من
بين العديد من الرسائل التي تمكن سجناء سياسيون
مصريون من تسريبها، يشرحون فيها ما
يتعرضون له من انتهاكات دفعتهم للإضراب عن الطعام، وحتى محاولة الانتحار، كانت
رسالة السفير رفاعة الطهطاوي، رئيس ديون رئيس الجمهورية السابق وأحد السجناء المضربين،
كاشفة لحجم الانفصال التام عما يجري خارج
السجون منذ سنوات، نتيجة منع زيارة ذويهم
أو محاميهم لهم، أو توقف نقلهم لجلسات المحاكم رغم أنها تُعقد داخل مجمع السجن
الذي يقبعون فيه.
في هذه
الرسالة شرح السفير ما يتعرض له وزملاؤه من سوء معاملة، تستهدف في النهاية موتهم
ببطء. كان الشيء الأكثر ألما في رسالة الطهطاوي هو دعوته لتشكيل لجنة لزيارة سجن "بدر
3/ قطاع 2"، حيث يقبع هو ومعه أكثر من خمسين من القيادات السياسية
والبرلمانية والدعوية من الصفوف الأولى، لتفقد أوضاع هؤلاء السجناء. واقترح من بين
الأسماء لهذه اللجنة كلا من الدبلوماسي السابق شكري فؤاد (المتوفى منذ ثلاث سنوات
ونصف السنة) والسياسي المصري جورج إسحاق (المتوفى في حزيران/ يونيو 2023)، ورئيس
الوزراء الأردني السابق عون الخصاونة؛ الذي يتعرض بدوره للتضييق في بلده ولا يسمح
له بمثل هذا النشاط، وهو ما يكشف أن السفير رفاعة ومعه بقية زملائه في السجن
معزولون عن الأخبار تماما، ولا يعرفون من مات ومن عاش طيلة هذه السنوات، بخلاف ما
يعانونه من تضييق شديد جعل الموت أحب إليهم من الحياة.
لعل تنفيذ مقترح السفير رفاعة الطهطاوي بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق برئاسة الدكتور محمد البرادعي كفيل بوضع النقاط على الحروف، وطمأنة أهالي هؤلاء المعتقلين، فإذا تعذر الأمر بالنسبة له (البرادعي) فليس أقل من أن يتبنى قضيتهم في المحافل الدولية التي يحسن التواصل معها
عشرات
السجناء في سجن "بدر 3" مضربون عن الطعام منذ شهرين احتجاجا على حرمانهم
من زيارة ذويهم لمدد تصل إلى ثماني سنوات، انقطعت خلالها أخبار الأهل والذرية،
وبهتت في الذاكرة صور الآباء والأمهات والأبناء، تزاوج الأبناء وأنجبوا أحفادا لا
يعرفون شكل أجدادهم، ولا يعرفهم هؤلاء الأجداد، مات آباء وأمهات وأبناء وأشقاء دون
أن يتمكن هؤلاء المحبوسون من إلقاء نظرة وداع عليهم، أو المشاركة في سرادقات
عزائهم.
هذا
الإضراب أتم شهره الثاني وسط إصرار أصحابه على الاستمرار فيه، بل وإقدام عدد منهم
على محاولات انتحار حقيقية ليس للمطالبة بالإفراج عنهم، بل لطلب فتح الزيارة لهم،
وهو كما ذكرنا حق قانوني لهم، فوفقا للائحة السجون يحق للمعتقل زيارتان شهريا من أسرته
من الدرجة الأولى، بخلاف الزيارات الاستثنائية سواء بموافقة النائب العام أو في
المناسبات والأعياد الدينية والوطنية، لكن هؤلاء القوم محرومون من هذا الحق منذ
ثماني سنوات. والغريب أن وزارة الداخلية المصرية وبدلا من الالتزام بتطبيق لائحة
السجون التي أعدتها هي وليس السجناء، فإنها راحت تنكر عبر بيانات رسمية وجود
إضراب، أو محاولات انتحار، رغم أن رئيس مصلحة السجون التقى بالمضربين وحاول
إقناعهم بفك الإضراب مقابل بعض التحسينات، والتي ليس من بينها فتح الزيارة، ومع
رفضهم لهذا العرض فإنه انتقل إلى التهديد بتنفيذ أحكام الإعدام بحق بعضهم (الصادر
ضدهم أحكام إعدام نهائية)، فكان ردهم عليه بسيطا وهو أنهم اتخذوا قرار الموت بأنفسهم
دون انتظار لتنفيذ الإعدامات، بعد أن أصبح الموت أحب إليهم من هذه الأوضاع
المأساوية التي يعيشونها.
