قضايا وآراء

إسرائيل وصراع السرديات مع العرب

حامد أبو العز
"إسرائيل التي ترفض الانسحاب من الأراضي التي احتلتها في سوريا لا تتصرف وفق موازين تفاوضية، بل وفق فلسفة وجودية كاملة، الأرض ليست موضوعا للنقاش"- إكس
"إسرائيل التي ترفض الانسحاب من الأراضي التي احتلتها في سوريا لا تتصرف وفق موازين تفاوضية، بل وفق فلسفة وجودية كاملة، الأرض ليست موضوعا للنقاش"- إكس
من يراقب مسار التطبيع العربي مع إسرائيل يكتشف أنه ليس مجرد خطوة سياسية تُتخذ في غرف مغلقة، بل حدثٌ يعيد تشكيل مفهوم السلطة ذاته. فالتطبيع في هذه اللحظة التاريخية لا يشبه أي تطبيع مضى؛ إنه لا يُقاس هذه المرة بميزان المصالح ولا بحسابات المؤسسات الأمنية، بل يُقاس بقدرته على تفكيك الرابط بين الحاكم والمجتمع. فالسلطة التي تمد يدها لإسرائيل اليوم تفعل ذلك خارج أي إطار شعبي، وكأنها تُعلن انفصالها الرمزي عن الجماعة التي تُفترض أنها تمثلها.

ذلك أن التطبيع، في جوهره، ليس فعلا خارجيا بقدر ما هو اعترافٌ ضمني بانهيار الثقة بالذات. فالأنظمة التي تتجه نحو التطبيع تفعل ذلك وكأنها ترى نفسها عاجزة عن بناء شرعية داخلية قادرة على الصمود، فتبحث عنها في اعتراف خارجي، ولو كان هذا الاعتراف صادرا عن قوة احتلال. وهذا السلوك ليس مجرد انحراف سياسي، بل هو انكشاف عميق في بنية الوعي السياسي لدى هذه الأنظمة، كأنها اختارت أن تستبدل شعبها بحليف لا يرى فيها سوى أداة.

والحقيقة أن ما سرّبته وسائل الإعلام الإسرائيلية حول المحادثات مع سوريا يمنحنا نافذة دقيقة لهذا الخلل العميق. فإسرائيل التي ترفض الانسحاب من الأراضي التي احتلتها في سوريا لا تتصرف وفق موازين تفاوضية، بل وفق فلسفة وجودية كاملة، الأرض ليست موضوعا للنقاش، بل مسلّمة تاريخية؛ والاحتلال ليس حالة عابرة بل هوية وجودية للكيان الإسرائيلي؛ أما "السلام" فهو مجرد إطار تحصل من خلاله إسرائيل على اعتراف عربي بواقع صنعتْه بالقوة. وحين تشترط إسرائيل "تطبيعا كاملا" مقابل أن تسمح بفتح نقاش حول مستقبل الأرض المحتلة، فإنها لا تفاوض بقدر ما تُملي سرديتها على الآخر، وكأنها تقول لنا نحن العرب، إن أردتم أن نعيد النظر في جرحٍ فتحناه نحن، فعليكم أولا أن تمنحونا شرعية هذا الجرح.

"السلام" فهو مجرد إطار تحصل من خلاله إسرائيل على اعتراف عربي بواقع صنعتْه بالقوة. وحين تشترط إسرائيل "تطبيعا كاملا" مقابل أن تسمح بفتح نقاش حول مستقبل الأرض المحتلة، فإنها لا تفاوض بقدر ما تُملي سرديتها على الآخر، وكأنها تقول لنا نحن العرب، إن أردتم أن نعيد النظر في جرحٍ فتحناه نحن، فعليكم أولا أن تمنحونا شرعية هذا الجرح

هنا يظهر البعد الفلسفي الحقيقي، فإسرائيل لا تريد سلاما، بل تريد تحويل الاحتلال إلى حقيقة ميتافيزيقية غير قابلة للتفكيك. والمفارقة أن بعض الأنظمة العربية تتعامل مع هذا المنطق وكأنه عرض سياسي قابل للأخذ والرد، بينما شعوبها ترى فيه امتدادا لنفس البنية العنيفة التي خبرتها في فلسطين ولبنان وسوريا، والتي لا يمكن أن تُقابل إلا بالرفض والمقاومة.

إن التجربة أثبتت أن الشعوب ليست وحدها مَن يرفض التطبيع، بل إن الرفض بات جزءا من المعنى السياسي للوجود العربي ذاته. فما بعد السابع من أكتوبر لم يكن مجرد حدث عسكري، بل كان لحظة زلزلة للوعي العالمي. لقد جردت الحرب على غزة كل الأقنعة، فكشفت أن إسرائيل لا تبحث عن سلام، ولا تتقن إلا سياسة الغزو، ولا تفهم إلا القوة. وفي هذه اللحظة تحديدا، خرجت ملايين الأصوات حول العالم، لا لأنها عربية أو مسلمة، بل لأنها أدركت أن ما يجري في غزة ليس صراعا على الحدود، بل مواجهة بين مفهومين للإنسان، إنسان يُعامل كقيمة، وإنسان يُعامل كهدف عسكري.

