يواصل الكاتب والباحث الجزائري الدكتور أحمد
بن نعمان في سلسلته الفكرية الحصرية لـ"عربي21" استكشاف العوامل العميقة
التي تقف وراء النزاعات بين الدول والشعوب، واضعًا هذه المرة العامل اللغوي تحت
المجهر. فالمسألة اللغوية ليست مجرد أداة للتخاطب أو وعاء للثقافة، بل قد تتحول في
ظروف سياسية واجتماعية معينة إلى قنبلة موقوتة تهدد وحدة الأوطان واستقرار
المجتمعات، كما تكشف نماذج بلجيكا، كندا، إسبانيا وغيرها. بهذا الطرح العلمي
التحليلي، يبين الدكتور بن نعمان كيف استغلت القوى الاستعمارية والأنظمة المركزية
الانقسام اللغوي لإذكاء الفتن وصناعة كيانات هشة عرضة للتفكك.
الاختلاف اللغوي المغذى
لا توجد حالة من الصراعات ذات الطابع
السياسي اللغوي (الحقيقي أو المصطنع) في
العالم إلا ونجد وراءها قوى سياسية مدعمة
ونافخة في نار الفتنة الإقليمية من أجل أن يسود الأقوياء والأذكياء على حساب
الضعفاء، والاغبياء.. ومن هذه الحالات الكثيرة نذكر على سبيل المثال: بلجيكا.
يعود البلجيكيون إلى ما قبل التاريخ،
وينحدرون من الجنس السلتي وهو مزيج من الهندو ـ أوروبي، وهم ريفيون بالدرجة
الأولى، عرفوا الفتوحات في عصر مبكر فغزاهم الرومان بسهولة، لأنهم لم تكن لهم
دولة، كما ساعد هذا العامل على رومنتهم التدريجية (خاصة إبان القرن الثاني
الميلادي)، وهو ما ساعد على انتشار لهجة من أصول لاتينية ممزوجة بالسلتية استمرت
حتى اليوم عند الفالون، وهذا عكس سكان منطقة الفلاندر الذين خضعوا للغة الغزاة
الجرمانيين.
"لا توجد حالة من الصراعات ذات الطابع السياسي اللغوي (الحقيقي أو المصطنع) في العالم إلا ونجد وراءها قوى سياسية نافخة في نار الفتنة الإقليمية."
عرف البلجيكيون بعض الاستقرار والتوحيد في
عصر شرلمان "لكنه وضع سرعان ما انتهى بتمزق بلجيكا إلى مقاطعتين واحدة تابعة
لفرنسا والثانية تمزقت إلى إمارات مستقلة، وهو ما يفسر ظهور اللغة الفرنسية في
مناطق من بلجيكا إبان الفترة الممتدة حتى القرن الثامن عشر، وإلى جانب اللغة
الفرنسية (لغة الإدارة) كانت تستعمل اللغة الفلامنكية، كلغة شفهية على غرار اللهجات
البربرية في بلاد المغرب العربي الحالية .
وعندما استقلت بلجيكا عن هولندا سنة 1830،
لم يكن للمجتمع البلجيكي لغة وطنية مشتركة. فقد كان بعض أفراده يتحدثون اللغة
الفلامندية والبعض الآخر يتحدثون اللغة الفرنسية، ونظرا لكون اللغة الفرنسية أرقى
من اللغة الفلامندية وأوسع منها انتشارا في البلاد، قامت الدولة بجعلها لغة رسمية
للإدارة وأخذت تنشرها كلغة مشتركة بين أفراد المجتمع البلجيكي لتحل محل اللغة
الهولندية في الإدارة والمؤسسات المختلفة في الدولة، غير أن سكان المنطقة
الفلامندية سرعان ما أخذوا يقاومون عملية
الفرنسة، واشتدت حركة المقاومة، وأخذت بعدا سياسيا يهدد الوحدة الوطنية بالانقسام الحتمي مما اضطر الدولة إلى تشكيل لجنة خاصة لدراسة
مطالب الحركة، وكانت تلك المطالب كالتالي:
(أ) ـ أن تكون اللغة الفلامندية لغة التعليم
في جميع المدارس الواقعة في المناطق الناطقة بالفلامندية، وكذلك جامعة (غائد) تحول
إلى جامعة فلامندية .
