تقارير

الموحّدون الدروز في لبنان.. سرّ العقيدة وعلنية الدور وثنائية القيادة

تُعتَبرُ طائفة الموحدين الدروز في لبنان مثالًا نادرًا على أقلية صغيرة الحجم، قوية التأثير، نجحت في صيانة هويتها واستمرارها وسط محيط متغيّر وصراعات كبرى.. جيتي
تُعتَبرُ طائفة الموحدين الدروز في لبنان مثالًا نادرًا على أقلية صغيرة الحجم، قوية التأثير، نجحت في صيانة هويتها واستمرارها وسط محيط متغيّر وصراعات كبرى.. جيتي
يشبه لبنان متحفاً حيّاً للطوائف، وفسيفساء مذهبية فريدة من نوعها في محيطه العربي. وقد اتسم تاريخه بالتداخل بين الدين والسياسة، والصراعات على النفوذ وحفظ الهوية، ما جعل منه حالةً فريدةً في الشرق الأوسط، أو ربما استثناءً تاريخياً في تشكيله الطائفي المتنوّع الذي يتجاوز الصورة التقليدية لطوائفه الكبرى المعروفة، والتي لعبت أدواراً محورية منذ استقلاله، مروراً بالحرب الأهلية، وصولاً إلى مرحلة ما بعد اتفاق الطائف (1989). إذ تختزن ذاكرة هذا البلد الصغير تنوعاً مذهلاً لطوائف ومذاهب، بقي بعضها مجهولاً للكثيرين، تُشكّل جزءاً لا يتجزأ من نسيجه الاجتماعي والثقافي والتاريخي. وفي ظلّ تجاهل إعلاميّ معتاد، بقيت هذه الطوائف في الظلّ، رغم ما تحمله من إرث غنيّ وقصص غير مروية، ودورٍ لا يُستهان به في تشكيل الهُوية اللبنانية، والتأثير على المشهد السياسي والاجتماعي.

ينشر موقع "عربي 21" سلسلة مقالات بعنوان "لبنان متحف طوائف الشرق الأوسط"، يستهلّها بالتعرف إلى طائفة الموحّدين الدروز، في محاولةٍ جادة وعميقة لإلقاء الضوء على هذه الطوائف، واستكشاف خصائصها وتاريخها وتراثها، والحديث عن الدور الذي لعبته وتلعبه اليوم في الواقع اللبناني، بعيداً من الصور النمطية والأحكام المسبقة. هذه السلسلة ليست مجرد بحثٍ معرفي، بل هي جولةٌ بين مكوّنات مجتمعٍ زاخر بالتنوع، لا يزال رغم صراعاته قادراً على البقاء كأحد أغنى نماذج التعددية في منطقتنا.


يشكّل الدروز في لبنان مكوّناً اجتماعياً وسياسياً فاعلاً، يتمتع بخصوصية دينية وبحضور سياسي أقوى من حجمه الديمغرافي. فبرغم أن عددهم في لبنان لا يتجاوز 5.2% من إجمالي السكان، إلا أن تأثيرهم في الحياة السياسية كان وما زال حاضراً في محطات مفصلية من تاريخ لبنان، ما يجعلهم موضوعاً دائماً للبحث والتحليل، خصوصاً في ظل التحولات الإقليمية حيث شهدت السنوات الأخيرة مؤشرات على تقارب تدريجي بين إسرائيل وبعض أفراد الطائفة الدّرزيّة في كلٍّ من الجولان السوري وفلسطين المحتلة، ما أثار تساؤلات عن إمكانية أن يمتدّ هذا التّقارب إلى دروز لبنان، أو يؤثّر على موقعهم السياسي ومواقفهم الإقليمية.

الهوية الدينية

ينتمي الدروز إلى مذهب ديني مستقلّ نشأ في أوائل القرن الحادي عشر الميلادي، وتحديداً في عهد الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله (996–1021م) في مصر. وقد بدأت الدعوة الدرزية سنة 1017م، بقيادة حمزة بن علي بن أحمد، الذي يُعدّ المؤسس الفعلي للفكر الدرزي، إلى جانب دعاة آخرين مثل محمد بن إسماعيل نشتكين الدرزي، الذي تُنسَبُ الطائفة إليه مجازاً رغم أنه لم يكن مقبولاً من التيار الأساسي داخل الطائفة. ورغم أن الطائفة خرجت من رحم المذهب الإسماعيلي الفاطمي، فإنها تطوّرت لاحقاً إلى عقيدةٍ قائمةٍ على "التوحيد الفلسفي" ورفْض ظاهر الشريعة والطقوس الشكلية.