هذا التحول العالمي جعل التطبيع يبدو، حتى من منظور فلسفة القوة، فعلا غير عقلاني. فالحكومات التي تُطبّع في ظل هذا الوعي الجديد لا تعلن فقط انشقاقها عن شعوبها، بل تعلن انحيازها إلى سردية خاسرة، لأن إسرائيل نفسها رغم قوتها العسكرية باتت في مواجهة عزلة أخلاقية ونقد عالمي يتسع يوما بعد يوم. وبالتالي فإن التطبيع ليس "براغماتية"، كما يروّج بعضهم، بل مقامرة سياسية مفتوحة على انهيارات داخلية لا يمكن التكهن بمساراتها.

وإذا كان التطبيع في الماضي يُقدَّم كخيار "سلام"، فإنه اليوم يُقرأ بوصفه انحيازا للقوة العمياء ضد الضمير الإنساني. فالشعوب التي شاهدت غزة تُدكّ بالصواريخ، ورأت الأطفال يُنتشلون من تحت الأنقاض، لم تعد ترى في التطبيع فعلا سياسيا، بل فعلا أخلاقيا فاسدا. والأنظمة التي تتجاهل هذا التحول إنما تفعل ذلك من منطلق قراءة قاصرة إذ تظن أن الزمن كفيل بامتصاص الغضب الشعبي، لكنها لا تدرك أن الزمن اليوم لم يعد يعمل ضد الشعوب، بل معها. فوسائل التواصل، ووسائط الإعلام الجديدة، والقدرة على إنتاج الرواية من الداخل، جميعها جعلت من الشعوب فاعلا سياسيا لا يمكن الالتفاف عليه.

إن التطبيع لا يسقط الأنظمة لأنه فعل "خيانة" كما تقول الشعارات، بل لأنه يفكّك الشرعية من الداخل. فالشرعية ليست نصا دستوريا ولا خطابا رسميا؛ إنها شعور جمعي بأن السلطة تتحرك ضمن حدود أخلاقية مقبولة. وعندما تتجاوز السلطة هذه الحدود، خاصة في قضية حساسة كالقضية الفلسطينية، فإنها تنسحب من المجال الذي يمنحها قوة البقاء، وحين تُقدم على التطبيع رغم كل ما يجري، فإنها كمن يُعلن طوعا أنها لم تعُد تمثل شعبها.
السلام الذي تبنيه القوة ليس سلاما، بل هدنة مؤقتة تنتظر لحظة الانفجار، ومن يعتقد أن التطبيع سيجلب الاستقرار، إنما ينسى أن الاستقرار لا يُبنى على تحالفات، بل على انسجام داخلي بين الشعوب وسلطاتها


ولعل العبارة التي تتردد اليوم، "الشعوب ليست كما كانت قبل غزة"، ليست توصيفا عاطفيا بل حقيقة بنيوية. فالوعي الشعبي العربي والعالمي لم يعد منغلقا داخل الدولة القطرية، بل أصبح وعيا كونيا يرى في فلسطين مرآة له. ومن هنا، فإن أي تقارب مع إسرائيل يُقرأ جماهيريا على أنه تحالف مع الظلم، وانفصال عن الهوية، وإهانة للقيم التي صارت جزءا من ضمير الناس.

أما إسرائيل، فهي لا تزال أسيرة منطق القوة ذاته، تحتل، وتفرض، وتبتز، وتطالب الآخرين بأن يقدّموا لها ما لم تستطع أن تحققه في الحرب. وهذا المنطق، كما أثبت التاريخ، لا يمكن أن ينتج سلاما. فالسلام الذي تبنيه القوة ليس سلاما، بل هدنة مؤقتة تنتظر لحظة الانفجار، ومن يعتقد أن التطبيع سيجلب الاستقرار، إنما ينسى أن الاستقرار لا يُبنى على تحالفات، بل على انسجام داخلي بين الشعوب وسلطاتها.

إن الحقيقة التي لا يريد كثيرون الاعتراف بها هي أن التطبيع في هذه اللحظة ليس خطوة نحو المستقبل، بل نحو هاوية سياسية. فالأنظمة التي تفقد ثقة شعوبها ليست بحاجة إلى أعداء خارجيين كي تسقط؛ يكفيها أن تتخذ قرارا واحدا من هذا النوع، كي تُفقد نفسها الجذور التي تستند إليها. وهذا هو الدرس الذي يفهمه "الإنسان العاقل" فعلا، فالعقل السياسي ليس في معرفة كيفية بناء العلاقات، بل في معرفة متى تكون العلاقة خيانة لجوهر الوجود السياسي نفسه.

وعليه، فإن التطبيع ليس مجرد خيار خاطئ، بل خطيئة استراتيجية، ومن يظن أنه يستطيع السير في هذا الطريق من دون أن يدفع الثمن، فليعد قراءة الجغرافيا والتاريخ والمجتمع. فإسرائيل لا تفهم إلا القوة، والشعوب لا تُخدع إلا مرّة واحدة، والأنظمة التي تراهن على الزمن ستكتشف أن الزمن كما جرى دائما كان أقرب إلى الشعوب منه إلى الحكّام.
التعليقات (0)

خبر عاجل