ونظرا لأن الفلامندية كانت لغة مشافهة فقط،
ولم تكن لها حروف وقواعد (كما قلنا) فقد نشط بعض القوميين النشطين من زعماء الحركة
الانفصالية (الفلاماندية) في اختراع حروف وقواعد لتلك اللغة، وأنشأوا بها صحافة
مكتوبة تنشر بين الناطقين بها.
وأخذوا يؤلفون بها بعض الآثار الأدبية،
ليبرروا مطالبهم السياسية بجعلها لغة وطنية ورسمية في التعليم والإدارة وفي كل مناحي الحياة لاحقا كما هو واقع الحال في الوقت الحاضر باستثناء
العاصمة (بروكسل) التي تكتب بشكل مغاير بحذف حرف واحد هو(x) لإثبات الاختلاف بين الشعبين (الفرنسي والفلاماندي) كما سنبين بأمثلة أخرى بعد حين!؟!
(ب) ـ أن تنشر جميع القوانين باللغة
الفلامندية والفرنسية وكذلك القضاة والمحامون والممثلون الديبلوماسيون في الخارج..
يجب عليهم أن يعرفوا اللغتين معا ....
(ت) ـ أن يقسم الجيش حسب اللغة التي يتحدثها
أفراده إلى كتائب فلامندية وكتائب فالونية (أي ناطقة بالفرنسية) حتى تكون
التعليمات المقدمة إلى كل جيش باللغة التي يعرفها (ويعتبرها اساس قوميته ..! ؟)
وقد تلكأت الحكومة كثيرا في تنفيذ هذه المطالب، لأنها كما هو واضح، ستكون طريقا
حتميا إلى الانقسام الحقيقي، وهو الهدف النهائي الذي كان يسعى إلى تحقيقه زعماء
الحركة الفلامندية (الاستقلالية)، وبقي الصراع قائما على أشده إلى الحرب العالمية
الأولى، حيث توحد المجتمع البلجيكي ضد الغزو الألماني في ذلك الوقت، وهمدت الحركة
المناهضة إلى حين غير أن الدولة لم تجد بدا في ذلك من تلبية بعض مطالب الفلاماند
شيئا فشيئا تحت الضغط القوي وتفادت خطر التقسيم بأن اعتبرت اللغتين الفلامندية
والفرنسية رسميتين في البلاد، ولا أفضلية لواحدة على الأخرى !!
"اللغة كانت ولا تزال هي القنبلة الموقوتة الكامنة في أعماق الدولة البلجيكية، والسبب وراء سقوط أغلب الحكومات منذ ثلاثينيات القرن الماضي."
والنتيجة من كل هذا الاختلاف اللغوي المغذى
بعوامل سياسية وقومية متداخلة حقيقية ومصطنعة (كما قلنا) أن أصبحت بلجيكا التي
كانت بلدًا موحداً مقسمة اليوم إلى جزأين متعاديين ومتنافرين باستمرار تفصلهما
حدود لغوية حقيقية، تطبع فيهما الجرائد وتبث منهما الإذاعات ومحطات التلفزة (
بلغتين مختلفتين حول أنباء وحوادث مختلفة وأحيانا متناقضة،) وهو وضع قسّم البلاد
أيضا من الناحية الاقتصادية إلى منطقتين مختلفتين تماما، إذ تمركزت الصناعة
والتصنيع بالمنطقة الناطقة بالفرنسية، وهو أمر يرتبط بالتعليم وتدعيم إمكانياته
منذ تأسيس "الوطن" البلجيكي سنة 1830م، ومنذ ما بعد الحرب العالمية
الثانية، وهو ما يفسر رد فعل الفلامنديين الذين تمكنوا من اصطناع لغة انطلاقا من
لهجة محلية ليس لها حروف ولا قواعد وهي اشبه باللهجات واللغات البربرية في بلدان إفريقيا الشمالية الحالية كما قلنا... وقد استغل دعاة
التميز والانفصال في الشمال كل الظروف
لتحقيق مطلبهم (مثل الأكراد في سوريا
والعراق وتركيا وايران....) حتى إنهم تحالفوا مع النازية في مقابل الدعم الهتلري، وخلق القضية أو الأزمة الملكية بعد
الحرب العالمية الثانية والمتعلقة بعودة الملك ليوبولد الثالث وهي قضية قسمت
بلجيكا إلى فلامان كاثوليكيين مؤيدين وفالون لائكيين معارضين، وهي مسألة لم تعرف
حلا إلا بتنازل ليوبولد الثالث" عن العرش في 16 تموز / يوليو 1951 لصالح
بودوان الأول"، لكن التاج لم يعد يمثل رمز الوحدة على الإطلاق مع بقاء التعصب
القومي الناتج عن الصراع اللغوي على أشده في هذا البلد المسيحي الصغير.!!
