كتاب عربي 21

قانون الإجراءات الجنائية في مصر.. أين من فعلوها؟!

سليم عزوز
"تعديل يفقد قيمته لعدم معالجة مشكلة تدوير القضايا داخل السجن"- جيتي
"تعديل يفقد قيمته لعدم معالجة مشكلة تدوير القضايا داخل السجن"- جيتي
أصبح قانونا لقيطا، لا يتبناه أحد! فمنذ رفض الرئيس المصري التصديق على قانون الإجراءات الجنائية الجديد، وإعادته للبرلمان، وهناك فرح منصوب لإجراء الضرورة هذا، وكأنني أنا من كان يقف وراء هذا التشريع "الكارثي"، بحسب وصف أحد الإعلاميين، وهو نفسه من دافع عن القانون سيئ السمعة، بالباع والذراع، وأكثر الإعلاميين الذين هلّلوا لهذا الإجراء الرئاسي هم أنفسهم من هلّلوا للقانون!

وحتى لا ننسى، فهذا القانون تمت الموافقة عليه وقوفا في البرلمان، استشعارا لعظمته، لكن رئيس البرلمان والرئيس السابق للمحكمة الدستورية العليا، حنفي الجبالي، اختفى الآن في ظروف غامضة، ولم يدافع وزير الخارجية عن رأيه في القانون من حيث كونه "ثورة تشريعية"، وذلك في معرض رده على الاعتراض الأممي للقانون. فاختفى شهود الزور، وبدا القانون لقيطا لا أب له ولا أم، ومقطوعا من شجرة، وكأن وزارة العدل لم تُعده، وكأن الحكومة لم تُقره، وكأن البرلمان لم يتبنَّه، وكأن الرئيس لم يسمع بعاصفة المعترضين عليه، وكأن وقت مجلس النواب الثمين لا قيمة له فيُهدر في المناقشات داخل اللجان، والمناقشات في الجلسات العامة، ليتمكن المجلس الموقر بعد ذلك من تأييده وقوفا، فأين من فعلوها؟!

الحقيقة أن الحكومة هي من وقفت وراء هذا القانون، وهي لا تعمل بعيدا عن إرادة الرئيس. والحقيقة أن البرلمان كان ملكيا أكثر من الملك، فاحتفى به، وبالغ في الاحتفاء حتى الموافقة عليه وقوفا، مع إهداره للحقوق والحريات، وعدم معالجته للثغرات التي أنتجتها الممارسة لدولة الاستبداد فيما يختص بالحبس الاحتياطي، الذي تحوّل من إجراء احترازي إلى عقوبة. ولم يضع القانون حدا لمهزلة تدوير القضايا، حتى صار يتم التجديد للمحبوسين في قضايا الرأي

مهزلة تدوير القضايا:

الحقيقة أن الحكومة هي من وقفت وراء هذا القانون، وهي لا تعمل بعيدا عن إرادة الرئيس. والحقيقة أن البرلمان كان ملكيا أكثر من الملك، فاحتفى به، وبالغ في الاحتفاء حتى الموافقة عليه وقوفا، مع إهداره للحقوق والحريات، وعدم معالجته للثغرات التي أنتجتها الممارسة لدولة الاستبداد فيما يختص بالحبس الاحتياطي، الذي تحوّل من إجراء احترازي إلى عقوبة. ولم يضع القانون حدا لمهزلة تدوير القضايا، حتى صار يتم التجديد للمحبوسين في قضايا الرأي، كلما انتهت مدة الحبس المقررة بعامين، ومنهم من بقي داخل القضبان لسنوات طويلة تجاوزت الأربع سنوات! كما أن القانون سيئ السمعة أعطى النيابة سلطة مراقبة الاتصالات، والمنع من السفر، ومصادرة الأموال!

وإذا كان من العبث أن يصدر هذا القانون بينما رئيس البرلمان رجل قضاء في الأصل، وتولى رئاسة واحدة من أعلى المحاكم في مصر (الدستورية العليا)، فإنه يعد عبثا أيضا هذا التطوع من وزير شؤون البرلمان محمود فوزي، بتفخيم القانون، وهو القادم من قضاء الحريات (مجلس الدولة). والرجل أخذته الجلالة فوصفه بأنه إصلاح تشريعي تاريخي يضع مصر في طريق تحديث المنظومة القضائية. وأمام الاعتراضات الأممية، فإن وزير الخارجية الحالي بدر عبد العاطي قال إن القانون ثورة تشريعية!

ولا تثريب عليهم، فالدنيا وجهات نظر، وقد تكون هذه وجهة نظرهم فعلا في القانون، لكن ينتقص من ذلك أنهم لم يدلوا بدلوهم والرئيس يعطل هذا التشريع التاريخي، ويبدد هذه الثورة التشريعية. وقد ظهر فوزي عبر الشاشات متحدثا في الإجراءات، وأن سلطة رئيس الجمهورية الاعتراض على القوانين وإعادتها للبرلمان، فهل قال له أحد إن الرئيس تغوّل على السلطة التشريعية مثلا؟!

المشكلة ليست في القوانين:

ما علينا، فلا أملك قدرة للتهليل لهذه الخطوة، لأنني أعتقد أن مشكلة مصر دائما ليست في القوانين فقط، ولكن في إساءة استخدامها كذلك، وفي فلسفة السلطة من القوانين المرتبطة بالحريات. فالقانون بحسب التيارات النقدية الحديثة هو أداة في يد القوى المسيطرة، وقد كانت مصر لسنوات طويلة تحكم بقانون الطوارئ منذ أن أقره الرئيس جمال عبد الناصر، لكن القانون كنص كان يمكن التعايش معه باعتباره ظلما محدد المدة!

