تناولت صحيفة "
معاريف" العبرية بعض تفاصيل حرب الأيام الـ12 بين
إسرائيل وإيران، وكيف استهدفت الأسلحة الإسرائيلية مجمعات سكنية ومنازل في العاصمة طهران وفق عملية أطلقت عليها تل أبيب اسم "نارنيا"، والتي كان الهدف منها ضرب "العقل النووي"، ظناً بأنها الطريقة الأنجح لوقف برنامج
إيران النووي بالكامل أو تأخيره وتعطيله.
واستندت الصحيفة العبرية في تقريرها الذي أعده مراسل الأخبار في معاريف "إيلي ليون"، إلى تحقيق شامل نُشر في صحيفة واشنطن بوست بالتعاون مع برنامج "فرونت لاين" التابع لشبكة "بي بي إس"، كيف كانت العملية جزءًا من هجوم أوسع نطاقًا مصمم ليس فقط لإلحاق الضرر بالبنية التحتية لإيران، بل لتدمير "مركز المعرفة" البشري، وهو جيل من المهندسين والفيزيائيين الإيرانيين الذين تعتقد المخابرات الأمريكية والإسرائيلية أنهم يعملون على تحويل المواد الانشطارية إلى قنبلة ذرية، ومن هنا بدأت إسرائيل مساعيها إلى تصفية العقول المدبرة للبرنامج الإيراني لتعطيل تقدم طهران في هذا المجال.
اظهار أخبار متعلقة
حيث لقي محمد مهدي طهرانجي، عالم الفيزياء النظرية وخبير المتفجرات الخاضع للعقوبات الأميركية بسبب دوره في أبحاث الأسلحة النووية، مصرعه داخل شقته في الطابق السادس بمجمع سكني مشهور باسم "مجمع الأساتذة" في العاصمة طهران، وبعد ساعتين فقط لقي فريدون عباسي حتفه في ضربة أخرى وسط العاصمة، وهو عالم فيزياء نووية ترأس سابقًا منظمة الطاقة الذرية الإيرانية وكان مدرجًا على قوائم العقوبات الأميركية.
وفي اليوم نفسه والأيام التي تلته، أعلنت إسرائيل أنها اغتالت 11 من كبار العلماء النوويين الإيرانيين، هز الهجوم الواسع والمتعدد الشرق الأوسط وأطلق تهديدات إيرانية بالانتقام، وأطاح في الوقت نفسه الراهن على اتفاق دبلوماسي يقيد أنشطة طهران النووية ويخضعها لرقابة دولية صارمة.
قدّر مسؤولون في دولة الاحتلال والولايات المتحدة والوكالة الدولية للطاقة الذرية أن البرنامج النووي الإيراني تأخر لسنوات عديدة عقب الهجوم، إلا أن الوضع يختلف تمامًا عن ادعاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأن البرنامج "دُمر بالكامل"، حيث يكشف تحقيق الواشنطن بوست تفاصيل جديدة حول الهجمات وتأثيرها، استنادًا إلى مقابلات مع مسؤولين إسرائيليين وإيرانيين وعرب وأمريكيين.
تشير صحيفة معاريف إلى أن إسرائيل سبق واغتالت علماء إيرانيين، لكنها التزمت الصمت طوال الوقت، وقد قام عملاء لها داخل إيران على دراجات نارية بزرع قنابل في سيارات أهداف منتخبة بطهران، أو استخدموا رشاشات يتم التحكم فيها عن بُعد، كما حدث في اغتيال محسن فخري زاده عام 2020.
لكن في حزيران/يونيو الماضي، تجاوزت إسرائيل الحدود، وصرح ضابط كبير في سلاح الجو شارك في التخطيط للهجوم بأن "فرصة عملياتية" قد سنحت أخيرًا للتحرك، حيث قام محللو الاستخبارات الإسرائيليون بتجميع قائمة تضم أهم 100 عالم نووي في إيران، ثم قاموا بتضييق نطاقها إلى حوالي 12 هدفًا رئيسيًا، مع بناء ملفات مفصلة عن عملهم وتحركاتهم.
