يتأكد يوما بعد يوم أن إسرائيل هي القوة الأخطر على السلام والاستقرار في الشرق الأوسط، وأنها مصدر الحروب الطويلة المتقطعة في المنطقة، وأنها التهديد الأول الذي يجب مواجهته، إذا كانت هناك إرادة لإعادة بناء العلاقات بين دول المنطقة، والمنطقة والعالم على أسس التعايش والاحترام المتبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وحل الخلافات بالطرق السلمية. كل ما تطمح إليه شعوب المنطقة التي تخلفت عن مسيرة التقدم والرخاء في العالم، رغم ثرواتها وموقعها الجيوستراتيجي، هو أن تعيش في سلام وأمان داخل دول ديمقراطية مستقلة ذات سيادة. إسرائيل وحدها، هي الدولة التي تريد أن تفرض هيمنتها بالقوة على المنطقة. الهيمنة هي معنى السلام الإسرائيلي. وهو الشعار الصريح والمكشوف لمصطلح «سلام القوة» الذي يضعه نتنياهو عنوانا لسياسته الإقليمية.
ولتحقيق ذلك تريد إسرائيل أن تحتكر القوة النووية، وألا تملك أي دولة في المنطقة قدرة، ولو ضئيلة، على تهديد هذا الاحتكار. المسألة لا تتعلق بإيران فقط، فقد رأينا الاعتداءات الإسرائيلية على كل من تجرأ على اقتحام مجال التكنولوجيا النووية في العالم العربي، وأدت هذه الاعتداءات إلى شلل البنية الأساسية الناشئة للبحوث النووية في مصر وليبيا وسوريا والعراق، بل إن العداء لأي محاولة لتطوير تكنولوجيا نووية عربية، وصل إلى حد اعتراضها على امتلاك السعودية برنامجا يتضمن تخصيب اليورانيوم محليا!
الدولة الصهيونية، بمقاييس نتنياهو، يجب أن لا تسمح لدولة غيرها في المنطقة أن ترفع رأسها عاليا، أو أن تصبح قادرة على المنافسة، وإذا قبل بعض الحكام العرب بذلك فإن الشعوب العربية لن ترضى، وإذا كان من بينهم من أسقط إرادة الشعوب من معادلة السياسة، فإن عودة هذه الشعوب إلى قلب المعادلة ليس ببعيد. إسرائيل وليس
إيران هي العدو الذي يهدد السلام في الشرق الأوسط والعالم. ونحن نعلم يقينا أن بعض الحكومات العربية تعتقد العكس. هذه الحكومات عليها مراجعة نفسها بالدعوة إلى إخلاء الشرق الأوسط نهائيا من أسلحة الدمار الشامل. إيران لم تمتلك سلاحا نوويا، ولا تسعى لامتلاك واحد، لكن إسرائيل تملك 200 رأس نووي على الأقل، ولديها البنية الأساسية الكاملة للإطلاق والتحكم والوصول إلى الأهداف.
الفشل في
غزة
لقد طرح العدوان الإسرائيلي على إيران، سؤالا كبيرا على الكثيرين من الخبراء وصناع السياسة في العالم، يتعلق بدلالات توقيت الضربة الأولى، وما يقف وراءها من أسباب، خصوصا أنها جاءت في الوقت الذي كانت فيه واشنطن وطهران تستعدان للجولة السادسة من المفاوضات بشأن البرنامج النووي الإيراني. نتنياهو زعم أن إسرائيل كانت تواجه «خطرا» يستدعي توجيه ضربة عسكرية استباقية، لكن علماء السياسة والقانون الدولي يفرقون بين «الخطر» الذي قد يجيز توجيه «ضربة استباقية» دفاعا عن النفس، و»التهديد»، مهما كانت درجته، الذي يجعل الحرب اختيارا متعمدا بتوجيه «ضربة وقائية» تمثل عدوانا على الخصم، وليس دفاعا عن النفس.
وطبقا لعالم السياسة الأمريكي ريتشارد هاس (14 من الشهر الحالي) الذي ترأس سابقا مكتب التخطيط السياسي في وزارة الخارجية الأمريكية، فإنه على الرغم من ادعاء إسرائيل بأنها هاجمت إيران دفاعا عن النفس، فإن الهجمات تُشكل إجراء وقائيا وأكبر من ذلك بكثير، ضد تهديد محتمل، وليس خطرا وشيكا. ويضيف هاس أن هذا الاختلاف بين «الضربة الاستباقية» و»الضربة الوقائية» تترتب عليه تداعيات قانونية ودبلوماسية مهمة، إذ تميل الهجمات العسكرية الوقائية إلى أن تكون أكثر إثارة للجدل، وتندرج تحت بند الحروب الاختيارية.
بينما تُعتبر الهجمات الاستباقية شكلا من أشكال الدفاع عن النفس. وذَكّرنا هاس بأن إسرائيل نفذت من قبل ضربات وقائية ضد برامج نووية عراقية وسورية كانت في بداياتها، ولم تكن تشكل خطرا على إسرائيل. وقال إن الضربة الإسرائيلية لم تكن تستهدف إيران حصريا، بل كانت وراءها أهداف محلية يتطلع نتنياهو لتحقيقها، حيث إن العداء لإيران هو أحد القضايا القليلة التي يتفق عليها معظم الإسرائيليين، المنقسمون على أنفسهم بشأن حرب غزة، ودور القضاء في النظام السياسي، والتوازن الديني – العلماني في الدولة، ومسألة خدمة اليهود الحريديين في الجيش.
