قضايا وآراء

فضيحة عابرة للحدود أم زلزال سياسي عالمي؟

طارق الزمر
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وجيفري إبستين- جيتي
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وجيفري إبستين- جيتي
تمثّل "وثائق إبستين" أكبر ملف أخلاقي-سياسي قابل للانفجار في النظام الدولي خلال العقدين الأخيرين، ليس فقط بسبب الوقائع الجنائية المرتبطة بشبكة الاتجار الجنسي بالقاصرات، بل بسبب طبيعة "الشبكات العليا" التي لامستها القضية: رؤساء دول، وقضاة، ومصرفيين، ضباط سابقين، شخصيات أكاديمية، وشركات كبرى. ولهذا، فإن الكشف الكامل -وليس الجزئي- عن الوثائق سيكون حدثا يضغط على البنى الأخلاقية والسياسية في الغرب، وقد يمسّ شرعية مؤسسات ما زالت ترفع شعارات القيم والشفافية وحقوق الإنسان.

أما عن أهم التداعيات المحتملة في حال الإعلان الكامل عن الوثائق:

أولا: اهتزاز صورة النخبة الأمريكية والغربية، فقد كانت الولايات المتحدة دائما تروّج لفكرة "النخبة الأخلاقية"، القادرة على قيادة العالم بمعايير حقوقية وقيمية. لكن فضيحة إبستين، في حال الكشف الكامل، ستضرب هذه الصورة في عمقها؛ لأن أسماء كثيرة داخل النخبة الحاكمة والمتصلة بمؤسسات حساسة ظهرت في الوثائق المسربة جزئيا. الكشف الكامل سيؤدي إلى:

فضيحة إبستين، في حال الكشف الكامل، ستضرب هذه الصورة في عمقها؛ لأن أسماء كثيرة داخل النخبة الحاكمة والمتصلة بمؤسسات حساسة ظهرت في الوثائق المسربة جزئيا

• تراجع الثقة الشعبية بالنظام السياسي الأمريكي، خاصة في ظل استقطاب حاد بين الجمهوريين والديمقراطيين.

• تعزيز الخطاب الشعبوي الذي يعتبر أن "النخب فاسدة وخارجة عن المحاسبة".

• تقويض مصداقية المؤسسات القضائية والأمنية التي حاولت -بشكل أو بآخر- تضييق نطاق التحقيق.

هذا التآكل الأخلاقي قد ينعكس على السياسة الخارجية الأمريكية التي تستند في كثير من خطابها إلى "القيم" كأداة دبلوماسية.

ثانيا: انفجار أزمة داخل الحزبين الديمقراطي والجمهوري، فقد تتضمن الوثائق وفق التحليلات الرائجة- أسماء مؤثرة من كلا الحزبين، ما يعني أن الملف لن يكون قابلا للاستثمار السياسي من طرف واحدة. وهذا سيقود إلى:

1. نقاشات داخلية حادة حول الفساد الأخلاقي والتأثير على الانتخابات.

2. محاولات تشريع جديدة تهدف لإعادة الثقة بإصلاح منظومات المراقبة والتمويل.

3. تزايد الميل إلى تطييف القضية: كل حزب سيسعى لتوجيه الاتهام للآخر، مما قد يعمّق الانقسام الأمريكي.

في ظل حساسية اللحظة الانتخابية، قد تتحول القضية إلى أحد ملفات الضغط الكبرى المؤثرة على اتجاهات التصويت والاصطفاف.

ثالثا: اهتزاز الثقة بالمؤسسات القضائية والأمنية الأمريكية، فأحد أخطر الأسئلة التي يطرحها الملف: كيف كان إبستين محميا لمدة 20 عاما؟ الكشف الكامل قد يقود إلى:

• مساءلات داخل مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI).

• فتح ملفات تخص "الحصانات" التي مُنحت لإبستين عام 2008.

• تدقيق شديد في علاقات شبكات النفوذ المالي-الأمني التي كانت تحيط به.

إذا اتضح أن مؤسسات الدولة كانت تعلم ولم تتحرك، فهذا سيخلق صدمة أخلاقية وسياسية واسعة في الداخل الأمريكي.

رابعا: التداعيات الدولية، خصوصا على بريطانيا وإسرائيل. ففي بريطانيا فإن ملف الأمير أندرو مرتبط مباشرة بإبستين، ومع أن بعض الصفحات قُدمت سابقا، إلا أن الكشف الكامل سيسبّب:

• ضغطا كبيرا على العائلة المالكة.

• استعادة النقاش حول "صلاحية المَلكية" في القرن الحادي والعشرين.

• مطالبات برفع الحصانة عن شخصيات كان يُعتقد أنها فوق القانون.

أما إسرائيل، فوجود اسم رئيس وزراء سابق، إضافة لشخصيات مالية وأكاديمية إسرائيلية، يجعل الملف حساسا للغاية. الكشف الكامل قد يُظهر:

• شبكات تبادل مصالح تتجاوز العلاقات الشخصية التقليدية.

