في 16 يوليو/ تموز الجاري، اندلع حريق هائل في مبنى في مدينة الكوت، مركز محافظة واسط
العراقية جنوب بغداد. والمبنى المؤلف من خمسة طوابق، الذي يضم مطعما ومركز تسوّق، لم يمض على افتتاحه سوى أسبوع واحد.
قيل إن الإصابات التي نتجت عن الحادث بلغت أكثر من 60 شهيدا وعشرات المصابين، وتعذّر تحديد هويات بعض الضحايا، لتفحّم أجسادهم من شدة الحريق. وقد تلت الحادث، الذي تكرر أكثر من مرة في مدن عراقية أخرى، زيارات لموقع الحدث من قبل مسؤولين، على رأسهم رئيس الوزراء.
كما صدرت بيانات نعي وإعلان حداد، وكذلك تقرير أولي من اللجنة المُكلفة لتبيان الأسباب وتحديد المُقصرين. تُرى هل أدرك رئيس الوزراء والمسؤولون الآخرون من فريقه الحكومي، بأن مسؤوليتهم الأخلاقية والإنسانية والقانونية والشرعية، تتطلب أن يحولوا دون وقوع كوارث كهذه، لا أن يزوروا أطلال بنايات محترقة وجثثا متفحمة، وأن يتباكوا دجلا على من قضوا في الحادث؟ وهل المسؤولية تعني دفع مبالغ مالية لإهالي الضحايا وإعلان حداد وبيانات نعي، ثم عفى الله عما سلف؟
تصر السلطات الحاكمة على تذكيرنا دوما بأنهم فاقدو الإرادة والرؤية، على الرغم من مرور أكثر من عقدين من الزمن، وهم يمسكون بزمام الأمور في البلد. لكنهم يتمسكون بزيادة الرغبة في تجاهل الحقائق، فأمام كل كارثة إنسانية تحصل، يلوذون بتغطية عوراتهم السياسية ببيانات تافهة، وتشكيل لجان تحقيقية غير منصفة، ثم يُعلن المسؤول الأول في السلطة عن دفع مبالغ مالية لذوي الضحايا، وتسدل الستارة على موقع الجريمة، ويذهب المُجرمون أحرارا طُلقاء يمارسون اللعبة الإجرامية من جديد في مكان آخر وزمان آخر.
وهنا ينسى الزعيم السياسي وصاحب السلطة أنه إنما يمارس الفعل نفسه، الذي يقوم به المجرم، حين يُغطي وجهه وهو يُقاد الى العدالة خوفا من الفضيحة، لكن الذين يتصدون للشأن العام لن تنفعهم هذه المحاولات البائسة، فذاكرة الشعوب ليست إسفنجية، وعورات الحاكم السياسية دائما يُثبتها عليه شعبه كاستحقاق ضمن المسؤولية التي وضع نفسه فيها.
إن محطات السياسي هي مؤشرات موثوقة لدى شعبه، تُعلن بما لا يقبل الشك عن طبيعة الممارسة السياسية اليومية له، وإذا كان البعض من الزعامات العراقية الحالية، قد امتهن تحدي الأعراف السياسية، واعتبر أن الجاذبية السياسية يمكن أن تأتي من خلال فوهة بندقية ميليشياوية، إن لم تنفع بضعة دولارات يشتري بها القبول لدى العامة، فإن إجراء الحساب السياسي الشعبي النهائي لكيفية تعامل السلطات في تحقيق الأمن والسلم المجتمعي، سيجعل من الصعب على المسؤول الأول والثاني والثالث والرابع، الاختباء من عدد الكوارث الإنسانية التي حصلت ضمن نطاق مسؤولياتهم، وهم سيكونون على دراية تامة بالتُهم التي ستوجه إليهم يوما ما، خاصة أن الشعوب الحية دائما حين تتحرك، فإنها لا تتسامح مع من ظلمها، فلا توجد ظلال رمادية.
لقد باتت مقولة لا تعتذر ولا تشرح أبدا، هي العقيدة السياسية التي اتخذتها السلطات الحاكمة في بغداد وما زالت هي نفسها لم تتغير، رغم تغير الوجوه والانتماءات الحزبية والولاءات الخارجية منذ عام 2005 وحتى اليوم، وكأنها راية اتفق جميعهم على تسلّمها الواحد من الآخر، وأقسموا جميعا على أن لا يمسها التغيير مهما حصل، بل الأسوأ من ذلك هي، حتى مقولة لا تعتذر.