ومن الملاحظ أن كل الملوك في العالم ينسبون إلى
اسم البلد المملوك فنقول مثلا (ملك السويد، ملك بريطانيا، ملك الأردن، ملك المغرب)
إلا بلجيكا فيسمى ملكها منذ ذلك التاريخ (ملك البلجيكيين) لأن الوطن البلجيكي مقسم
عمليا من الناحية القومية بسبب العوامل
اللغوية (الوطنية والرسمية) والعاقبة لغير المتعظين من الشعوب وأشباه الدول
المستقلة بالمصادفة أو بالمصالحة والمرابحة مع المحتل السابق قبل أن تقع الفاس في
الرأس ولات حين مناص !!؟؟ والحكيم من يتعظ
بما وقع لغيره قبل أن تقع الضربة النجلاء في رأسه وربما بيده وفأسه وفلسه وذلك هو
الخسران المبين لصالح الأعداء المحتلين السابقين واللاحقين..!؟!!
برميل البارود
وسيظل ـ في نظرنا ـ برميل البارود الذي يهدد
الوحدة الوطنية في بلجيكا متمثلاً في
اللغات المختلفة التي يتحدث بها سكان البلاد
والتي تكاد تتشطر في الواقع إلى قسمين مختلفين، يتحدث كل منهما لغة تختلف عن لغة
القسم الآخر، بينما العاصمة بروكسل تجمع بين اللغتين (الفلامندية والفرنسية) وإن
كانت هي ذاتها أشبه بجزيرة وسط بحر من الأراضي الناطقة بالفلامندية و الفرنسية،
وقد كانت اللغة ولا تزال هي القنبلة الموقوتة الكامنة في أعماق هذه الدولة
الأوروبية التي لا يزيد عمرها عن 195 سنة !! كما كانت اللغة وراء كل المتاعب
والاضطرابات التي شهدتها البلاد خلال تاريخها القصير وكانت السبب ـ أيضا ـ وراء
سقوط أغلب الحكومات التي تولت السلطة والتي بلغت منذ سنة 1933 فقط 63 حكومة اضطرت
أغلبيتها أن تترك الحكم قبل انقضاء الفترة
المقررة لها دستوريا وهي أربع سنوات ومما قيل في ذلك أيضا ما ورد في مقال بجريدة
الأخبار" الجزائرية بعنوان: "حرب
اللغات تهدد مستقبل بلجيكا كدولة موحدة" جاء فيه:
"تعيش بلجيكا هذه الأيام واحدة من
الأزمات الوزارية العديدة التي كانت اللغة سببا لها حيث اضطرت حكومة "ليوثنا
مانز" الائتلافية إلى الاستقالة بعد 16 شهرا فقط من توليها السلطة بعد الخلاف
العاصف الذي نشب بين الأحزاب المؤتلفة في الحكومة حول مشروع قانون جديد يستهدف حل
مشكلة الخلاف حول اللغة، يقسم البلاد إلى مناطق منفصلة تتمتع كل منها بحكم ذاتي"،
وجاء أيضا في جريدة "لوموند" تحت عنوان: بين الخصام اللغوي والانهيار
الاقتصادي ما نصه: "وأما المطالب المتعلقة باللغة أو بالحكم الذاتي فكانت
مقتصرة على الفلامنديين فقط سيما بعد الحرب العالمية الثانية".