سقوط عشرات الضحايا المدنيين
الصحيفة العبرية أقرت بأن الهجمات تسببت بسقوط عشرات الضحايا في صفوف المدنيين، وقد تحققت صحيفة واشنطن بوست ومنظمة بيلينغكات الاستقصائية بشكل مستقل من مقتل 71 مدنيًا في خمس غارات استهدفت علماء نوويين، وتم التحقق باستخدام صور الأقمار الصناعية، وتحديد المواقع عبر الفيديو، ونعي الضحايا، وسجلات المقابر.
كما أسفر الهجوم على "مجمع الأساتذة" عن مقتل عشرة مدنيين، بينهم طفل رضيع يبلغ من العمر شهرين. وفي الموجة الأولى من الهجمات، حاولت إسرائيل اغتيال العالم محمد رضا صديقي صابر في منزله بطهران، لم يكن صابر موجودًا في المنزل آنذاك، لكن ابنه البالغ من العمر 17 عامًا قُتل في الغارة. وفي اليوم الأخير من الحرب والموافق 24 حزيران/يونيو، قُتل صابر في منزل أقاربه بمحافظة جيلان، على بُعد حوالي 320 كيلومترًا من العاصمة، حيث كان قد ذهب لتقديم العزاء في ابنه، وأسفر هذا الهجوم عن مقتل 15 مدنيًا، بينهم أربعة قاصرين. وزعم مسؤولون أمنيون إسرائيليون أنهم بذلوا قصارى جهدهم للحد من الخسائر في صفوف المدنيين.
بالتزامن مع عمليات القتل، أطلق الاحتلال على حملته الأوسع اسم "عملية عام كلافي" أو "الأسد الصاعد"، ودمرت طائراته المقاتلة والمسيرة، بالتعاون مع عملاء داخل إيران، أكثر من نصف منصات إطلاق الصواريخ الباليستية الإيرانية، وحطمت ما تبقى من أنظمة دفاعها الجوي، وأسفرت الضربات عن مقتل كبار قادة الجيش والحرس الثوري، كما قصفت محطات توليد الطاقة وأنظمة التهوية لتشغيل أجهزة الطرد المركزي في منشآت تخصيب اليورانيوم في نطنز وفوردو، قبل أن تنضم لاحقًا قاذفات الشبح الأمريكية من طراز B-2 ووابل صواريخ توماهوك المجنحة إلى الحملة.
دبلوماسية التضليل
وبحسب صحيفة معاريف، جاء قرار إسرائيل بالهجوم على إيران مدفوعًا بسلسلة من الأحداث في المنطقة، بدءًا من هجوم حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وتبادل الهجمات مع حزب الله اللبناني، وصولًا إلى انهيار نظام الرئيس السوري بشار الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024، الأمر الذي مكّن إسرائيل من التحرك بحرية في سوريا وتدمير القدرات العسكرية.
اللافت في الأمر هو ما كشفت عنه معاريف العبرية؛ فعلى الصعيد الاستخباراتي، اتفقت الولايات المتحدة وإسرائيل على أن إيران تسعى لامتلاك أسلحة نووية، لكنهما اختلفتا في التفاصيل. وقدّرت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) في عام 2023 أن وحدةً في وزارة الدفاع الإيرانية كانت تبحث سبل إنتاج أسلحة نووية بسرعة، تحسبًا لتراجع خامنئي عن فتواه المناهضة لامتلاك الأسلحة الذرية. وفي 12 حزيران/يونيو، عشية بدء حرب الـ12 يومًا، أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن طهران تنتهك التزاماتها بمنع انتشار الأسلحة النووية.
