يبدو المشهد
في جنوب آسيا وكأنه إعادة إنتاج لصراعات قديمة بثوب جديد، حيث يقف بلدان مسلمان،
باكستان
وأفغانستان، على حافة مواجهة مفتوحة، رغم ما يجمعهما من عقيدة وجوار وتاريخ مشترك.
إلا أن ما يُدار في الخفاء من مصالح وتحالفات ومشاريع دولية يجعل من هذا التوتر أكثر
تعقيدا مما يبدو، إذ لم يعد
صراع حدود أو قبائل، بل جزءا من صراع عالمي على النفوذ
بين واشنطن وبكين، وبين المشروع الصهيوني وحركة الاستقلال الإسلامي في المنطقة.
الجذور
التاريخية للتوتر
الحدود الفاصلة
بين البلدين، المعروفة بـ"خط دوراند"، وُضعت زمن الاحتلال البريطاني، وظلّت
محلّ خلاف منذ تأسيس باكستان عام 1947. أفغانستان كانت الدولة الوحيدة التي رفضت الاعتراف
بضمّ المناطق البشتونية لباكستان، معتبرة أنّها اقتُطعت من جسدها التاريخي. هذا الخلاف،
مع الامتداد القبلي والتداخل العرقي، جعل الحدود بين البلدين خطّ اشتعال دائم أكثر
من كونها حاجزا سياسيا.
تعتبر الهند أن وجودها في أفغانستان ورقة ضغط على باكستان، ومجالا استراتيجيا لحصارها من الغرب بعد أن ظلّ النزاع في كشمير يغلي في الشرق. دعمت نيودلهي الحكومات الأفغانية المتعاقبة بالمساعدات والمشروعات التنموية، وفتحت برامج تدريب عسكرية واقتصادية
ثم جاءت الحقبة
السوفييتية لتزيد النار اشتعالا، حين دعمت باكستان المجاهدين ضدّ الاتحاد السوفييتي،
ثم أصبحت ساحة خلفية للنفوذ الأمريكي خلال الحرب الباردة. وبعد سقوط كابل بأيدي طالبان،
ظلّت إسلام أباد تتعامل مع أفغانستان بمنطق "العمق الاستراتيجي"، حتى تغيّرت
الحسابات بعد انسحاب أمريكا عام 2021.
كانت حركة
طالبان الأفغانية في نظر باكستان أداة لتأمين حدودها الغربية ومنع تمدد النفوذ
الهندي،
لكن المعادلة تغيّرت بعد أن استقرت طالبان في الحكم. فالحركة لم تعد تدين بالولاء لإسلام
أباد كما في الماضي، بل بدأت تبحث عن سيادة مستقلة وتوازنات جديدة، بل وسُجّلت هجمات
متبادلة بين الجيش الباكستاني ومسلحين يتخذون من أفغانستان منطلقا لهم، فتحولت من حليف
إلى خصم. وبينما كانت باكستان تأمل في حكومة صديقة تضمن أمنها، وجدت نفسها أمام جارٍ
يرفض الانصياع، ويعيد رسم معادلات القوة في المنطقة، خصوصا مع تقارب كابل مع الهند.
بدون شك الهند
الخصم الدائم؛ فمنذ عقود تعتبر الهند أن وجودها في أفغانستان ورقة ضغط على باكستان،
ومجالا استراتيجيا لحصارها من الغرب بعد أن ظلّ النزاع في كشمير يغلي في الشرق. دعمت
نيودلهي الحكومات الأفغانية المتعاقبة بالمساعدات والمشروعات التنموية، وفتحت برامج
تدريب عسكرية واقتصادية. وبينما ترى باكستان ذلك تغلغلا معاديا داخل حدودها الجيوسياسية،
تراه الهند حقّا في بناء نفوذ شرعي في دولة تحتاج إلى التنمية. وهكذا أصبحت أفغانستان
ساحة تنافس بين نيودلهي وإسلام أباد، وأداة بيد كلٍّ منهما لإضعاف الآخر.