"كما تمكن الفلامنديون من اصطناع لغة انطلاقا من لهجة محلية بلا قواعد ولا حروف، لتصبح أداة سياسية للمطالبة بالانفصال."
وحول هذا الموضوع ورد أيضا في صحيفة المساء
الجزائرية: "إن ظاهرة الانفصال أو النزعة الاستقلالية التي اجتاحت العديد من
الدول الأوروبية خاصة بعد انهيار المعسكر الاشتراكي واندثار الشيوعية كإيديولوجية
تنضوي تحتها العديد من الطوائف العرقية، بدأ هاجسها يخيف الدول الأوروبية التي
يتشكل سكانها من طوائف عرقية غير متجانسة.
هذا التخوف عبرت عنه بلجيكا بتحولها رسميا إلى
دولة فيدرالية إلى الأبد تجنبا للطلاق المحتمل بين الطائفتين الرئيسيتين اللتين
يتشكل منهما سكان بلجيكا (وهما الفلامان والفالون) حيث تنص المادة الأولى من
الدستور التي صادق النواب البلجيكيون على تعديلها أول أمس على أن بلجيكا دولة
فيدرالية تتشكل من مجموعة مناطق بينما كانت تنص نفس المادة منذ تأسيس بلجيكا عام
1830 على أن بلجيكا مقسمة إلى مقاطعات.
وطبقا للإصلاح السياسي الحالي الذي يدرسه
البرلمان فإن السلطة المركزية في بلجيكا لن تتولى سوى النظام النقدي والجيش وجزء
من
العلاقات الخارجية بالإضافة إلى الضمان الاجتماعي!!!؟؟
وبمقتضى هذا الإصلاح أيضا، فإن مجلس الشيوخ
الذي يعتبر حاليا بمثابة الغرفة الثانية سيتحول إلى جمعية فيدرالية على غرار ما هو
قائم في الولايات المتحدة الأمريكية حاليا!!؟؟
وبالرغم من هذا التحول، فإن القليل فقط من
المحللين يرون بأن المؤسسات البلجيكية قد تحدد وجهها النهائي، ويشاطرهم في ذلك
المؤرخ بجامعة بروكسل الحرة السيد (جان ستانجيرز) الذي يرى بأنه يستحيل في الوقت
الحالي التكهن بما سيجري في بلجيكا خلال الأشهر أو السنوات المقبلة.. فإما أن هذا
الإصلاح سيعطي لبلجيكا سنوات من الهدوء، أو العكس، سيقود إلى النزعة الاستقلالية.
ويبدو أن الوزير الأول البلجيكي (جون لوك
اين) متحمس لهذا الإصلاح الجديد إذ أكد أنه لن يقود إلى التقسيم محذرا أولئك الذين
يرفضون هذه الخطوة بأنهم يلعبون لعبا خطيرا بمستقبل الدولة. ويشير ذلك إلى موقف
المتطرفين (الفلامان) الذين تأثروا بطلاق التشيك والسلوفاك، ويطالبون منذ سنوات بتقسيم البلاد إلى دولتين مستقلتين..!!؟؟" .
ولعل آخر ما نستشهد به من أمثلة حية عن
النتائج الخطيرة للصراع اللغوي على الوحدة الوطنية لهذا البلد هو مطالبة الفلاماند
منذ سنوات يجعل لغتهم رسمية التداول في مؤسسات الجيش الأوروبي ببروكسل على قدم
المساواة مع اللغة الألمانية والفرنسية المعتمدتين أوروبيا في هذه المؤسسات وهو ما
أذهل الجميع وجعل بعض الدول تفكر في تخيير بلجيكا بين سحب هذا الاقتراح، أو الخروج
من المجموعة الأوروبية وذلك لما تمثل هذه الحالة، من سابقة خطيرة تهدد مشروع
الوحدة الأوروبية في العديد من الأقطار ذات الوضع المماثل، ونذكر على سبيل المثال: كندا.
"إن الحالة في كاتالونيا تُعد مثالا حيا للصراع اللغوي ذي الخلفيات السياسية، حيث تحولت اللغة إلى ذريعة قومية وانفصالية."
