في صيف
عام 2013، كانت
مصر تقف على مفترق طرق تاريخي. فبعد أن تذوّق الشعب طعم الحرية
لأول مرة في تاريخه الحديث عبر انتخابات نزيهة جاءت برئيس منتخب، قرر عبد الفتاح
السيسي، وزير الدفاع حينها، أن ينهي التجربة الديمقراطية الوليدة بانقلاب عسكري
دموي. ومنذ اللحظة الأولى، كان واضحا أن عنوان المرحلة هو الدماء.
البداية
كانت عند أسوار دار الحرس الجمهوري، حيث احتشد المصلون فجرا في أجواء روحانية،
يرفعون أكفهم بالدعاء، فلم تمهلهم قوات الجيش والشرطة سوى لحظات قبل أن تحوّل
الميدان إلى مسرح للجريمة. سقط العشرات في "
مذبحة الساجدين"، رصاص في
الرؤوس والصدور، في مشهد صادم أنهى أي وهْم بأن
الانقلاب قد يتعامل بضبط النفس أو
يفسح المجال للحوار. كانت تلك المجزرة تمهيدا نفسيا ورسالة دموية تقول: القتل هو
أداة الحكم الجديدة. لكن ما حدث بعد ذلك فاق كل التوقعات.
الإجابة تكمن في الردع عبر الدم. لقد أراد أن يزرع في نفوس المصريين رعبا يجعلهم يبتعدون عن أي فكرة لمعارضة انقلابه. اعتقد أن مشهد الدماء على شاشات التلفاز سيكون كافيا لإسكات الشارع لعقود
في الرابع
عشر من آب/ أغسطس 2013، اقتحمت قوات الجيش والشرطة ميدان
رابعة العدوية، حيث كان يعتصم
عشرات الآلاف من الرجال والنساء والأطفال، يطالبون بعودة الشرعية. تحولت الساعات
الأولى من الصباح إلى يوم طويل من الجحيم. الرصاص الحي انهمر بلا توقف، القناصة
يعتلون أسطح المباني، والرصاص يطارد الفارين حتى في الأزقة الضيقة.
كانت
الأوامر واضحة: لا تتركوا أحدا يخرج حيا دون أن يذوق الرعب أو يترك وراءه دما. أُحرقت
الخيام بمن فيها، فمات مصابون حرقا بعد أن تعذرت عليهم الحركة. دهست الجرافات جثثا
ما زال الدم يسيل منها، أُطلق الرصاص على من حاولوا النجاة عبر ما سُمي زورا
بـ"الممر الآمن". احترق
مسجد رابعة، ذلك المكان الذي ظل لأسابيع رمزا للسلمية، وتحول إلى كومة رماد مختلطة
بدماء الشهداء.
وفقا
لتقارير منظمات حقوقية محلية ودولية، فإن عدد الضحايا تجاوز الآلاف، وهو ما جعل
مذبحة رابعة تُصنف كواحدة من أبشع عمليات القتل الجماعي في التاريخ الحديث.
لكن لماذا
كان السيسي مصرّا على هذا القدر من الوحشية؟
الإجابة
تكمن في الردع عبر الدم. لقد أراد أن يزرع في نفوس المصريين رعبا يجعلهم يبتعدون
عن أي فكرة لمعارضة انقلابه. اعتقد أن مشهد الدماء على شاشات التلفاز سيكون كافيا
لإسكات الشارع لعقود، لكن التاريخ أثبت أن الدماء، مهما طال الزمن، تتحول إلى لعنة
تلاحق الجناة.
فمنذ ذلك
اليوم، لم يعرف نظام السيسي استقرارا حقيقيا رغم الدعم السياسي والمالي والإقليمي.
ورغم أنه قدّم النيل، وتيران وصنافير، والسواحل المصرية، والموارد الوطنية على طبق
من ذهب لحلفائه الإقليميين والدوليين، إلا أن الفشل ظل سمة حكمه.
بعد أكثر من عقد على المذبحة، تتجلى حقيقة أن ما جرى لم يكن مجرد جريمة عابرة، بل جرح مفتوح في جسد الأمة. دماء رابعة لم تجف، ولن تجف، لأنها لم تجد بعد العدالة التي تستحقها. ستظل لعنة هذه الدماء تطارد النظام
لقد صار
تابعا معلنا لقوى الاحتلال، وتحت هيمنة مباشرة لدول مثل الإمارات، التي باتت تتحكم
في جزء من موارد ومقدرات مصر.. ومع كل ذلك، لم ينجح.
والأدهى
أن هذا الفشل لم يتوقف عند حدود القصر الرئاسي، بل امتد ليعصف بحياة المواطن
العادي، الذي وجد نفسه بعد 12 عاما من المجزرة في أوضاع اقتصادية واجتماعية خانقة:
تضاعفت الأسعار، وتدهورت الخدمات، وانهارت قيمة العملة، وارتفعت معدلات الفقر بشكل
غير مسبوق.
إنها
ضريبة الصمت، فحين سقطت أول قطرة دم بعد الانقلاب، ولم يتحرك غالبية الشعب، ظن
السيسي أن الدماء رخيصة، وأن بإمكانه أن يحكم بالنار والرصاص دون عقاب.
اليوم،
وبعد أكثر من عقد على المذبحة، تتجلى حقيقة أن ما جرى لم يكن مجرد جريمة عابرة، بل
جرح مفتوح في جسد الأمة. دماء رابعة لم تجف، ولن تجف، لأنها لم تجد بعد العدالة
التي تستحقها. ستظل لعنة هذه الدماء تطارد النظام، وتذكّر الشعب بأن ثمن الحرية
غالٍ، وأن الانتظار دون فعل لا يجلب إلا مزيدا من القهر والانهيار.
ولأن عجلة
الانهيار ما زالت تدور، فإن السقوط سيستمر حتى تأتي لحظة الحساب. حينها، لن يكون المشهد ثأرا دمويا، بل استعادة وطن، ورد كرامة، وفتح صفحة جديدة تُكتب بمداد
العدالة.
والقرار،
في النهاية، لا يزال في يد الشعب المصري، الذي يملك وحده أن يقول كفى، وأن يختار
بين استمرار الانهيار أو استعادة الحياة التي سُرقت منه على وقع رصاص رابعة.