ولكن حاول أن تشرح أخطاءك الفادحة، قد اعتبروها مفسدة لا يمكن القبول بها، لأنها في عُرفهم ستهدد نظامهم السياسي الرث، كما أضافوا لعقيدتهم هذه نهجا آخر وهو، آسف لستُ آسف، ظنا منهم أن الاعتذار، أو تقديم الاستقالة، سيجعل الجمهور أكثر رغبة في فتح ملفات أخرى على السياسي الحاكم، لذلك حصّنوا أنفسهم بالميليشيات عن أيمانهم وعن شمائلهم، في حين تركوا الشعب العراقي يسير في وادي الموت يوميا، وحيدا.
ففلسفتهم تقول إن الدفاع عن النظام هو أولى من الدفاع عن احتياجات الجمهور، وأن إغراق الجمهور في دوامة من اليأس، هو السبيل الوحيد لإيقاف عقارب الساعة، كي تمضي الأمور كما يريدون.
إن حالة التدهور الأخلاقي والإنساني، التي يعاني منها ساسة الحكم الحالي في بغداد، بانت واضحة في بياناتهم وتصريحاتهم، عقب الحادث الأليم الذي حصل في محافظة واسط، علما أن هذه المحافظة هي من ضمن جغرافيتهم الطائفية التي رسموا حدودها وديمغرافيتها منذ عام 2003، التي يتشدقون دوما بأن ناسها هم حاضنتهم الشعبية، فقد كانت كل تعليقاتهم على الحادث مليئة بالثغرات السياسية والامتدادات المتعرجة، وأشبه برحلة بلا وجهة، بل كانت محاولة واضحة للدفاع عن النفس وإلقاء المسؤولية على الآخرين.
لقد سقط اليقين الذي كان يعتصم به الناس، من أن رأس المال السياسي مهم لكل من يتصدى لخدمة عامة
لكن نسوا أن أكثر ما يضر في حالة الدفاع عن النفس، هو عدم ذكر ولو شي إيجابي واحد قاموا به كي يعتمدوا عليه لتبرير موقفهم أمام شعبهم، لذلك لا غرابة في أن كل كلماتهم عقب الحادث، تلك التي تركتهم بلا حياء، لم يذكروا فيها أي شيء عن إجراءاتهم لمكافحة حلقات الفساد المالي والإداري، التي ضربت أسس الدولة والمجتمع، التي هي المسبب الأول والأخير في حصول الحادث المأساوي، بل لم تأتِ حتى على ذكر الإجراءات الصحيحة الواجب اتخاذها للحد من كوارث
الحرائق المتكررة التي تلتهم الأرواح البريئة.
لقد سقط اليقين الذي كان يعتصم به الناس، من أن رأس المال السياسي مهم لكل من يتصدى لخدمة عامة، خاصة الزعامة السياسية، فقد لمسوا بشكل مادي ومعنوي، أنه على مدى عقدين من الزمن لم يستطع الحاكمون في بغداد من تكوين رأس مال سياسي ولو بسيط جدا، يمكن أن يعتمدوا عليه حين تحين ساعة الحساب.
ويقفون أمام هيئات المُحلّفين، وهم شعبهم، فبدلا من اتباع استراتيجية واضحة تنقل شعبهم من الواقع المأساوي الذي يعيشونه، إلى واقع جديد يوفر لهم الحياة الحرة الكريمة، راحوا يكررون تجاربهم الفاشلة برمتها، وبكل ما فيها من سرقات وقتل وإقصاء وتهجير وهدر للمال العام وتعدٍ على حقوق الناس، وتفاؤل كاذب هو مجرد خداع باسم آخر لا أكثر.
وبات كل من يأتي الى المنصب الأول حريص على أن يمارس الأسلوب السياسي الميليشياوي نفسه لسلفه. ويبقى المتغير الوحيد هو أداة الطحن التي يطحن بها شعبه، والتي يرفقها بنغمة كئيبة لفترة وجيزة في بداية عهده كمكياج.
السؤال ذو الحدين اليوم هو، هل شعب العراق من الشعوب البؤرية، التي تصنع التاريخ، وتضع القتلة المجرمين في المكان الذي يستحقون، وتعيد إنتاج الحاضر وترسم صورة زاهية لمستقبل واعد؟
القدس العربي