قضايا وآراء

تحوّل في الخطاب الهولندي تجاه الاحتلال الإسرائيل

أمين أبو راشد
إن هولندا، بتاريخها السياسي والحقوقي، مطالبة اليوم بأكثر من مجرد "تحقيق". المطلوب هو موقف.. (الأناضول)
إن هولندا، بتاريخها السياسي والحقوقي، مطالبة اليوم بأكثر من مجرد "تحقيق". المطلوب هو موقف.. (الأناضول)
برونك نموذجاً لتحوّل النخبة السياسية

تشهد الساحة السياسية الهولندية تطوراً غير مسبوق في الخطاب والمواقف بشأن قضية فلسطين. تجلّى ذلك لدى أحد أبرز رموز النخبة السياسية، الوزير السابق يان برونك (Jan Pronk)، الذي وجّه انتقادات غير معهودة للسياسات الحكومية الهولندية تجاه الاحتلال الإسرائيلي خلال فعالية إحياء ذكرى النكبة الفلسطينية في كنيسة الدومينيكان بأمستردام، في الخامس عشر من مايو/ أيار الجاري.

برونك، الذي شغل مناصب وزارية متعددة ويمتلك سجلاً سياسياً حافلاً يمتد منذ السبعينات، تحدث بلغة واضحة وصريحة، منتقداً بشدة مبادرة وزير الخارجية الحالي كاسبار فيلدكامب بفتح تحقيق حول التعاون الأوروبي مع الجانب الإسرائيلي، معتبراً أن "الحقائق معروفة ولا تحتاج إلى تحقيق، بل إلى قرارات سياسية جريئة لإنهاء النكبة المستمرة منذ 77 عاماً.

خطوة الوزير فيلدكامب.. بداية تحوّل

رغم الانتقادات، لا يمكن إغفال أن مبادرة وزير الخارجية الهولندي بالدعوة إلى فتح تحقيق في طبيعة التعاون الأوروبي مع الجانب الإسرائيلي تمثل تطوراً لافتاً في السياسة الخارجية الهولندية. فالموقف الهولندي الرسمي لطالما اتسم بالانحياز شبه التلقائي للسياسات الإسرائيلية، سواء عبر الدعم الدبلوماسي أو الاقتصادي أو في مواقف الاتحاد الأوروبي. أن تأتي هذه الخطوة من رأس الدبلوماسية الهولندية، فهي بحد ذاتها فتح لملف ظل مغلقاً لعقود.

كان لهذه الخطوة ما بعدها في الساحة الأوروبية، فقد أشار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى مبادرة فيلدكامب، معتبراً إياها "خطوة إيجابية تستحق المتابعة"، وهو ما يعكس اتجاهاً أوروبياً بدأ يضيق ذرعاً بسياسة غض الطرف عن الجرائم والانتهاكات الإسرائيلية.

رغم الانتقادات، لا يمكن إغفال أن مبادرة وزير الخارجية الهولندي بالدعوة إلى فتح تحقيق في طبيعة التعاون الأوروبي مع الجانب الإسرائيلي تمثل تطوراً لافتاً في السياسة الخارجية الهولندية. فالموقف الهولندي الرسمي لطالما اتسم بالانحياز شبه التلقائي للسياسات الإسرائيلية، سواء عبر الدعم الدبلوماسي أو الاقتصادي أو في مواقف الاتحاد الأوروبي. أن تأتي هذه الخطوة من رأس الدبلوماسية الهولندية، فهي بحد ذاتها فتح لملف ظل مغلقاً لعقود.
ومع ذلك، رأى الوزير الهولندي السابق يان برونك أنّ فتح تحقيق لا يكفي، مشدداً على ضرورة الانتقال من مستوى التقييم إلى مستوى الفعل السياسي المباشر، عبر اتخاذ خطوات ملموسة تنهي واقع النكبة، لا مجرد وصفه أو إعادة النظر فيه.

تحوّل بنيوي في الخطاب

هذا التغير في نبرة الخطاب السياسي ليس حادثاً فردياً أو انفعالاً آنياً، بل يعكس – على ما يبدو – بداية تحوّل بنيوي في نظرة بعض أوساط النخبة السياسية الهولندية إلى العلاقة مع الاحتلال الإسرائيلي. والأهم من ذلك، أن هذا التغيير يصدر عن شخصية تتمتع برأسمال سياسي ومؤسسي كبير، لا يمكن تجاهله أو التقليل من أثره.

سيرة سياسية زاخرة

لمن لا يعرف يان برونك، فإن تاريخه السياسي يجعل من تدخّله الراهن حدثاً بالغ الدلالة، فهو نائب في البرلمان منذ 1971 لأربع دورات متتالية، وتقلّد وزارة التعاون والتنمية مرتين (1973-1977 و1989). واختير وزيراً للدفاع عام 1991، ووزيراً للإسكان والتخطيط عام 1998.

كان عُيِّن مبعوثاً خاصاً للأمم المتحدة للتنمية المستدامة عام 2001، ثم مبعوثاً إلى السودان عام 2004.
ثم إنه رئيس مجلس الكنائس المشتركة في هولندا (2008-2011).

ويبقى أنه أحد أبرز وجوه حزب العمال الهولندي (PvdA) منذ انضمامه إليه عام 1964، وهو الحزب الذي لعب دوراً محورياً في صياغة ملامح السياسة الاجتماعية والدولية لهولندا بعد الحرب.

لم يكن برونك يوماً جزءاً من التيارات الشعبوية، بل من أركان المؤسسة السياسية، ما يجعل موقفه الأخير خطوة نوعية في مضمونها وتوقيتها.

بداية مرحلة جديدة

يطرح هذا الموقف المستجدّ تساؤلاً استراتيجياً: هل باتت المؤسسة السياسية الهولندية جاهزة لإعادة تقييم موقفها من القضية الفلسطينية بمعايير سياسية جديدة تنطلق من التزامات أخلاقية وإنسانية تجاه القيم الأساسية وما تقتضيه من مواقف نحو فلسطين وشعبها وحقوقه المغتصبة؟

قد يقدح تصريح برونك الشرارة الأولى في لحظة مراجعة أوسع، تتجاوز حدود التعاطف إلى طرح أسئلة سياسية حقيقية حول مشروعية الشراكة مع الاحتلال، والمسؤولية الأخلاقية لهولندا كدولة عضو في الاتحاد الأوروبي.

إن هولندا، بتاريخها السياسي والحقوقي، مطالبة اليوم بأكثر من مجرد "تحقيق". المطلوب هو موقف.
التعليقات (0)