لقد وقع هذا البلد كما هو معلوم ـ تحت
السيطرة الفرنسية فيما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، ولما خرج الفرنسيون
منه بقيت لغتهم منتشرة بين ربع أفراد المجتمع الكندي تقريبا، وعلى الرغم من انقضاء
قرنين كاملين على هذا التاريخ إلا أن اللغة الفرنسية ما تزال منتشرة كلغة إدارة
وثقافة لدى هذا الجزء من المجتمع الكندي في إقليم "الكيبك"، وما يزال
الكنديون في هذه المقاطعة يتعصبون للغة الفرنسية ويعتبرونها لغتهم القومية ضد
اللغة الأنجليزية، وما يزال الخلاف قائما على أشده إلى الآن بين اللغة الأنجليزية
واللغة الفرنسية، ونتج عن هذا الانقسام اللغوي نشوء أنماط ثقافية فرعية (فرنسية)
داخل الثقافة الكندية التي تشمل غالبية أفراد المجتمع ذات العلاقة المباشرة باللغة
الأنجليزية، وستظل هذه الثقافة الفرعية القائمة في مقاطعة (الكيبك) تهدد الوحدة
الوطنية للبلاد كلها، وقد تزداد استفحالا في المستقبل طالما ظلت اللغة الفرنسية
قائمة في هذه المقاطعة، وطالما ظلت العوامل السياسية تغذيها، ضمن الصراع الدولي القائم بين الهيمنتين الدوليتين القائمتين (بين الفرنكفونية والأنجلوفونية).
وحول هذا الموضوع ورد في جريدة "لوموند
" بتاريخ 1989/01/27م ما نصه: "صادق المجلس الوطني للحكومة الليبرالية
للسيد (بوراسا) على مشروع قانون (اللغة) يتعلق بتخفيض استعمال اللغة الفرنسية
بصفتها لغة إعلانات في الميدان التجاري، وهذا يقطع الاتفاق المتبنى منذ 11 سنة في
ميثاق اللغة الفرنسية، ولهذا قررت الحكومة إدخال إجراء يتمثل في تفضيل الازدواجية".
ولفهم سياق هذا القرار، يجب ذكر بعض الأحداث
السابقة، حيث سبق للحزب الليبرالي للسيد (بوراسا) خلال الحملة الانتخابية لسنة
1985 (انظر مقالنا السابق عن علاقة اللغة بالسياسة) أن وعد الناخبين الأنجلوفونيين بإدخال بعض
التعديلات في ميثاق اللغة الفرنسية، ولكن عندما انتخب نقضت الحكومة الليبرالية
الالتزام بوعودها.!!؟؟
وللأسباب السالفة الذكر، يشعر سكان الكيبك
بالتقصير في حقهم، وبالتالي أصبح الشارع المكان المفضل لهم للتعبير السياسي ونتيجة
لذلك برز للوجود الاتحاد الكيبكي الفرنسي.
وبعد أشهر قلائل من انتخاب حكومة الحزب
الكيبكي، انكبت على دراسة المسألة اللغوية، وظهر القانون الجديد، وسمي بـ (ميثاق
اللغة الفرنسية) :لكنه تعرض للنقد الشديد من طرف المعارضة الليبرالية!!
"الوطن البلجيكي مقسم عمليا من الناحية القومية بسبب العوامل اللغوية، حتى إن ملك البلاد يحمل لقب: ملك البلجيكيين، لا ملك بلجيكا."
ويتبين مما سبق أن أغلبية الكيبكيين
الفرنكوفونيين، لا زالوا متمسكين بميثاق اللغة الفرنسية ويطالبون الحكومة بتطبيق
الإجراءات اللازمة، ويؤكد هؤلاء الكيبكيون المجتمعون تحت إشراف حركة الكيبك
الفرنسية، التي تمثل المعارضة الشعبية، عن عزمهم على العيش في جو فرنسي بالكيبك،
وكل تنازل عن هذا المبدأ مرفوض لديهم مسبقا .!!؟؟
وحول الموضوع ذاته ورد عن وكالة الأنباء الفرنسية من
"أتاوا" بكندا ما نصه: "اللغة الفرنسية مهددة بحدة في كندا ومقاطعة
الكيبك بالخصوص ذات الأغلبية السكانية الفرنكوفونية، والتي تعتبر المقاطعة الأكثر
ازدواجية لغوية "أنجليزية ـ فرنسية".
