قضايا وآراء

هولندا لإسرائيل رسميا: أوقفوا الحرب على غزة

ماهر حسن شاويش
"لم يعد الشارع الهولندي صامتا"- الأناضول
"لم يعد الشارع الهولندي صامتا"- الأناضول
مقدمة

لم يعد الموقف الهولندي من الحرب على غزة مجرد بيانات بروتوكولية أو تصريحات معزولة. في غضون أشهر قليلة، تسارعت الأحداث بشكل لافت: تقرير أمني يضع إسرائيل في خانة التهديد، استقالة وزير خارجية احتجاجا على عجز حكومته ثم تبعه في الاستقالة وزراء حزبه أحد مكونات الأحزاب الأربعة للتحالف الحكومي، فضلا عن مظاهرات شعبية غير مسبوقة في شوارع أمستردام وروتردام ولاهاي، وأخيرا اتصال مباشر من رئيس الوزراء ديك سخوف برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يطالبه فيه بوقف فوري للحرب وتحسين الوضع الإنساني المريع. إنها لحظة فارقة تثير السؤال: هل دخلت هولندا مرحلة التحول الاستراتيجي، أم أن الأمر لا يعدو كونه استجابة ظرفية لضغط الشارع؟

تحوّل على مستوى الخطاب

الأهمية في هذا التطور أنه جاء من رأس السلطة التنفيذية. للمرة الأولى يخاطب رئيس وزراء هولندي نظيره الإسرائيلي بلغة صريحة: "طلبت بشدة وقف إطلاق النار فورا وتحسين الوضع الإنساني بشكل جذري. هذه الحرب يجب أن تنتهي"، بحسب تغريدة له على حسابه في منصة إكس.

هذه لهجة غير مألوفة في السياسة الهولندية التي اعتادت على الموازنة بين النقد الحذر والدعم التقليدي لإسرائيل، وهي تعكس التقاء ضغط الشارع مع قلق المؤسسات، وتكشف أن الحسابات السياسية الضيقة لم تعد قادرة على احتواء النقمة الشعبية.

هذه لهجة غير مألوفة في السياسة الهولندية التي اعتادت على الموازنة بين النقد الحذر والدعم التقليدي لإسرائيل، وهي تعكس التقاء ضغط الشارع مع قلق المؤسسات، وتكشف أن الحسابات السياسية الضيقة لم تعد قادرة على احتواء النقمة الشعبية

ضغط الشارع والإعلام

لم يعد الشارع الهولندي صامتا، عشرات الآلاف خرجوا في مظاهرات أسبوعية في أكبر المدن، قادها خليط من الجاليات العربية والإسلامية، ومنظمات يسارية، وطلاب جامعات، ونقابات مهنية. بعض المظاهرات استمرت لساعات وأُقفلت فيها شوارع رئيسية، فيما رفعت لافتات تحمل عبارات مثل "لا عدالة بلا فلسطين" و"أوقفوا الحرب الآن".

الإعلام المحلي التقط هذه النبرة الجديدة، صحف مهمة فتحت صفحاتها لكتاب وباحثين ينتقدون ازدواجية المعايير الأوروبية، وركزت على قصص إنسانية من غزة، ما عزز صورة أن القضية لم تعد محصورة في الجاليات، بل صارت شأنا هولنديا عاما.

السياق الأوروبي

الموقف الهولندي لا يمكن قراءته بمعزل عن السياق الأوروبي الأوسع. فقد سبقت إسبانيا وإيرلندا وبلجيكا في اتخاذ مواقف صلبة ضد استمرار الحرب، بينما بقيت ألمانيا وفرنسا على الحياد النسبي. دخول هولندا -ذات العلاقة التاريخية الوطيدة مع إسرائيل- إلى هذا الخط قد يشكّل خطوة إضافية نحو بلورة موقف أوروبي أكثر تماسكا.

لكن يبقى السؤال: هل سيقتصر الموقف على الضغط الدبلوماسي الرمزي، أم سيتطور إلى إجراءات ملموسة كتجميد التعاون الاقتصادي أو فرض عقوبات كما حصل مع روسيا بعد غزو أوكرانيا؟

حسابات الداخل الهولندي

الموقف الجديد لا يخلو من حسابات داخلية. فالتحالف الحاكم يعيش حالة هشاشة منذ انسحاب اليمين المتطرف، والانقسام حول فلسطين بات واضحا بين الأحزاب الشريكة إثر استقالة وزراء حزب العقد الاجتماعي الجديد الوسطي. خطاب سخوف هنا يمكن أن يُقرأ كمحاولة لامتصاص الغضب الشعبي واحتواء المظاهرات المتواصلة، لكنه يعكس أيضا إدراكا بأن الصمت بات يكلّف الحكومة الكثير على مستوى صورتها الدولية.

إضافة إلى ذلك، هناك خشية متزايدة من أن يصبح ملف غزة عاملا يهدد استقرار التحالف الحاكم وينعكس على نتائج الانتخابات البرلمانية المقبلة، خاصة في ظل ضغط قواعد شبابية متعاطفة مع فلسطين، واتهامات المعارضة للحكومة بأنها "تتأخر كثيرا" في اتخاذ موقف أخلاقي.