ويعرّف الدروز أنفسهم باسم الموحدين، أو "بنو معروف"، وهو اسم لقبيلة عربية اعتنقت مذهب التوحيد منذ بداياتها. ويؤمنون بـ "عهد وليّ الزمان" أو "الميثاق الدرزي" وهو التزام ديني وروحي يشكّل حجر الأساس في علاقتهم بالله والقيادة الروحية. ويُعتبر هذا العهد رمز الولاء الروحي التام للإمام الغائب، الذي ذهب ذات مساء الى جبل المقطم في القاهرة على ظهر حماره، واختفى ولم يعثر أحد على جثته من بعد، وهو بحسب العقيدة الدرزية، الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله الذي يُعتبر التّجلي الإلهي الأخير، ويُنتظر ظهوره في الزمان الموعود.

يعرّف الدروز أنفسهم باسم الموحدين، أو "بنو معروف"، وهو اسم لقبيلة عربية اعتنقت مذهب التوحيد منذ بداياتها. ويؤمنون بـ "عهد وليّ الزمان" أو "الميثاق الدرزي" وهو التزام ديني وروحي يشكّل حجر الأساس في علاقتهم بالله والقيادة الروحية. ويُعتبر هذا العهد رمز الولاء الروحي التام للإمام الغائب، الذي ذهب ذات مساء الى جبل المقطم في القاهرة على ظهر حماره، واختفى ولم يعثر أحد على جثته من بعد، وهو بحسب العقيدة الدرزية، الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله الذي يُعتبر التّجلي الإلهي الأخير، ويُنتظر ظهوره في الزمان الموعود.
الميثاق ليس نصاً منشوراً للعموم، بل يُحفظ ضمن تعاليم "رسائل الحكمة"، ويُلقّن للعقلاء فقط. لكن وفقاً لما أورده الباحث في العقيدة الدرزية سامي مكارم في كتابه "الإيمان الدرزي" فإن هذا العهد يتضمن المبادئ التالية: الطاعة الكاملة لله و"وليه"، الإيمان بوحدانية الخالق، الالتزام بالصدق والوفاء، حفظ أسرار العقيدة وعدم إفشائها، الامتناع عن المحرمات الأخلاقية، نصرة الحق ورفض الظلم. وتُعتبر خيانة العهد من أكبر المحظورات في العقيدة الدرزية، قد تؤدي إلى نبذ اجتماعي وديني.

هذا علماً أن مجموعة من المبادئ التي تندرج ضمن ما يُعرف بـ"الحكمة"، هي نصوص باطنية عددها نحو 111 رسالة، تفيد في المحصّلة بأن جوهر الدّين هو "التوحيد الخالص" لله، من دون وسطاء أو شعائر، وأن الغاية من الحياة هي معرفة الحقيقة الإلهية بالعقل لا بالمظاهر.

وتشمل العقائد الأساسية ما يلي:

ـ التناسخ (التقمص): وهو الإيمان بأن النفس البشرية تنتقل من جسد إلى آخر بعد الموت، ما يربط بين الأخلاق الفردية والمصير الروحي.

ـ رفض العبادات الظاهرية (التكليف): الصلاة والصوم والحج، هي ممارساتٌ لا تمثل الغاية من الدين، بل الحكمة والمعرفة هي الأساس.

ـ السرّية والانغلاق: لا يُسمح لغير الدروز باعتناق الدين الدرزي، ولا يُكشف عن تفاصيل العقيدة إلا لـ"العُقّال"، وهم النخبة الدينية المتفرغة للتعليم الروحي.

ـ الإيمان بالقيادة الروحية التاريخية: وعلى رأسها الحاكم بأمر الله، الذي يُعتبر "التجلي الإلهي" الأخير بحسب العقيدة.