وأضاف هاس «نعلم من الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن إيران كانت تُنتج يورانيوم عالي التخصيب، وأنها لم تكن صريحة بشأن أنشطتها النووية، إلا أن مسؤولين في الاستخبارات الأمريكية أكدوا في الأسابيع الأخيرة أن تقييمهم يشير إلى أن إيران لم تُقرر بعدُ إنتاج سلاح نووي». هذا التقييم يسقط تماما حجة تأييد الحرب الإسرائيلية بوصفها دفاعا عن النفس، لكننا نرى مرة أخرى، بعد غزة، أن الخطاب السياسي الأمريكي – الأوروبي يلجأ إلى تبرير العدوان الإسرائيلي، بذريعة أن الدولة الصهيونية يحق لها أن تدافع عن نفسها، وكأن حق الدفاع عن النفس يقتصر على الدولة الصهيونية فقط، ويسمح لها بالعدوان السافر على غيرها من دون مساءلة.
ويسهم العدوان على إيران في نقل مركز الاهتمامات العامة المحلية والخارجية من المواجهات اليومية في غزة، إلى متابعة العدوان على إيران، وبهذا يتم صرف الانتباه عن غزة، مع الاستمرار في إبادة الفلسطينيين، تقتيلا وتجويعا وترحيلا وسط تعتيم إعلامي مفضوح. لكن الاهتمام بالوضع في غزة لا يزول، من وجهة النظر الإسرائيلية، بينما هناك محتجزون يريد ذووهم استعادتهم، وهناك قتلى من جنودهم من يوم لآخر. وفي هذا السياق دعت افتتاحية صحيفة «جيروساليم بوست» (16 من الشهر الحالي) إلى ضرورة نبذ الخلافات بين القيادات السياسية والالتفاف تحت راية الحرب ضد إيران، مؤكدة أن «تشكيل حكومة وحدة وطنية هي السبيل الأمثل لتحقيق ذلك».
كيف يمكن أن تنتهي الحرب
تتوقف شرعية حكومة نتنياهو محليا على قدرتها على حماية مواطنيها وضمان عدم تعرضهم للخطر. وقد فشلت فشلا ذريعا في تحقيق ذلك. ولم يشعر الإسرائيليون في تاريخهم بهذا القدر من الفزع والخوف وانعدام الأمان، بسبب الردود الإيرانية على الهجمات الجوية الإسرائيلية.
لقد فشلت حكومة نتنياهو في تحقيق أهداف حرب غزة التي اعتقدت أنها لن تتجاوز نهاية عام 2023 على أكثر تقدير، وتم وضع خطة الحرب عسكريا، وتقدير تكلفتها ماليا على هذا الأساس. لكنها فشلت حتى الآن في تحقيق أهدافها، وزاد على ذلك أن المحتجزين المفرج عنهم عادوا بالمفاوضات وليس بالحرب.
وبعد فشلها في غزة تخوض حكومة نتنياهو فشلا ثانيا في إيران، حيث تستهدف تدمير البرنامج النووي تماما، وكذلك البرنامج الصاروخي، وتهيئة البيئة السياسية لإسقاط نظام الحكم في
طهران، وتستطيع إسرائيل بمساندة الأسلحة الغربية أن تسوي بعض المناطق في طهران بالأرض، كما فعلت في غزة، لكنها لن تستطيع تحقيق أهداف الحرب. كما أنها في الوقت نفسه عاجزة عن توفير الأمان لمواطنيها، وإنما تدفع بهم للمزيد من الخوف وقضاء ساعات طويلة من حياتهم في الملاجئ.
ولتأكيد هذه الحقيقة قالت صحيفة «جيروساليم بوست» في افتتاحيتها (الإثنين الماضي): «إننا لا نشعر حقا بالهجمات في طهران هنا على الأرض؛ بل نشعر بألم ويأس إخواننا وأخواتنا الذين يعانون في أنفاق حماس، بلا مأوى، ولا قيادة للجبهة الداخلية، ولا خدمات طوارئ لمساعدتهم».
هنا على وجه التحديد تفقد أي حكومة مقومات شرعيتها، وإذا كان نتنياهو قد أرسل طائراته وصواريخه إلى طهران لإعلاء الحرب على الدبلوماسية، وطلبا لتأكيد الشرعية، والبقاء في السلطة، والفوز في الانتخابات المقبلة، فإن الفشل حليفه إلى النهاية. لن تستطيع إسرائيل كسب الحرب ضد إيران وتدمير برنامجها النووي، ولا برنامجها الصاروخي بالقوة. ولن تكون القوة الغاشمة إلا أداة لعدم الاستقرار واستمرار الحروب. لن يستطيع نتنياهو إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط كما يريد، ولا كما يريد حلفاؤه أو المتواطئون معه. وكلما طالت الحرب ستخور إسرائيل أكثر وأكثر ويكتشف الإسرائيليون حقيقة نتنياهو المتعفنة؛ فإسرائيل غير مهيأة لحرب طويلة الأمد، ولا تستطيع أن تصمد.
وإذا كانت الولايات المتحدة ودول التحالف الغربي لن تسمح بهزيمة إسرائيل، فلن يكون أمام الدولة الصهيونية إلا طلب المساعدة الخارجية، الأمر الذي يفتح الباب لتوسيع نطاق الحرب.
إسرائيل التي لم تستطع مواصلة القتال في غزة إلا بمساعدة الأسلحة والدبلوماسية الأمريكية والغربية، لن تتمكن من توفير الأمان لمواطنيها وهي تعتدي على غيرها، وستبقى، إذا بقيت، مجرد محمية أمريكية. أما مستقبل النظام السياسي في إيران فيقرره الشعب الإيراني نفسه، من دون تدخل من ترامب أو إملاء من نتنياهو. ويظل مستقبل المنطقة هو في إقامة سلام على أسس التعايش السلمي والاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وحصول الشعب الفلسطيني على حقه في إقامة دولته المستقلة الآمنة ذات السيادة الكاملة.
القدس العربي