فيحق لمن يتم اعتقاله التظلّم بعد ثلاثين يوما، وأن يُعفى تظلّمه من الرسوم، على أن تفصل المحكمة في التظلّم خلال خمسة عشر يوما من تاريخ تقديمه، وإلا تعيّن الإفراج عنه فورا، ولوزير الداخلية الاعتراض خلال خمسة عشر يوما، ليتم الفصل في اعتراضه خلال خمسة عشر يوما أيضا!

وفي بداية عهد مبارك كان اعتراض وزير الداخلية روتينيا، ولكن الحكم برفض الاعتراض تحصيل حاصل. وبعد سنوات من هذه الممارسة كان تحايل السلطة، فيُفرج لساعات ليُعاد الاعتقال من جديد، ثم بدء إجراء آخر، وهو تنفيذ الحكم بالإفراج صوريا وعلى الورق، وإعادة الاعتقال من جديد. لكن ذلك كان لمرة أو مرتين، ثم تطور سلوك الحكم الاستبدادي، فهناك من قضوا ثلاثة عشر عاما رهن الاعتقال بموجب إساءة استخدام قانون الطوارئ، الذي هو أخف كثيرا من الواقع الأليم!

واللافت أن مصر وإذا استردت أنفاسها بإلغاء قانون الطوارئ بعد ثورة يناير المجيدة، فقد تم تطبيقه مرة أخرى في سنة 2017، وحتى عام 2021، عندما اكتشفت السلطة أنها ليست بحاجة إليه، وأن في إساءة استخدام السلطة في القوانين الطبيعية ما يؤدي الغرض، بدون قانون الطوارئ الذي هو هدف واضح للرفض الخارجي. فكان الحبس الاحتياطي هو الأداة، والتدوير من داخل السجن عند انتهاء فترة السنتين، فيُحبس المسكين على ذمة قضية جديدة، الأمر الذي لم يُعالجه القانون الجديد الذي أعاده الرئيس للبرلمان مرة أخرى، وهو القانون الذي أقرّ المحاكمة عن بُعد، وعلى وجود المحامي حيث يوجد موكله، أي معه في السجن حيث يخضع لوطأة وجوده، كما قال تقرير لمفوضية الأمم المتحدة. كما أقرّ القانون الجديد التحقيق بدون حضور محامٍ مع المتهم! الأمر الذي اعترضت عليه نقابة المحامين، لكن لم يهتم أحد باعتراضات المعترضين، وقال المستشار حنفي إن التعديلات تستهدف تحقيق العدالة الناجزة، والعدالة البطيئة فرع من الظلم. مع أن القانون الجديد جعل النقض على مرحلتين.. فعن أي عدالة ناجزة يتحدث القاضي السابق؟!

الأمر يستدعي البحث عن الأسباب وراء هذه الخطوة، بعيدا عن التهليل الذي مارسه البعض عبر الشاشات الليلة الماضية. وفي غياب تحليل لذلك يدخل البعض مرحلة أحلام اليقظة

إن لهو الحديث، مثل خفض مدة الحبس الاحتياطي لـ18 شهرا بدلا من عامين، هو تعديل يفقد قيمته لعدم معالجة مشكلة تدوير القضايا داخل السجن!

السر في إعادته للبرلمان:

وكان يمكن لي فهم اعتراض الرئيس على القانون على أن مصر تفتح صفحة جديدة تنتقل فيها من الاستبداد الثقيل، لو أن هذا ضمن منظومة مكتملة، يتم خلالها الإفراج عن كل من قضى سنتين في الحبس الاحتياطي نأيا به من أن يكون إيلاما غير مبرر، يؤكد قسوته في غير ضرورة.

أما وأن الحال على ما هو عليه، وأن هناك من هم رهن الحبس الاحتياطي لسنوات طويلة، مع هذا الإجراء الرئاسي، فإن الأمر يستدعي البحث عن الأسباب وراء هذه الخطوة، بعيدا عن التهليل الذي مارسه البعض عبر الشاشات الليلة الماضية. وفي غياب تحليل لذلك يدخل البعض مرحلة أحلام اليقظة!

إن هناك اعتراضا أمميا على التعديلات التي أُدخلت على قانون الإجراءات الجنائية، تمثل في بيان صدر من مفوضية الأمم المتحدة في 30 أيار/ مايو الماضي. وإذا فقدت القاهرة التأييد المجاني من جانب حاكم البيت الأبيض، فسيكون التصديق على القانون هو الباب الذي سيدخل منه الشيطان. وترامب "يناغش" مصر (من المناغشة)، وقد بدا منحازا لها، ومهتما بأمرها في المخاطر التي سيتسبب فيها سد النهضة. وهذه العاطفة الجياشة هي محاولة لفتح الباب للقبول بالتهجير، وقد يجد أن هذا الأسلوب لا يفضي لشيء، فيستغل التصديق على قانون الإجراءات الجنائية وتعديلاته، فيتقدّم على أنه معني بملف حقوق الإنسان في مصر، ويهدف إلى الضغط للموافقة على التهجير!

وددت لو كان الإجراء الرئاسي نابعا من إرادة داخلية ترى ضرورة فتح صفحة جديدة، ولا معنى للإمعان في التنكيل بالخلائق! لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه!

يا حسرة على العباد!

x.com/selimazouz1
التعليقات (0)