غير أن الغموض يحيط بجوانب أخرى من العقيدة لأن مؤسّسيها اختاروا عدم البوح بها واقتصار المعرفة بها على دائرة ضيقة جداً، وتقول السردية المتعارف عليها في لبنان إن "تعليم العقيدة لا يكون إلا لمن بلغ سنّ الأربعين من أبناء الطائفة" رغم نفي البعض لهذه السردية وزعمهم أنّ الفكرة نُشرت عمداً من أجل إثناء الناس عن السؤال المُلحّ عن العقيدة والتعاليم وعن سبب سرّيتها.

ولعلّ أبرز ما يميّز العقيدة الدرزية هو تركيزها على "الولاء للدولة التي يعيش فيها الدروز". ويُعتبر هذا المبدأ من أبرز أسباب التباين في مواقف الدروز بين لبنان وسوريا وفلسطين، حيث تُظهِر كل جماعة درزية مواقف وطنية منسجمة مع السياق السياسي للدولة التي تُقيم فيها، ويُختصر موقفها بشعار "الحفاظ على الأرض والعرض". وقد ساعد هذا البند العقائدي في ضمان بقاء الطائفة واستمرارِها رغم صغر حجمها وانغلاقها، إذ ركّزت على النجاة الجماعية عوضاً عن الانخراط في صراعات دينية أو مذهبية أوسع.

الحياة الاجتماعية

تركّز الوجود الدرزي تاريخياً في جبل لبنان وتحديداً في منطقتَي الشوف وعاليه، وكذلك في جنوب شرق لبنان وتحديداً في حاصبيا وراشيا. ويُقدَّر عددهم بنحو 400 ألف شخص، ما يعادل نحو 5.2% من سكان لبنان.

وحافظ أبناء الطائفة على روابط داخلية قوية قائمة على التضامن والتكافل، وبرزت من بينهم شخصيات في مجالات السياسة والفكر والفن والتعليم والإدارة العامة. ورغم التحولات الاجتماعية، ما زالت العلاقات العائلية والقرابية تلعب دوراً محورياً في بنية المجتمع الدرزي.

فمنذ قرون، شكّلت العائلة النواةَ الأولى في البنية الاجتماعية الدرزية. فالعلاقات ليست مجرد قرابة دموية، بل روابط مصير وشرف وتكافل. ويُقال في التراث الشعبي: "الدّرزي بيستر عِرضُه وما بيستر خبزه" في تعبير يُظهر التداخل بين الولاء العائلي وأخلاق الكرم والضيافة. وتبرز سردية شعبية عن الضيافة في جبل لبنان، تفيد بأن الأمير الدرزي فخر الدين المعني الثاني ثم لاحقاً زعامات آل جنبلاط، كانوا لا يُقفلون أبواب القصر حتى في الليل، ويوكلون مهمّة استضافة الغرباء إلى أحد العاملين في القصر، لأنّ كلّ محتاج أو عابر سبيل يمكنه الدّخول إلى باحة القصر وطلب الطعام والمأوى.

ويُروى في قرى البقاع الغربي أن شيخاً من العقّال يُدعى الشيخ أبو علي حسن، جاءه أحد الفقراء طالباً أن يعمل عنده لقاء رغيف خبز كل يوم، فأجابه الشيخ: "الشغل شرف مش مِنّة، وما بتهين كرامتك بلقمة". وما زالت هذه القصة تُروى للأبناء كدليل على مكانة الكرامة الشخصية في السلوك الاجتماعي الدرزي، ورفض "الاستجداء" حتى في أشد لحظات الفقر.

وتحافظ بعض القرى الدرزية حتى اليوم على "المَضافة"، وهي مجلسٌ عام تُعقد فيه الاجتماعات، وتُناقَش فيه الشؤون العائلية، وتُحَلّ النزاعات من دون قضاء رسمي. ويُقال إن أحد وجهاء بلدة بعقلين قال ذات مرة: "الدروز ما بيعرفوا دولة، بيعرفوا ضمير الشيخ" وهي عبارة تُلخّص الثقة الكبيرة بـ"الوجهاء العقال" الذين يتوسّطون لحل النزاعات، ويُعتبر كلامهم أقوى من القانون المدني.