وقد جاء في تقرير سنوي أن اللغة الفرنسية هي
لغة الأقلية في كندا. وأقل منها في أمريكا الشمالية، وأن هذه اللغة مهددة من الداخل والخارج من
حيث النوعية ومن حيث الصلاحية قياسا بالأنجليزية.
ويعترف التقرير بأنه بالرغم من عدم قبول
الكيبك قرار المحكمة العليا القاضي بالسماح باستعمال اللغتين (الأنجليزية
والفرنسية) في الملصقات التجارية، الأمر الذي فتح جدلا لغويا أخذ منعطفا خطيرا في
نهاية السنة الماضية عندما أرادت حكومة الكيبك الحفاظ على الوجه الفرنسي للمقاطعة
برفض قرار المحكمة العليا السماح للتجار الأنجلوفونيين باستعمال ملصقات باللغة
الأنجليزية، وفي المقابل صادقت هذه المحكمة على القانون (178) الذي يقر استمرارية
منع الملصقات المزدوجة خارج المحلات، ويسمح به فقط داخل المحلات الصغيرة التي لا
يزيد عدد العمال فيها عن 50 عاملا).!!؟؟
وقد أدى هذا القرار إلى ردود أفعال كثيرة
رفضت من خلالها مقاطعتان فكرة اعتبار الكيبك ذات طابع اجتماعي متميز في الدستور الكندي .
ولقد أدى هذا الصراع (السياسي ـ اللغوي)
المزمن الدائر في هذا البلد (الأوروبي ـ المسيحي) منذ قرنين إلى رفض مشروع الدستور
الفدرالي المقدم للنقاش منذ سنة 1987 وتمثل اللغة العامل الأول والوحيد في هذا
الرفض، بدليل أنه أتى من سكان مقاطعة الكيبك فقط، ما دون سكان العشر مقاطعات
الأخرى التي يتكون منها الاتحاد الفيدرالي الكندي، وهو ما يهدد الوحدة الوطنية
لكندا في الصميم، حيث تعالت الأصوات المطالبة باستقلال مقاطعة الكيبك الناطقة
بالفرنسية على بقية المقاطعات الأخرى الناطقة بالأنجليزية، وذلك إثر مظاهرات
عاشتها البلاد خلال شهر ماي وجوان من سنة (1990) لم يشهد تاريخ كندا أعنف منها،
وقد بلغ الأمر فيها بالمتظاهرين أن داسوا صفوفا صفوفا على العلم الوطني الكندي مستبدلين
إياه بعلم آخر مكون في معظمه من اللون الأزرق مقابل اللون الأحمر المميز للعلم
الكندي الرسمي (الحالي) مرددين أناشيد كيبكية (فرنسية) مما يذكرنا بموقف الجنرال
دوغول وشعاره المعروف (تحيا الكبك الحرة)
وما يزال هذا الصراع قائما على أشده وسيزداد استفحالا في المستقبل بكل تاكيد مما قد يعيد طرح الاستفتاء على استقلال
المقاطعة على غرار ما وقع سنة 2003 والذي لم ينجح بفارق ثلاث نقاط فقط حينذاك مما
انقذ الوحدة الكندية من الزوال الابدي مثل تيمور الشرقية أو جنوب السودان!!؟!
والمثال الآخر للصراع الناجم عن الاختلاف
اللغوي داخل المجتمع المسيحي الواحد في الدولة الواحدة الأقرب منا (جغرافيا وتاريخيا) هو: الوضع في إسبانيا.
أولا ـ كاتالونيا:
يشكل الكاتلان المنطقة الواقعة في الشمال
الشرقي من إسبانيا وتمتد على إقليم كل من برشلونة وتاراغونة وليريدا، ويمثل عددهم
عشر الشعب الإسباني تقريبا خلال القرن التاسع عشر. لقد عبر الكاتالانيون عن شعورهم
القومي بالتصدي للوجود النابوليوني في إسبانيا فظلوا رافضين له، إذ لم تنقطع
الثورة ضد فرنسا.
