يشهد
لبنان مرحلة من أشدّ مراحله
قسوة منذ أكثر من خمس سنوات، إذ رسم
البنك الدولي في تقريره الصادر في تشرين الأول/
أكتوبر 2025 صورة قاتمة عن الواقع اللبناني الذي يعيش فصلا جديدا من أزمته الممتدة.
فقد أشار التقرير إلى أنّ البلاد ما زالت تعاني من ضعف في المالية العامة وتراجع حاد
في الخدمات الأساسية، في ظل
أزمة اقتصادية خانقة تفاقمت بفعل الحرب الأخيرة التي شهدها
لبنان أواخر عام 2024. هذه الحرب أدت إلى نزوح نحو 1.2 مليون شخص، وأسفرت عن خسائر
بشرية ومادية جسيمة قدّرها البنك الدولي بحوالي 6.8 مليارات دولار من الأضرار المادية
و7.2 مليارات دولار من الخسائر الاقتصادية المباشرة، فيما بلغت احتياجات إعادة الإعمار
والتعافي قرابة 11 مليار دولار.
وعلى الرغم من هذه العوائق، سجّل التقرير ملاحظة إيجابية تمثلت في إنهاء
الفراغ السياسي الذي دام سنتين؛ عبر انتخاب رئيسٍ جديد للجمهورية وتشكيل حكومة مطلع
عام 2025، الأمر الذي ساهم في تحريك بعض عجلة المؤسسات. كما ساعد هذا التطور السياسي،
إلى جانب تحسّن الوضع الأمني النسبي، في انتعاش الحركة السياحية خلال الصيف، حيث سجّل
لبنان في شهري تموز/ يوليو وآب/ أغسطس زيادة ملحوظة في أعداد الوافدين تجاوزت نسبتها
30 في المئة مقارنة بالعام السابق.
الفجوة المالية بين خسائر القطاع المصرفي والودائع المحجوزة فتظل سيفا مصلتا فوق الاقتصاد، تُقدّر بنحو سبعين مليار دولار لم تُحدّد بعد كيفية توزيعها بين الدولة والمصارف والمودعين
لكنّ هذا التحسّن النسبي لا يخفي عمق الأزمة البنيوية التي تطال الاقتصاد
والمجتمع معا. فقد كشف البنك الدولي بالأرقام عن اتساع رقعة
الفقر بشكل غير مسبوق،
إذ ارتفعت نسبة الأفراد الذين يعيشون بأقل من 3 دولارات يوميا من 0.1 في المئة عام
2013 إلى 5.9 في المئة عام 2023، في حين ارتفعت نسبة الذين يعيشون بأقل من 4.2 دولار
يوميا من 0.3 في المئة إلى 16 في المئة. أما الفئة التي تكسب أقل من 8.3 دولار يوميا
فقد تضاعفت بشكل مقلق من 5.5 في المئة إلى أكثر من 50.7 في المئة من السكان، أي أنّ
نصف اللبنانيين باتوا تحت هذا الخط، ما يعني أنّ الفقر أصبح القاعدة لا الاستثناء.
فهل من يشعر مع اللبناني الصلوب على خشبة المناكفات السياسية الداخلية المغلفة بالشعبوية
من جهة وعلى وقع رياح الإقليم المفتوحة والمهددة بحروب من جهة أخرى؟
بنظرة على المستوى الاقتصادي الكلي، توقّع التقرير أن يسجّل الناتج المحلي
الإجمالي الحقيقي نموّا بنسبة 3.5 في المئة في عام 2025 و4.0 في المئة في عام 2026،
بعد انكماش حاد بلغ 7.1 في المئة في عام 2024. ورغم أنّ هذه الأرقام تُظهر بداية تعافٍ
نسبي، إلا أنّها تبقى هشّة لأنها تستند إلى عوامل مؤقتة مثل السياحة والتحويلات الخارجية،
فيما لا تزال القطاعات الإنتاجية الحقيقية تعاني من ضعفٍ مزمن. كما أشار التقرير إلى
تحسّن تدريجي في مؤشّر التضخّم الذي انخفض بنسبة 14 في المئة على أساس سنوي في منتصف
عام 2026، مع توقع تراجع نسبته إلى ما دون 10 في المئة خلال عام 2025، وهو تحسّن يرتبط
باستقرار نسبي في سعر الصرف منذ آب العام المنصرم، غير أنّ التحسّن في المؤشرات العامة
لا ينعكس بالضرورة على حياة المواطنين.