حافظ أبناء الطائفة على روابط داخلية قوية قائمة على التضامن والتكافل، وبرزت من بينهم شخصيات في مجالات السياسة والفكر والفن والتعليم والإدارة العامة. ورغم التحولات الاجتماعية، ما زالت العلاقات العائلية والقرابية تلعب دوراً محورياً في بنية المجتمع الدرزي.
ويُشار في هذا السياق إلى أنّ البنية الاجتماعية الدينية للموحّدين الدّروز تنقسم إلى ثلاث فئات هي:

ـ العُقّال (الملتزمون): هم الذين يُسمح لهم بالاطلاع على تعاليم "الحكمة"، ويلتزمون بأسلوب حياة صارم يتضمن الزهد والعفة والصدق وضبط النفس والانقطاع عن الملذات الدنيوية، ويتميز مظهرهم باللباس التقليدي وبإطلاق الشوارب كعلامة على الحكمة والرزانة.

ـ الأجاويد: هم أشخاص عاديون من حيث الموقع العقائدي لكنهم مطلعون على الأعراف الدينية فقط، ويتمتّعون بمستوى عالٍ من الأخلاق والحكمة والنزاهة، ما يجعلهم في مكانة وسطى بين العقّال والجهّال. ويُقال شعبياً: "الجواد بيقعد بين العقّال، وكلمتو ما بتنزل ع الأرض".

ـ الجهّال (غير الملتزمين): هم عامّة الناس الذين لا يُسمح لهم بالاطلاع على أسرار الدّين، لكنهم يبقون ضمن الجماعة ويؤمنون بالمبادئ العامة للطائفة. ويُسمح لمن ينضج روحياً واجتماعياً من "الجهّال" أن يتحوّل إلى "عاقل"، ولكن بعد اختبارات أخلاقية وروحية صارمة.

ورغم أن الطائفة لا تؤمن بالمرجعية الدينية العلَنية، فإن الزعامة الاجتماعية المتأتية من النفوذ الديني (المشايخ) أو السياسي (آل جنبلاط وآل أرسلان) تحظى بشرعية، ما يساعد في خلق هرمية داخل الطائفة تحافظ على تماسكها وعلى تنسيق خطواتها ومواقف أبنائها في مواجهة المتغيرات أو الحروب والأزمات، وهي كثيرةٌ في لبنان.

ثنائية القيادة

تُعرَف في تاريخ لبنان ظاهرة "الثنائية". وهي ظاهرة ورثتها الطائفة الدرزية في السياسة والمجتمع منذ قرون عن الانقسام العربي القديم بين القيسية واليمنية، وهي ليست مجرد تنافس عائلي، بل انعكاس لتوازنات داخل الطائفة الدرزية نفسها، التي انقسمت أحياناً بين تيارات إصلاحية وتقليدية، أو شعبوية وإقطاعية.

ولعلّ أبرز الثنائيات المعروفة داخل الزعامة الدرزية، تتمثل في ثنائية آل جنبلاط وآل أرسلان، التي بدأت منذ منتصف القرن الثامن عشر وتستمر حتى اليوم. وخلال فترة الإقطاع (امتدت من القرن السابع عشر حتى القرن التاسع عشر) تمركز آل جنبلاط في الشوف وكانوا يمثّلون القوة "الشعبية" المرتبطة بالفلاحين فيما تمركز آل أرسلان في عاليه، وكانوا يمثّلون الطبقة الأرستقراطية والسلطة الرسمية. ولاحقاً في ظل نظام القائمقاميتين (1842–1860) قُسِّم جبل لبنان إلى قائمقامية درزية وأخرى مارونية فبرزت منافسة حادة بين آل أرسلان وآل جنبلاط على زعامة القائمقامية الدرزية. وتحوّلت هذه الثنائية إلى صراع دموي أحياناً، وإلى توازن هش في أحيان أخرى.

وفي عهد المتصرفية العثمانية ومن ثم في دولة لبنان الكبير (1861–1943) تقلص النفوذ الدرزي في الحُكم لكنّ آل أرسلان ظلوا ممثَّلين في المجلس الإداري، من خلال الأمير شكيب أرسلان، وهو شخصية فكرية وسياسية بارزة وكان يقابله فؤاد جنبلاط، قائمقام الشوف ووالد كمال جنبلاط الذي سيتولى الزعامة لاحقًا.

