مرحلة سابقة كنت أطالع كتابات البعض فأجدهم يحاولون اصطياد أي نجاح يحسب للتجربة ثم يندفعون في تفنيدها لينتهوا تماما إلى أنها مؤامرة، حتى السد العالي حولوه لجريمة لأن الأراضي المصرية خسرت خصوبتها بسبب حجز الطمي خلف السد.. وهكذا!

إن فكرة العداء لإسرائيل تم ترسيخها في المرحلة الناصرية، وإن هُزم عبد الناصر، حتى انتهى واقعيا بهذه الهزيمة، فإنه لم يكن في نيته تغيير سياساته هذه، وقد أذل نفسه في التعامل مع الروس من أجل بناء الجيش المصري، وقد كانوا بعد الحرب يتعاملون معه بصلافة، مما دفع الرئيس الجزائري لأن يقول لهم إنه مستعد لتوقيع شيك على بياض ثمنا لتسليح الجيش المصري ولا يعامل عبد الناصر بهذا الشكل المهين!

ثم إن الحرب لم تنته بالهزيمة، فكانت حرب الاستنزاف، التي أثبت فيها الجيش المصري بسالة منقطعة النظير، وواجه الطيران الأمريكي المتطور بنجاحات مهمة، لكنها حرب ليس بمقدورها تحرير الأرض، وهو ما كان شغل عبد الناصر الشاغل لذا فقد أمسك في اتفاقية روجرز بيديه وأسنانه!

وكان هناك عداء إقليمي لهذه الخطوة، لكن عبد الناصر كان يدرك أنه يتجرع السم باستمرار الأرض تحت الاحتلال، ومن يده في الماء ليس كمن يده في النار!

أمريكا زمان:

وهناك نقطة غائبة عن الأذهان هنا، وهي أن أمريكا في هذه الفترة لم تكن كأمريكا الآن بعد أن تجلى وجهها الاستعماري، وعندما يكتب محمد جلال كشك عن ثورة يوليو الأمريكية فهو يأخذ الموضوع بعيدا عن سياقه، فالأمريكان لم يكونوا يحتلون مصر، وكانت الدول المحتلة دائما ما تستند على قوى خارجية لمواجهة العدو الجاثم على الأنفاس، لدرجة أن من بين المصريين من أيدوا هتلر، باعتباره الأمل في هزيمة الإنجليز! وفي تلك الفترة لم يجد مصطفى مؤمن، رئيس اتحاد الطلبة من الإخوان، حرجا في أن يخاطب أمريكا بـ"زعيمة العالم الحر".

وعندما وقع العدوان الثلاثي على مصر، فإن الولايات المتحدة الأمريكية هي من وقفت مع مصر وأجبرت الدول الثلاث: بريطانيا وفرنسا وإسرائيل؛ على الرحيل، ولعل هذا الموقف هو ما جعل عبد الناصر يتصور أنه لن يكون مسموحا أمريكيا لإسرائيل بأن تبدأ بالعدوان!

فهذه هي النظرة إلى أمريكا في هذه المرحلة، بكل مكوناتها، التي جمع بينها مشترك واحد هو التخلص من الوفد، أما نظرتي لها فإن أمريكا كانت في طريقها لوراثة الإمبراطوريات القائمة، وتحتاج لاحتلال غير مباشر وغير مكلف، ومع وجود طغمة حاكمة تحقق أهداف المستعمر بدون حضوره، ولم تكن منحازة لإرادة الشعب، فكان الانقلاب العسكري الذي لم يكن كثير من خصوم عبد الناصر في وقت لاحق بعيدين عنه وعن أهدافه، وعلى الأخص القضاء على أغلبية الوفد!

ونأتي إلى بيت القصيد، فاذا صح المقطع الصوتي المنسوب لعبد الناصر والقذافي، فإنه جزء من حديث رسمي عمره أكثر من نصف قرن، فلماذا لم يتم الاحتفاء به، والرئيس السادات كان في مسيس الحاجة إليه لتبرير قفزته في الهواء بالسلام مع إسرائيل، وهي التي مثلت نهاية السادات واقعيا، وزيادة المعارضة له، وفي القلب منها المعارضة اليسارية؟ ولماذا لم يحتم بها اليساريون الذين انخرطوا في التطبيع في المرحلة التالية لذلك، لطفي الخولي وغيره؟!

وإذا سلمنا بصحة المقطع الصوتي، فإن توقيت بثه مريب للغاية، وهو الاتجاه العام للتفريط في القضية الفلسطينية، فلا يقدر على القدرة إلا القادر، وعبد الناصر نفسه رضخ، فلماذا يعود النظام الحالي من حيث بدأ عبد الناصر وليس من حيث انتهى؟ ومن هنا سيكون التبرير ليس للنظام المصري وحده ولكن للتوجه العام للأنظمة العربية كلها، ولدى أسرة عبد الناصر سوابق في التماهي مع السلطة، ولو سلبوا والدهم كل قيمته، وباعوه في سوق النخاسة! ثم يدفعك عداؤك لعبد الناصر أن تؤوب معهم!

إنه عبد الناصر بين الخبث والخبائث!

x.com/selimazouz1
التعليقات (0)

خبر عاجل