العدالة الدولية في الاختبار

هولندا التي تحتضن محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية تجد نفسها أمام امتحان صعب: هل تبقى قيم العدالة الدولية حبيسة قاعات لاهاي، أم تتحول إلى سياسة خارجية تُمارس بجرأة؟

ففي تموز/ يوليو الماضي أدرج تقرير المنسق الوطني الهولندي لمكافحة الإرهاب والأمن إسرائيل ضمن قائمة الدول التي تُشكّل تهديدا عبر أنشطة التأثير الأجنبية، وهو تصنيف غير مسبوق. كما أن وزير الخارجية الهولندي كاسبر فيلدكامب قدّم استقالته في 22 آب/ أغسطس 2025 احتجاجا على فشل حكومته في فرض عقوبات على إسرائيل.

هذه الوقائع تعكس أن النقاش لم يعد مسألة خارجية فقط، بل بات جزءا من جدل داخلي حول هوية هولندا كدولة تدّعي الدفاع عن القانون الدولي.

العلاقات الاقتصادية والعسكرية
التحدي الأكبر أمام أي تحول حقيقي يكمن في العلاقات الاقتصادية والعسكرية المتينة بين هولندا وإسرائيل. فالأخيرة تُعتبر شريكا مهما في مجالات التكنولوجيا والأمن السيبراني والزراعة، وشركات هولندية كبرى لها استثمارات متشابكة مع السوق الإسرائيلية

التحدي الأكبر أمام أي تحول حقيقي يكمن في العلاقات الاقتصادية والعسكرية المتينة بين هولندا وإسرائيل. فالأخيرة تُعتبر شريكا مهما في مجالات التكنولوجيا والأمن السيبراني والزراعة، وشركات هولندية كبرى لها استثمارات متشابكة مع السوق الإسرائيلية، وأي قرار بفرض قيود أو عقوبات لن يكون رمزيا فحسب، بل سيصطدم بمصالح اقتصادية قوية، ما يجعل المضي في هذا المسار اختبارا صعبا للحكومة.

مقارنات تاريخية: جنوب أفريقيا نموذجا

المقارنة التي يستحضرها كثيرون اليوم في هولندا ليست جديدة. ففي السبعينيات والثمانينيات كانت البلاد مرتبطة تاريخيا بجنوب أفريقيا من خلال المستعمرين الهولنديين، وهو ما جعل الحكومات الهولندية في البداية مترددة في انتقاد بريتوريا بشكل مباشر.

لكن ضغط الشارع غيّر المعادلة، فقد تأسست في أمستردام عام 1971 لجنة مناهضة الفصل العنصري (AABN) التي قادت حملات واسعة، من أبرزها مقاطعة الفواكه والمنتجات الجنوب أفريقية، وتنظيم مظاهرات ضخمة جابت شوارع أمستردام ولاهاي وروتردام، والجامعات الهولندية مثل أمستردام ولايدن بدورها سحبت استثماراتها من الشركات المتعاملة مع نظام الفصل العنصري، فيما لعبت الكنائس الهولندية دورا بارزا في الضغط الأخلاقي على الحكومة.

ومع اتساع رقعة الحراك الشعبي، تحوّل الموقف الرسمي تدريجيا. ففي عام 1986 أقر البرلمان الهولندي عقوبات اقتصادية وتجارية على جنوب أفريقيا، لتكون هولندا من أوائل الدول الأوروبية التي انحازت بوضوح إلى الموقف الدولي المناهض للفصل العنصري، بل وكانت من أوائل الداعين إلى الإفراج عن نيلسون مانديلا.

هذه الوقائع جعلت هولندا تُعرف آنذاك كإحدى العواصم الأوروبية المركزية في الحركة العالمية لمناهضة الفصل العنصري. واليوم، يطرح كثيرون السؤال نفسه: هل يمكن أن يتكرر المشهد مع إسرائيل، بحيث يتحوّل الضغط الشعبي المتصاعد إلى سياسة رسمية جريئة تنهي عقودا من الانحياز التقليدي وتفتح الباب لموقف أوروبي أكثر صلابة؟

خاتمة

من تقرير أمني صادم، إلى استقالة وزراء كتلة حزب بأكمله، إلى احتجاجات شعبية واسعة، وصولا إلى ضغط مباشر من رئيس الوزراء.. نحن أمام لوحة جديدة في هولندا. لكن يبقى السؤال مفتوحا: هل ما يجري مجرد مواقف ظرفية لامتصاص الغضب، أم بداية مسار استراتيجي يعيد تعريف علاقة لاهاي بتل أبيب وأوروبا كلها بإسرائيل؟

الإجابة ستتضح في الفترة المقبلة، لكن المؤكد أن صورة "هولندا الداعمة بلا تحفظ لإسرائيل" لم تعد كما كانت، فما بعد آب/ أغسطس 2025 ليس كما قبله، والكرة الآن في ملعب الحكومة: إما أن تثبت أن قيم العدالة الدولية راسخة في سياستها، أو تُثبت أن المصالح أقوى من المبادئ.
التعليقات (0)

خبر عاجل