قضايا وآراء

الهوية الجزائرية بين العروبة والأمازيغية.. نحو فهم متوازن للخلاف

جمال الدين طالب
تعيش الجزائر، للأسف، حالة من الازدواجية والاضطراب الهوياتي المفروض أيديولوجيًا، تُنتج مواقف متناقضة ومشهدًا مرضيًا من "الفصام الثقافي".
تعيش الجزائر، للأسف، حالة من الازدواجية والاضطراب الهوياتي المفروض أيديولوجيًا، تُنتج مواقف متناقضة ومشهدًا مرضيًا من "الفصام الثقافي".
في مقالي السابق، تناولت قضية سجن المؤرخ الجزائري محمد الأمين بلغيث بسبب تصريحاته في قناة "سكاي نيوز" التي وصف فيها الأمازيغية بأنها صناعة "صهيونية فرنسية". وأؤكد مجددًا رفضي المبدئي لسجنه، مفضلًا مناقشة أفكاره والرد عليها بالحجة.

لكن اللافت هو تعاطف مفاجئ من محسوبين على التيار العروبي الإسلامي وبعض "النخب" السياسية والجامعية، الذين سارعوا إلى الدفاع عنه لأسباب إيديولوجية، رغم صمتهم المريب عن انتهاكات سابقة طالت جزائريين، بينهم أكاديميون، بسبب آرائهم أو نشاطهم السلمي، حتى من داخل تيارهم.

والمفارقة أن هذا التيار يزعم الدفاع عن "الثوابت الوطنية"، التي تشمل بحسب الدستور الإسلام والأمازيغية والعروبة، لكنه لا يعترف عمليًا إلا بالإسلام والعروبة، في تجاهل واضح للأمازيغية. وفيما يلبس التيار البعثي أفكاره لباس الدين وفق رؤية عفلق، يزايد الإسلاميون بالدين نفسه، لكنهما يلتقيان في عدائهما التاريخي للأمازيغية، المكون الأصيل لهوية الجزائر.

أنا ضد كل أشكال الإقصاء و"الدجل الهوياتي"، وقد عبّرت عن ذلك منذ سنوات، حين صدر في الجزائر كتاب جماعي بعنوان "الجزائر العربية.. لننهِ هذا الدجل!"، تزيّن غلافه بكاريكاتير عنصري يُظهر شخصًا خليجيًا يرتدي العقال ويمسك بشعار حرف "زاي" الأمازيغي، في إسقاط مباشر يربط العروبة في الجزائر باللباس الخليجي، رغم أن أبرز دعاة العروبة البعثية في الجزائر هم في الأصل أمازيغ.
وفي مقابل هذين "القرينيين" هناك "قرين" ثالث في الجزائر، يشكل الوجه الآخر لنفس عملة التطرف الإقصائي، وهو التيار الذي ربما أفضل توصيف له هو التيار "البربريستي" المتطرف، الذي لا يقل تطرفا وإقصاءَّا من قرينة "البعثوـ إسلامي". هذا التيار يتاجر سياسيا وثقافيا بالهوية الأمازيغية، وفي أحيان عدة ليس من المبالغة من القول ببعد "فرانكوـ بربريست"، وبحقد معلن ضد العربية والإسلام، وحرص على الحفاظ على نفوذ اللغة والثقافة الفرنسية أكثر من اللغة والثقافة الأمازيغية نفسها.

في المقابل هناك أصوات كثيرة عاقلة من الذين يتشبثون بهويتهم الأمازيغية، وببعدي الهوية الجزائرية الأخرى الإسلام والعروبة، وعلى ضرورة تعايش هذه الأبعاد الثلاثة مع تصالح مع الذات بدون اقصاء وتقبل بأريحية هذه الهوية التاريخية المركبة، التي قبلها الشعب الجزائري لتراكمات تاريخية وإرادة طوعية، جعلت قطاعا واسعا، بل هو الغالبية الآن من الجزائريين الأمازيغ في جوهرهم، جينيا وثقافيا، يتبنون العروبة ثقافيا، والعربية لغة برابط ديني إسلامي قوي.

بينما هناك قطاع واسع أيضا من الجزائريين الذين يتمسكون بهويتهم ولغتهم الأمازيغية بدون إقصاء أو تشويه ومزايدة عليهم كما يفعل بعض "تجار المزايدات البعثوـ إسلامية"، الذين ارتفعت أصواتهم، وأصبحوا يتحدثون عن حرية الرأي والتعبير مع قضية بلغيث، كما ارتفعت في نفس القضية ومن الجهة المقابلة الأصوات "البربريسيتة" المتطرفة، التي "ناقصت" على موضوع حرية التعبير والرأي بعدما كانت "تزايد" فيها.

أنا ضد كل أشكال الإقصاء و"الدجل الهوياتي"، وقد عبّرت عن ذلك منذ سنوات، حين صدر في الجزائر كتاب جماعي بعنوان "الجزائر العربية.. لننهِ هذا الدجل!"، تزيّن غلافه بكاريكاتير عنصري يُظهر شخصًا خليجيًا يرتدي العقال ويمسك بشعار حرف "زاي" الأمازيغي، في إسقاط مباشر يربط العروبة في الجزائر باللباس الخليجي، رغم أن أبرز دعاة العروبة البعثية في الجزائر هم في الأصل أمازيغ.

المفارقة أن الفكر البعثي لم ينبع من بيئة خليجية تقليدية، بل من أنظمة قومية عسكرية في العراق وسوريا، تمثلت في صدام حسين والأسد، بشعار "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة"، وهؤلاء دعمهم ـ بغرابة ـ بعض المحسوبين على التيار "البربريستي" بدعوى أنهم علمانيون ومعادون للإسلاميين، مما أدى لتحالفات متناقضة بين بعثيين وإسلاميين!

إن تطرف التيار "البربريستي" في معاداته للعربية والعروبة مرفوض، كما أن التهجم من بعض الجزائريين على عرب الخليج مرفوض بدوره، خاصة أن هذه الدول الصحراوية سابقًا، طورت نفسها وأصبحت وجهة يحلم كثير من الجزائريين بالعيش فيها، ويتابعون قنواتها ويخوضون فيها نقاشاتهم.

بينما تعيش الجزائر، للأسف، حالة من الازدواجية والاضطراب الهوياتي المفروض أيديولوجيًا، تُنتج مواقف متناقضة ومشهدًا مرضيًا من "الفصام الثقافي".

*كاتب صحافي جزائري
التعليقات (0)

خبر عاجل