وابتداء من سنة 1814 وتحت تأثير سياسة
المركزية، اتخذت الحكومة الإسبانية موقف الرفض من المطالب الانفصالية للكاتالان
المتمثلة في اصرارهم على استعمال اللغة الكاتالنية التي تنحدر من أصل لاتيني مثل
الإسبانية والبرتغالية تماما ولكنها تتختلف في نطقها وتركيبها عن القشتالية
المنحدرة هي الأخرى كلهجة محلية عن اللغة اللاتينية التي كانت لغة كل الدول
الأوروبية لعدة قرون كما هو معلوم.. لكن الشعب الكاتالاني ظل متمسكا بهذه اللغة ومتعصبا
لها في التعامل اليومي، كما ظل الكهان يبشرون بها!!
"ستظل مقاطعة الكيبك في كندا برميلا موقوتا يهدد الوحدة الوطنية، ما دامت اللغة الفرنسية قائمة كرمز للتمايز القومي ضد الإنجليزية."
وإن هذا الشعور بالتميز كان من أقوى الدوافع
في تكتل الكاتالان حول مفهوم قومي له تاريخه ومبرراته تجاه القشتاليين الذين اصبحت
لهجتهم هي اللغة الرسمية والوطنية المعتمدة في كامل تراب الدولة الإسبانية في الجزيرة الأيبرية وفي معظم بلدان أمريكا
اللاتينية (ماعدا البرازيل) التي تبنت اللغة البراغالية، ومنه وجد بعض المثقفين
والأدباء ضالتهم لتبرير مطالبهم بتطوير اللغة الكاتالونية التي لم تكن أواخر
القرن التاسع عشر ـ مستعملة إلا كلهجة متداولة في القرى النائية والمناطق المنعزلة.!؟
إن الحالة في كاتالونيا تُعَدُّ مثالا حيا
للصراع اللغوي ذي الخلفيات السياسية، ولدور القادة السياسيين الطموحين في اللجوء
إلى اللغة كوسيلة لتحريض الجماهير ضد الحكومة المركزية، وتُعد أيضا مثالا على أن
اللغات ليست بالضرورة سببا للخلاف والنزاع في ذاتها، وإنما هي من الدوافع والعوامل
المساعدة على ايجاد الخلاف لتبرير تفجير
النزاع و اعطائه طابعا عرقيا وبالتالي قوميا وسياسيا ثم انفصاليا واستقلاليا.
وبالرغم من أن كاتالونيا اليوم تتمتع
بالاستقلال الذاتي، وباستعمال حر للغة الكاتالونية، حتى إنها تملك القناة الثالثة
في التلفزة الإسبانية والتي تفتح وتقفل قنواتها دون النشيد الإسباني الوطني، لكن
الروح الانفصالية الطامحة إلى الاستقلال الكلي عن الدولة المركزية ما تزال تغذي
تنظيمات سرية وعلنية إلى اليوم. وقبل عملية الاغتيال التي جرت ببرشلونة في
1987/12/26 والتي أودت بحياة جندي أمريكي وجرحت آخرین ظهرت ملصقات جدارية عن
منظمات استقلالية كاتالونية تندد بالوجود الأمريكي في إسبانيا (والذي بلغ 12000
جندي)، أما بعد العملية، فقد تبنت الحدث منظمة الأرض الحرة (Terra libra) والجيش الأحمر لتحرير كاتالونيا(Armee rouge de liberation Catalane ERC)كما تبنت
المنظمتان عملية أخرى سابقة جرت أحداثها يوم 1987/10/14، وهذا كله كما يلاحظ كان
للصراع اللغوي وبالتالي القومي دور في حدوثه كما هو ملاحظ، والوضع نفسه ما يزال
قائما حتى الآن وسيظل كذلك مثل البركان الخامد الذي قد ينفجر في اي حين لولا كبحه من طرف الدولة المركزية ومساندتها
المطلقة من الدولة الفرنسية بالذات للمصالح المشتركة بينهما بالنسبة لجزيرة كرسيكا الفرنسية المطالب
سكانها كذلك بالاستقلال بسبب التميز
اللغوي (المحلي) وكذلك مقاطعة الباسك (الواقعة بين فرنسا وإسبانيا) والمطالبة هي
الأخرى بالانفصال والاستقلال منذ عقود وتسببت في صراعات وحروب وقلاقل كثيرة ماتزال قائمة ومشتعلة كالنار تحت الرماد حتى
الآن!؟
ثانيا ـ مقاطعة الباسك:
إن الوضع السائد في بلاد الباسك منذ ما
يقارب القرن من الزمان كان وما يزال يمثل أبرز النماذج لأنواع الصراع السياسي ذي
الأصل اللغوي.