أما خلال مرحلة استقلال لبنان (1943) وما بعدها فتكرّست ثنائية كمال جنبلاط ومجيد أرسلان إلى أن اغتيل كمال جنبلاط (1977) وهو مؤسّس الحزب التقدمي الاشتراكي. ولاحقاً بعد أن توفّي مجيد أرسلان (1983)، ظهرت النسخة الأحدث من الثنائية، المتمثلة بنجليهما وليد جنبلاط وطلال أرسلان غير أن الأحداث أثبتت أن زعامة وليد جنبلاط مبنيّة على الجماهيرية الكبيرة والنفوذ الواسع فيما بُنيت زعامة طلال أرسلان على التمثيل الرسمي ضمن الدولة، لكن بقاعدة شعبية أضيق. وما زالت عائلة أرسلان تحتفظ بلقب "الأمير" الذي ارتبط بالنسب والسلالة إذ يزعم آل أرسلان أنهم من أحفاد الأمير الأرسلاني المنحدر من السلالة الأيوبية (سلالة تركمانية) الذي جاء إلى لبنان مع الفتح الإسلامي. ورغم أن عدداً من العائلات الدرزية الكبيرة تتبنى ألقابًا تشريفية، حافظ آل أرسلان وحدهم على استخدام لقب "الأمير" أو "المير" كما يُلفظ بالعامية.

وفي الوقت الراهن، يستعدّ تيمور نجل وليد جنبلاط لتولي الزعامة بعد أن نجح في حجز مقعد نيابي في البرلمان وظهر إلى جانب والده خلال زيارات مهمة كان أخرها زيارة الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع، فيما تُطرح التساؤلات بشأن مستقبل الزعامة الأرسلانية بعدما خسر "المير" طلال مقعده النيابي الذي شغله منذ 30 عاماً أمام مرشّحٍ شابٍ مُعارض، ولا يبدو أنه يهيئ أحد أفراد العائلة لإلباسه عباءة الزعامة رغم أن نجله مجيد، كان قد ظهر إلى جانبه في بعض المناسبات وتخصص في العلوم السياسية والاقتصاد الدولي في كندا. 

الحرب الأهلية

لعب الدّروز دوراً مؤثراً خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990) ولا سيما من خلال زعيمهم الأبرز كمال جنبلاط ولاحقاً نجله وليد، اللذين أسسا "جيش التحرير الشعبي" وهو الجناح العسكري للحزب التقدمي الاشتراكي فيما لعب آل أرسلان، مجيد ونجله طلال، دورًا أقل بروزًا مع امتناعهم عن حمل السلاح وميلهم إلى الخط التقليدي المحافظ المتمسك بمنطق الدولة اللبنانية والنظام.

فالأمير مجيد أرسلان كان من دعاة الحفاظ على الدولة ومؤسساتها، ورفض الانخراط في الحرب كطرف مسلّح ووقف ضد مشروع كمال جنبلاط "الثوري" رافضاً تحالفه مع الفلسطينيين واليسار اللبناني، فانحاز إلى الدولة اللبنانية ممثلةً بالرئيس كميل شمعون آنذاك. لاحقًا، ومع صعود الدّور السوري، كان البيت الأرسلاني أكثر تناغمًا مع الخط السياسي المدعوم من دمشق، حتى بعد وفاة مجيد أرسلان عام 1983 وتولّي نجله طلال الزعامة السياسية للبيت ثم دخوله البرلمان بدعم سوري عام 1991 حين عُيّن ولم يُنتخَب، كجزء من ترتيبات إعادة تكوين المؤسسات بعد الحرب.