• دورا محتملا لعناصر في البنية الأمنية.

• إمكانية تأثير الملف على المشهد السياسي الإسرائيلي المُتخم بالأزمات أصلا.

هذا سيكون له انعكاسات على العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية وعلى صورة تل أبيب في الغرب.

خامسا: أثر مباشر على شركات التكنولوجيا والإعلام، حيث تتضمن الوثائق إشارات غير مباشرة إلى أصحاب منصات كبرى، أو شخصيات مرتبطة بإدارات إعلامية وتقنية ذات نفوذ واسع. الكشف الكامل قد يؤدي إلى:

• تحقيقات برلمانية حول مدى تورط شركات التواصل الاجتماعي في التغطية أو التواطؤ.

• نقاش حول "أخلاقيات النخبة التكنولوجية" وتأثيرها على حرية المعلومات.

• تصاعد الحديث عن "الاحتكار الأخلاقي" لشركات وادي السيليكون.

هذا يفتح الباب لمعركة جديدة بين الدولة الفيدرالية وشركات التكنولوجيا، في سياق الصراع الدائر أصلا حول الرقابة والخصوصية.

سادسا: انعكاسات على الخطاب الحقوقي العالمي، حيث سيطرح العالم سؤالا مركزيا: كيف يمكن لقوة كبرى تحاضر العالم في حقوق الإنسان أن تتستر على شبكات اتجار جنسي دولية؟ الكشف الكامل سيعطي:

• الدول المنافسة (الصين- روسيا- إيران) مادة ضخمة في الدعاية السياسية.

• الحركات الحقوقية الدولية فرصة لإعادة تعريف "ازدواجية المعايير الغربية".

• الحركات النسوية والمنظمات المناهضة للاتجار بالبشر قوة أكبر في الضغط والتشريع.

كما سيقود إلى إعادة قراءة "نموذج الحماية الحقوقية الغربية" بوصفه نموذجا هشّا أكثر مما يُقدَّم في الخطاب الرسمي.

سابعا: احتمال اندلاع صراع داخل الدولة العميقة، فالقضية تمسّ شبكات من:

• رجال أعمال كبار.

• سياسيين نافذين.

• شخصيات في الاستخبارات.

• أكاديميين وممولين من الصف الأول.

الكشف الكامل قد يؤدي إلى:

• صراع أجنحة داخل المؤسسة الأمريكية بين من يريد الإغلاق ومن يريد الفضح وفق مصالحه.

• صعود "أوراق ابتزاز" متبادلة بين شخصيات تتصارع على النفوذ.

• إعادة تشكيل بعض شبكات السلطة التي تشكلت خلال الثلاثين عاما الماضية. هذا الصراع قد لا يظهر للعلن، لكنه سيُحدث ضجيجا داخل النظام السياسي.

هل نحن أمام قنبلة ستنفجر أم سيتم دفن الملف؟ من غير المتوقع -واقعيا- أن تسمح الدولة العميقة الأمريكية بكشف كامل وشامل ومترابط لكل الوثائق؛ لما لذلك من آثار سياسية كارثية

ثامنا: أثر على الوعي العالمي؛ لحظة انهيار الرواية الأخلاقية الغربية. فالقضية ليست مجرد فضيحة جنسية؛ إنها فضيحة بنيوية تكشف عن:

• انحراف النخبة.

• زيف بعض السرديات الأخلاقية.

• هشاشة مؤسسات الرقابة.

في لحظة صعود مشاريع عالمية منافسة كتلك الصينية والروسية والتركية، قد يؤدي الكشف الكامل إلى إضعاف الجاذبية الأخلاقية-القيمية للنموذج الغربي، وهو أحد أهم الأسلحة الناعمة التي اعتمد عليها الغرب منذ الحرب العالمية الثانية.

هل نحن أمام قنبلة ستنفجر أم سيتم دفن الملف؟ من غير المتوقع -واقعيا- أن تسمح الدولة العميقة الأمريكية بكشف كامل وشامل ومترابط لكل الوثائق؛ لما لذلك من آثار سياسية كارثية. ومع ذلك، فإن كل دفعة جزئية تُنشر تساهم في:

• خلخلة الثقة بالنخبة.

• تعزيز الشعبوية.

• إعادة تعريف مفهوم الشفافية.

• وكشف جزء من طبيعة شبكات النفوذ التي تحكم العالم المعاصر.

إن الكشف الكامل، لو حدث، سيكون زلزالا عالميا يعادل في أثره فضائح "ووترغيت"، و"بنتاغون بيبرز"، وقد يتجاوزهما لأنه يمسّ جوهر السلطة وقيمها وليس فقط إدارتها. وفي عالم يعيش حالة انتقال بين نظام قديم يترنح ونظام جديد لم يولد بعد، قد تكون "وثائق إبستين" إحدى الشرارات التي تسرّع مسار التحول العالمي الكبير.
التعليقات (0)

خبر عاجل