وإن أصل المعضلة برمتها يعود لكون سكان هذه
المنطقة الواقعة على الحدود الشمالية المتداخلة بين إسبانيا وفرنسا على طول جبال
البرانس يتحدثون لغة محلية مغايرة للغة
الإسبانية واللغة الفرنسية معا علي الرغم أن كلا اللغتين تنحدران أصلا من لهجتين
لاتينيتين متداولتين حصريا لدى سكان باريس ومدريد وتحولتا مع الزمن وعوامل تتعلق بمركزية السلطة (في عاصمة الحكم) وهو ما وجد
فيه بعض ذوي الطموح السياسي أفضل الذرائع لتكوين حركات سياسية ذات طابع عسكري..
للمطالبة بالانفصال (القومي) عن الوطن الإسباني، مثلما يوجد عليه الوضع حاليا أيضا
في جزيرة كورسيكا الفرنسية للمطالبة
بالاستقلال عن فرنسا، نتيجة التميز اللغوي ايضا في نظر الانفصاليين (الكرس) كما
أسلفنا..
ولقد وجدت الحركات الباسكية في السابق بعض
الدعم الفرنسي باسم الديمقراطية ضد ديكتاتورية (فرانكو) إلا أن تحول إسبانيا ذاتها
إلى الديمقراطية الحقيقية وانتهاجها سياسة اللامركزية والانفتاح الديمقراطي نحو
الباسك بإعطائهم حق الحكم الذاتي (على غرار كاتالونيا) قد كشف النوايا الحقيقية
للحركة الباسكية، وأظهر خطرها ليس على إسبانيا وحدها، بل على فرنسا أيضا، على
اعتبار الحدود المشتركة بين البلدين كما قلنا..
وهذا ما دفع فرنسا بعد أن كانت متعاطفة ولمدة
نصف قرن مع هذه الأقلية إلى تغيير موقفها منها، وقد شنت تبعا لذلك حملات اعتقال
ونظمت حملات تسليم متتالية وواسعة ضد مناضلي حركة الباسك الانفصالية إلى السلطات
الإسبانية !؟!؟ .
مما يفسر المظاهرات الاحتجاجية الشديدة التي
نظمها أنصار الحركة الباسكية ضد فرنسا على تسليمها 141 مناضلا باسكيا (إلى غاية 2
يوليو 1986)
ويفسر أيضا طابع التضامن الفلامانكي ـ
الباسكي ضد اللغة الفرنسية، حيث رفض أحد زعماء الحركة الفلامانكية البلجيكية (.T.A.K) أن يدلي بأي تصريح للصحفيين الناطقين
بالفرنسية في حين سمح باستجواب طويل باللغة الفرنسية لواحد من مبعوثي التلفزة
الباسكية هو في اعتقادنا من باب الانتقام ورد الفعل (أو الغاية تبرر الوسيلة) إذا
كانت الوسيلة ذات ثمن محسوب بدقة!؟ وهذه هي السياسة، التي لا تعرف المبادئ، ولكنها
تعرف المصالح فقط، وتتغير معها حيثما مالت واتجهت ولو من النقيض إلى النقيض بحيث
يصبح عدو الأمس صديقا حميما اليوم والعكس بالعكس وليقس مالم يقل في العديد من
الحالات في البلدان المذكورة وغير المذكورة وما العراق والسودان وتركيا وايران وكشمير بين الهند
وباكستان وأرمينيا وأذرابيجان وروسيا والشيشان والصين الشعبية وتايوان والروهينغا
في بورما والهيغور في تركيسان الشرقية وسبتة
ومليلية في المملكة المغربية.!!؟؟