مقالات مختارة

فوز ممداني: لا زال هناك أمل في أمريكا

أحمد الأخرس
جيتي
جيتي
في الرابع من نوفمبر 2025، فاز زهران ممداني، ذلك التقدمي الشاب الذي كان قبل بضعة أشهر فقط يحصد أرقاما لا تكاد تلامس خانة الآحاد في استطلاعات الرأي، بانتخابات رئاسة بلدية مدينة نيويورك، نجح في أكبر مدينة في الولايات المتحدة، وفي المدينة التي تضم أعلى نسبة من اليهود في العالم.

وقد حقق ذلك رغم اصطفاف المؤسسة السياسية، وأصحاب المليارات، ومعظم وسائل الإعلام ضده في انسجام ثنائي بين الحزبين قلّ أن شهدناه.

وفي بلد أمضى العقد الأخير يشكك في جهازه المناعي الديموقراطي الداخلي، هذه النتيجة لها معنى كبير: ما زال بإمكان أمريكا أن تصحح نفسها حين يصبح الأمر مصيريا.

وبالنسبة لي، شخص شاهد الحياة العامة في الولايات المتحدة تنحرف أكثر فأكثر عن مركزها الأخلاقي، خصوصا فيما يتعلق بالشرق الأوسط والعدالة وقيمة الحياة الفلسطينية، فإن فوز ممداني كان شيئاً لم أشعر به منذ سنوات: أمل ديمقراطي أمريكي.

خاض ممداني حملته على شيء بسيط ظاهريا: مدينة علينا أن نتمكن من العيش فيها، لم يحاول إعادة اختراع العجلة، تحدث عن الإيجارات وعن النقل العام، تحدث عن ارتفاع أسعار البقالة.

ركز حملته على المعاناة اليومية للإنسان العادي في أغلى مدينة كبرى في أمريكا، لم يختبئ خلف بروباغندا وطنية ولا مسرحيات الحروب الثقافية ولا خطابات عامة فضفاضة، ركّز على الأسعار اليومية التي تنهك البيوت من الأعلى والأسفل.

وقد فعل كل ذلك دون أن يتخلى عن موقفه الأخلاقي تجاه غزة.

لم يناور، لم يلطف رسائله، لم يغير لغته حسب الجمهور المستمع. لم يتراجع قيد أنملة عن موقفه القاطع وغير القابل للمساومة ضد حرب الإبادة على غزة، حتى في ظل مناخ سياسي كان فيه تقريبا كل مستشار سياسي سيعتبر هذا انتحارا سياسيا.

وهذا فعلاً كان موقف أقوى القوى في المشهد السياسي الأمريكي، فقد وقفت مؤسسة الحزب الديمقراطي ضده، وكذلك آلات الحزب الجمهوري.

ظهر أندرو كومو بوصفه المرشح البديل للمؤسسة، وتحول إلى وعاء التجسيد لأصحاب المليارات وقوة الإعلام وذاكرة الأجهزة التقليدية. ودعمه الرئيس ترامب أيضا، ومعه كبار المتبرعين والممولين الديمقراطيين.

ونادرا ما شهد التاريخ السياسي الأمريكي الحديث هذا المستوى من تلاحم القوة السياسية ـ يساراً ويمينا ووسطاً وشركات وإعلاما ـ على هدف واحد: إسقاط زهران ممداني، ومع ذلك، فاز، وفاز براحة.

وهذا بحد ذاته يكشف شرخا في أسطورة “الحتمية”، لعقود، تعلم الأمريكيون ـ ضمنا أو صراحة ـ أن نتائج معينة يُفترض أنها مقدّرة سلفاً. وأن “المرشحين الجديين” يتم اختيارهم من قبل أقطاب الأحزاب.

وأن أصحاب الأموال يرسمون حدود الممكن، ويُترك للناخبين التحرك ضمن تلك الحدود الضيقة، وأن التموضع في السياسة الخارجية تجاه إسرائيل هو بوابة القبول إلى الساحة السياسية.

ممداني كسر هذه الثلاثة.

وهناك جانب آخر يستحق التأمل الأخلاقي: بعض الأشخاص الذين كان بإمكانهم تغيير التاريخ اختاروا الخطأ. فالرئيس السابق باراك أوباما ـ الذي يمتلك رأس المال الثقافي الأكثر تأثيراً بين السياسيين الأحياء ـ بقي صامتاً.

كان يمكن أن يكون أحد الأشخاص في المكان الصحيح، على الجانب الصحيح من التاريخ. لكنه اختار أن يحافظ على ذاكرة المؤسسة التي كانت تتشقق أمام أعيننا.

هذه اللحظة تتطلب مواجهة.

إذا استطاع ممداني أن يفوز في نيويورك مع الحفاظ على اتساقه الأخلاقي بالنسبة لغزة، وهو يتحدث في الوقت ذاته عن الإيجار وأسعار تذاكر مترو الأنفاق، فإن الحجة القائلة بأن الوضوح الأخلاقي والتأثير السياسي غير قابلين للالتقاء في أمريكا ـ هي كذبة.

إن فوزه يذكّر الشباب الأمريكي أن بإمكانهم رفض الجبن الأخلاقي. وأنه بإمكانهم عدم التضحية بالمبادئ من أجل البقاء السياسي. وأنهم يستطيعون قول الحقيقة حتى عندما تقول لهم طبقات الممولين، وطبقات المستشارين، وطبقات الإعلام التقليدي، ومؤسسة السياسة الخارجية: لا تستطيعون.

هذه نقطة انعطاف. لأن النظام هذه المرة ألقى بكل ما يملك ضده. وفشل في منع الناخبين من اختياره.

أملي الآن، في ظل هذا المشهد، أن يبدأ الأمريكيون أخيراً بالسماح لأفضل مرشح بأن يكون هو الأفضل فعلاً ـ لا مجرد المرشح القادر على إرسال الإشارات المناسبة التي تطمئن الشركات الكبرى، وشركات السلاح، ومتعهدي السياسة الخارجية، وممولي اللوبي الصهيوني، وطبقة المستشارين الذين يحققون أرباحاً حين تبقى السياسات العامة كما هي.

لم يكن مقدّراً لممداني أن يفوز هذه المعركة. كل المؤشرات البنيوية كانت تقول إنه سيخسر. ومع ذلك، نحن هنا الآن.

أعتقد أن هذه الانتخابات ستُدرَس لعقود. ليس فقط لأنها كانت صدمة انتخابية، بل لأنها المرة الأولى منذ زمن طويل التي تُظهر فيها الولايات المتحدة استعداداً لمكافأة الثبات الأخلاقي على حساب الحسابات السياسية.

يجب ألا نضيع معنى هذه اللحظة.

لقد عاد لديّ الأمل من جديد ـ ليس أملاً ساذجاً، ولا أملاً خيالياً ـ بل أملاً واقعياً، مستنداً إلى تجربة انتخابية حقيقية.

آمل أن الجيل القادم من القادة السياسيين الأمريكيين لن يقيس نفسه بناء على من يصادق، بل بناء على من يختار أن يقف معه كإنسان. آمل نحو الأفضل: أن نتجاوز أخيراً طبقة سياسية ترى أن طريق السلطة يمر عبر الخضوع لدولة أجنبية تمارس الفظائع الجماعية.

ما أثبته ممداني ـ لكل شاب أمريكي يراقب ـ هو أنه من الممكن أن تنتصر في أمريكا دون أن تبيع روحك.

مبروك، سيادة العمدة

أحمد الأخرس
التعليقات (0)

خبر عاجل