ولعل
تنفيذ مقترح السفير رفاعة الطهطاوي بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق برئاسة الدكتور محمد
البرادعي كفيل بوضع النقاط على الحروف، وطمأنة أهالي هؤلاء
المعتقلين، فإذا تعذر
الأمر بالنسبة له (البرادعي) فليس أقل من أن يتبنى قضيتهم في المحافل الدولية التي
يحسن التواصل معها. وتبقى مهمة تشكيل لجنة لتقصي الحقائق واجبا على مجلس حقوق
الإنسان في مصر لزيارة سجن بدر وغيره من السجون، ومقابلة السجناء المضربين،
ومطالبة السلطات بتنفيذ لوائح السجون.
الإقدام
على الانتحار مسألة شائكة من الناحية الشرعية، وهؤلاء الذين أقدموا عليه ليسوا من
عوام الناس، بل فيهم أساتذة في الشريعة والفقه والقانون، وبينهم عميد سابق لكلية أصول
الدين في الأزهر، وربما وجدوا في الشرع متسعا لحالتهم، ولا يستطيع أحد -لا يعرف
حالتهم- من خارج السجن أن يقتدي لهم. لقد أرادوا من خلال هذا الفعل تأكيد حقهم في
الحياة الكريمة حتى لو في السجن، وأرادوا أن يسمع الناس خارج السجن صوتهم، ويعرفوا
مأساتهم.
إنهم يدفعون الضريبة بالنيابة عن الشعب المصري، وحقه أيضا في حياة كريمة، وفي حرية وكرامة وعدالة، ومن حقهم على الشعب أن يدافع عنهم. إنهم واثقون أن النظام الحالي يخطط لبقائهم في السجن حتى الموت، وبالتالي فهم لا يطمحون في الكثير بل في أبسط الحقوق ومنها حق الزيارة
إنهم
يدفعون الضريبة بالنيابة عن الشعب المصري، وحقه أيضا في حياة كريمة، وفي حرية
وكرامة وعدالة، ومن حقهم على الشعب أن يدافع عنهم. إنهم واثقون أن النظام الحالي
يخطط لبقائهم في السجن حتى الموت، وبالتالي فهم لا يطمحون في الكثير بل في أبسط
الحقوق ومنها حق الزيارة. وحين نقول إن النظام يخطط لموتهم فلا يعني ذلك بالضرورة
أنه قادر على ذلك، فالأعمار بيد الله، وليست بيد السيسي، أو حكومته، ولكل أجل
كتاب، وإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.
لا
يزال النظام المصري غائصا في وحل سنة 2013 (لحظة الانقلاب على الحكم المدني)، ولا
يزال يشعر بخطر هؤلاء الرجال عليه حتى بعد وفاة الرئيس مرسي رحمه الله، ولا يزال
مصرا على التنكيل بهم، متصورا أنه قادر على كسر إرادتهم. لكن تجربة 12عاما أثبتت
خطأ هذا التصور، فهم رغم معاناتهم لم ينحنوا، ولا يفكرون في الانحناء، بل إنهم
مستعدون للموت بدلا من حياة الذل والمهانة، ولو حدث ذلك فإن أرواحهم ستظل لعنة
تطارد من حبسهم ومن دفعهم إلى ذلك، وسيتحولون إلى شهداء للحق والمبادئ، وسيصبحون
مصادر إلهام لكل المستضعفين في مصر وغيرها.
الانتقام
لا يقتصر على المعتقلين في محابسهم بل يطال أسرهم، ويتأثر به أقاربهم وجيرانهم
وأصدقائهم وزملائهم، وهم يعدون بمئات الآلاف بل حتى بالملايين، أي أن النظام يصنع
مجتمعا واسعا ناقما، راغبا في الانتقام. وهذا ما يدفع ضريبته الوطن كله في لحظة يتعرض
فيها لخطر عدوان صهيوني، مع إصرار الكيان ومن خلفه إدارة ترامب على تهجير أهل غزة
سواء إلى مصر أو عبرها، وهذه لحظة تحتاج تبريدا للجبهة الداخلية، ومدخل ذلك هو
تفريغ السجون من نزلائها السياسيين، حتى يتفرغ الجميع لمواجهة هذا الخطر.
x.com/kotbelaraby