تُعرَف في تاريخ لبنان ظاهرة "الثنائية". وهي ظاهرة ورثتها الطائفة الدرزية في السياسة والمجتمع منذ قرون عن الانقسام العربي القديم بين القيسية واليمنية، وهي ليست مجرد تنافس عائلي، بل انعكاس لتوازنات داخل الطائفة الدرزية نفسها، التي انقسمت أحياناً بين تيارات إصلاحية وتقليدية، أو شعبوية وإقطاعية.
أما كمال جنبلاط فكان حليفًا قويًا لمنظمة التحرير الفلسطينية وقوى اليسار اللبناني ضمن "الحركة الوطنية اللبنانية". وبعد اغتياله عام 1977، تولّى ابنه وليد جنبلاط القيادة، واستمر في النهج السياسي والعسكري نفسه، لكن مع تغيير التحالفات بحسب ما تقتضيه ظروف الحرب. فكان تحالفه الأساسي مع الحركة الوطنية اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية (1975–1982) لذلك قاتل "دروز جنبلاط" إلى جانب اليساريين والفلسطينيين ضد الميليشيات المسيحية (الكتائب، القوات اللبنانية) واعتبروا أنفسهم جزءًا من مشروع إصلاحي علماني ضد النظام الطائفي التقليدي. واتخذ الصراع مع القوات اللبنانية (1983ـ 1984) بُعداً دموياً خلال ما عُرف بـ"حرب الجبل" التي اندلعت بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من الشوف في أعقاب اجتياح لبنان عام 1982. فخاض الدروز معارك ضد القوات اللبنانية التي كانت تسعى لبسط نفوذها على مناطق جبل لبنان، وتمكّنوا من السيطرة على معظم البلدات والقرى وتهجير عشرات آلاف المسيحيين منها، فبقيت مناطق الشوف ذات غالبية درزية حتى بعد انتهاء الحرب، برغم كل محاولات المصالحة والمساعي لعودة المهجّرين.

ومن أبرز محطات الحرب الأهلية، تحالف جنبلاط مع سوريا خصوصًا بعد العام 1983. فبرغم اتهامه دمشق باغتيال والده، بدا أنه لا مفرّ من الانفتاح على سوريا التي دخلت لبنان بقواتها العسكرية عام 1976 وصارت القوة المُهمينة بعد انسحاب منظمة التحرير الفلسطينية(1982). وعندما اندلعت "حرب الجبل" بين الدروز والقوات اللبنانية وجد جنبلاط أن التحالف مع سوريا هو الضامن الوحيد لاستمرار هيمنة الدروز في الجبل وبذلك تحوّلت دمشق من خصم إلى "شريك الضرورة".

ونتج عن هذا التحالف تعزيز مكانة وليد جنبلاط كزعيم كبير للطائفة الدرزية، بغطاء سوري، وتحوُّله إلى ركن من أركان "الوفاق السوري" في لبنان خلال مرحلة ما بعد الحرب. ولاحقًا، كان من مهندسي اتفاق الطائف (1989 - وثيقة الوفاق الوطني اللبناني) لكنه بقي يراوغ بين الولاء والتمرّد على سوريا حتى العام 2005 حين اغتيل رئيس الحكومة رفيق الحريري وانقلب جنبلاط على سوريا متهماً إياها باغتياله.

خلاصة القول، تُعتَبرُ طائفة الموحدين الدروز في لبنان مثالًا نادرًا على أقلية صغيرة الحجم، قوية التأثير، نجحت في صيانة هويتها واستمرارها وسط محيط متغيّر وصراعات كبرى. وهي اليوم أمام امتحان صعبٍ يلامس جوهر الهوية الوطنية والقومية للطائفة، ويختبر التضامن العابر للحدود. إذ يشهد الإقليم تحوّلات يتجه بعضها نحو التطبيع مع إسرائيل أو "السلام" معها ويمثّل الدروز رأس حربة في هذا المجال. فبعدما تبنّى الدروز في فلسطين "المواطَنة الكاملة" في الكيان الإسرائيلي وخدموا في الجيش، اتضح مؤخراً وجود ارتباط بعض الدروز السوريين ولا سيما في منطقة الجولان بعلاقات أمنية مع إسرائيل، ما يطرح أسئلة ملحّة بشأن موقف دروز لبنان من العلاقة مع  الدولة اليهودية. علماً أن زعيمهم الأقوى وليد جنبلاط عبّر في أكثر من مناسبة عن رفضه التام لأي تطبيع درزي أو لبناني مع إسرائيل داعياً إلى التمسك بالموقف القومي والعروبي المعتاد للدروز، قائلاً "لا تطبيع مع الاحتلال، لا باسم الطائفة ولا باسم التاريخ".
التعليقات (0)

خبر عاجل