فالعجز في الحساب الجاري ما زال مرتفعا بنسبة 15.8 في المئة من الناتج
المحلي في عام 2025، والعجز البنيوي في الموازنة وإن تراجع شكليا إلى مستويات الصفر،
إلا أنه يستند إلى فرضيات غير واقعية في ظل ضعف الجباية وغياب الإصلاحات المالية الجذرية.
أما الفجوة المالية بين خسائر القطاع المصرفي والودائع المحجوزة فتظل سيفا مصلتا فوق
الاقتصاد، تُقدّر بنحو سبعين مليار دولار لم تُحدّد بعد كيفية توزيعها بين الدولة والمصارف
والمودعين، علما أن الكثير يقال حتى الساعة ولكن حذار من معادلة كثرة الطباخين والخبراء؛
أن يحرقوا الطبخة في شعب بات أنينه يضرب عنان السماء.
على الصعيد الاجتماعي، تظهر الأرقام أنّ الفقر بات يتجاوز البعد المادي
ليطال البنية المجتمعية نفسها. فقد تراجعت القدرة الشرائية لأكثر من ثمانين في المئة
من الأسر، وارتفعت معدلات الهجرة خصوصا بين الشباب إلى ما يفوق 40 في المئة في الفئة
العمرية ما بين 25 و30 سنة، فيما أُنهك القطاع العام بالعجز والفساد وضعف الخدمات الصحية
والتعليمية.
يُظهر تقرير البنك الدولي الأخير بالأرقام ما يعيشه اللبنانيون بالمعاناة: نصفهم تحت خطّ 8.3 دولار في اليوم، وناتجهم المحلي تآكل إلى ما دون نصف مستواه قبل الانهيار، فيما لا تزال الموازنة عاجزة والديون متراكمة
في المقابل، يشير التقرير إلى إمكان تحقيق تحسّن ملموس إذا ما استثمر
لبنان الاستقرار السياسي الجديد في إطلاق إصلاحات فعلية. فالمطلوب قبل كل شيء إعادة
هيكلة مالية حقيقية تقوم على إعادة توزيع عادل للخسائر وتحفيز النمو عبر القطاعات الإنتاجية،
لا الاكتفاء بإجراءات ضريبية متفرقة. ويمكن، وفق تقديرات البنك الدولي، أن يحقق الاقتصاد
اللبناني نموا مستداما بنسبة تفوق 4 في المئة خلال ثلاث سنوات إذا ما استُعيدت الثقة
الداخلية والدولية من خلال حوكمة شفافة وتخفيض فعلي للهدر والتهريب الذي يُقدّر حجمه
السنوي بأكثر من 1.5 مليار دولار.
يبقى الواقع الأمني والعسكري عنصرا حاسما في هذا المشهد، فكل اضطراب على
الحدود أو احتكاك داخلي يُعيد البلاد خطوات إلى الوراء ويهزّ ثقة المستثمرين والمانحين.
ولهذا فإنّ أيّ خطة إصلاح مالي لن تنجح ما لم تترافق مع استقرار أمني وسياسي فعلي يضمن
بيئة حاضنة للنمو والاستثمار.
في المحصلة، يُظهر تقرير البنك الدولي الأخير بالأرقام ما يعيشه اللبنانيون
بالمعاناة: نصفهم تحت خطّ 8.3 دولار في اليوم، وناتجهم المحلي تآكل إلى ما دون نصف
مستواه قبل الانهيار، فيما لا تزال الموازنة عاجزة والديون متراكمة. ومع ذلك، فإنّ
بصيص الأمل الوحيد يكمن في أن الأزمات الكبرى قد تفرض الإصلاح، وأنّ لبنان الذي عرف
كيف ينهض من حروبه السابقة، قادر على استعادة توازنه إذا ما أُعيد بناء الثقة بالدولة
ومؤسساتها التي لا زالت عالقة بين كيفية المقاربة الدقيقة التي يطلبها المجتمع الدولي
والتي عنوانها "الإصلاح والسلاح".