أين يقف
المشروع الأمريكي- الصهيوني في خلفية المشهد؟
الحقيقة لم
تغب واشنطن يوما عن هذه الساحة، فهي التي صنعت الحرب وأسقطت الأنظمة ورسمت الخرائط؛
انسحابها من أفغانستان لم يكن نهاية الدور الأمريكي، بل بداية لمرحلة جديدة من إدارة
الصراع بالوكالة، لإبقاء المنطقة في حالة توتر دائم تُبرّر استمرار النفوذ الأمريكي
في آسيا الوسطى.
لم تغب واشنطن يوما عن هذه الساحة، فهي التي صنعت الحرب وأسقطت الأنظمة ورسمت الخرائط؛ انسحابها من أفغانستان لم يكن نهاية الدور الأمريكي، بل بداية لمرحلة جديدة من إدارة الصراع بالوكالة
من منظور استراتيجي،
فإن واشنطن تسعى إلى منع تشكّل محور آسيوي قوي تقوده الصين وباكستان وإيران وروسيا،
ولهذا فإن إشعال النزاعات الثانوية بين الدول الإسلامية يخدم هذا الهدف. وهنا يتقاطع
المشروع الأمريكي مع الرؤية الصهيونية التي تستهدف تفكيك أي وحدة إسلامية أو تحالف
جغرافي يشكل خطرا على التفوق الإسرائيلي أو الأمريكي في المدى البعيد.
وأما الصين
فهي الحليف الصامت، فبينما تنشغل القوى الغربية بالتحريض والضغط، تعمل الصين بهدوء
على توسيع نفوذها الاقتصادي من خلال مشروع "الحزام والطريق" وممر الصين–
باكستان الاقتصادي (CPEC). تحاول
بكين أن تُدخل أفغانستان في هذا المشروع العملاق لتأمين طريق التجارة نحو غرب آسيا،
لكنها في الوقت نفسه تخشى أن يؤدي استمرار النزاع إلى تهديد حدودها الغربية أو تغذية
النزعات الانفصالية في إقليم شينجيانغ.
لذلك، تلعب
الصين دور "الوسيط الهادئ"، توازن بين طالبان وباكستان، وتحاول توظيف العلاقات
الاقتصادية لتثبيت الاستقرار دون صدام مباشر مع أمريكا.
الرؤية الشرعية
والاستراتيجية
من منظورٍ
إسلامي وشرعي، فإن سفك الدماء بين دولتين مسلمتين هو خسارة استراتيجية للأمة. والعدو
الحقيقي ليس في كابل ولا في إسلام أباد، بل في المشروع الذي يريد تحويل العالم الإسلامي
إلى فسيفساء متنازعة.
يقول الله
تعالى: "وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ" (الأنفال:
46). فالاقتتال بين المسلمين لا يخدم إلا خصومهم، ويعطي المبرر للتدخل الأجنبي وتفتيت
الصف الداخلي.
إن الواجب
الشرعي والسياسي اليوم هو أن تتوجه باكستان وأفغانستان نحو عقد مصالحة استراتيجية تحفظ
الحدود، وتمنع التلاعب الخارجي، وتحوّل التنافس إلى تكامل اقتصادي وأمني يخدم الشعوب
لا القوى الكبرى.
ختاما نقول:
إن ما يجري على الحدود الباكستانية- الأفغانية ليس إلا مرآة لحرب أوسع تُخاض على وعي
الأمة واستقلال قرارها. ومهما اختلفت الأنظمة أو تباينت المصالح، فإن الدم المسلم واحد،
والعدو الذي يفرّقنا واحد.
فإذا لم تدرك
الدول الإسلامية أن الانقسام هو السلاح الأهم في يد المشروع الأمريكي– الصهيوني، فلن
تقوم لنا قائمة، وستتحول أرض الإسلام من خنادق الجهاد والتحرير إلى مختبرات لصراعات
مصطنعة تُدار من الخارج.