معاريف كشفت عما وصفته بـ"لعبة معقدة" كانت تُدار في الساحة السياسية؛ فعندما زار نتنياهو الرئيس ترامب في بداية ولايته الثانية، عرض عليه أربعة سيناريوهات لشن هجوم على إيران، تتراوح بين ضربة إسرائيلية منفردة وهجوم بقيادة الولايات المتحدة، إلا أن الرئيس الأمريكي أراد منح الدبلوماسية فرصة. ورغم هذا، استمر في التعاون الاستخباراتي والعملياتي مع إسرائيل. وفي منتصف نيسان/أبريل، منح الرئيس ترامب إيران 60 يومًا للموافقة على اتفاق نووي، انتهت المهلة يوم الـ12 من حزيران/يونيو.
أجرت حينها إسرائيل والولايات المتحدة مناورة دبلوماسية خادعة تهدف إلى تهدئة الإيرانيين، حيث صرّح الرئيس ترامب للصحفيين بأن الهجوم الإسرائيلي "محتمل الحدوث بالتأكيد"، لكنه ألمح إلى تفضيله للحل التفاوضي، وسرّب مسؤولون إسرائيليون معلومات حول اجتماعات مُرتقبة وجولة جديدة من المحادثات مُقررة في 15 حزيران/يونيو، وتم الترويج لتقارير تتحدث عن خلاف مزعوم بين نتنياهو وإدارة ترامب اتضح أنها كاذبة، وكان الهدف منها ضمان استمرار التخطيط للهجوم دون أي عوائق. واستمرارًا للخدعة، وحتى بعد بَدْء القصف الإسرائيلي، ادعت إدارة ترامب أنها قدمت محاولة دبلوماسية أخيرة، ففي 15 حزيران/يونيو، جرى الحديث عن تقديم اقتراح سري إلى إيران عبر قطر، مفاده أن الولايات المتحدة سترفع جميع العقوبات المفروضة على إيران مقابل إنهاء دعمها لحماس وحزب الله، واستبدال منشأة فوردو وغيرها من المنشآت بمنشآت لا تسمح بتخصيب اليورانيوم، إلا أن إيران رفضت الاقتراح، وعلى إثرها وافق الرئيس ترامب على الفور بانضمام القوات الأمريكية إلى الضربات.
لا تزال إيران صامدة
باختصار، وبحسب الصحيفة العبرية، يزعم مسؤولون إسرائيليون ومسؤولون في الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن الأضرار التي لحقت بالبرنامج النووي الإيراني جسيمة، وقدّر معهد أبحاث في تشرين الثاني/نوفمبر أن الأضرار التي لحقت بالعديد من المواقع النووية كانت "كارثية"؛ فقد دُمّر موقع التخصيب في نطنز، ودُمّرت أجزاء من مجمع الأبحاث في أصفهان، وتعرّض الموقع تحت الأرض في فوردو لأضرار بالغة، وصرح رافائيل غروسي، المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، لمجلة فرونت لاين، بأن الأضرار "كبيرة للغاية"، لكنه أشار إلى أن إيران لا تزال تمتلك مخزونًا يبلغ حوالي 400 كيلوغرام من اليورانيوم المخصب بنسبة 60 بالمئة.
اظهار أخبار متعلقة
ورغم الضربة القاسية، لا تزال إيران صامدة بحسب صحيفة واشنطن بوست، حيث قالت إنه منذ انتهاء الحرب، كثفت طهران أعمال البناء في موقع غامض تحت الأرض جنوب نطنز يُعرف باسم "جبل ماشكوش"، حيث تسعى لإعادة بناء مخزونها من الصواريخ الباليستية بمساعدة من الصين. وقال علي لاريجاني، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، في مقابلة صحفية: "لا يمكن تدمير البرنامج النووي الإيراني، فبمجرد اكتشاف تقنية ما، لا يمكن استعادتها". في المقابل، هدد الرئيس ترامب بشن ضربات أخرى إذا ما قامت إيران بتخصيب اليورانيوم إلى مستويات عالية مجدداً.