علق بنيامين نتنياهو يوم 17 كانون الأول/ ديسمبر الحالي، على توقيع حكومته على
أكبر
صفقة تجارية لإسرائيل لتوريد
الغاز لمصر بقيمة 30 مليار يورو، وبفخرٍ كبير قال
وزير الطاقة في حكومة الاحتلال إيدي كوهين "إنها الأكبر في تاريخ
إسرائيل، وتعزز
مكانة دولة الاحتلال كقوة في مجال الطاقة، وتضمن مجال الاستثمار في إسرائيل".
التقليل
المصري من شأن اتفاق الغاز ووصفه بالتجاري البحت، والتقليل من التصريحات المتعلقة
ببنوده، لم يطمس الفرح الإسرائيلي بهذا الإنجاز، خصوصا بعد عامي جرائم الإبادة في غزة،
وتهشيم صورة إسرائيل في المنطقة والعالم؛ الذي اشتعلت شوارعه غضبا ومطالبة بتفعيل مقاطعة
إسرائيل ومعاقبتها على جرائم الإبادة في غزة، وإلغاء عقود تجارية وعسكرية ضخمة مع إسرائيل
بمليارات الدولارات عقابا على ما اقترفته من جرائم، لكن العودة الإسرائيلية بفك عزلتها
الاقتصادية والسياسية من البوابة العربية، له مفعول غير مقيد بالجانب الاقتصادي.
لا يخفى أن إسرائيل تحاول أن تحفظ لنفسها تفوقا عسكريا في المنطقة العربية،
بمساعدة أمريكية غربية، وأن تكون متقدمة تكنولوجيا في الصناعات العسكرية، وغيرها، ناهيك
عن دورها في تسخير هذا التفوق والمعرفة، في ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية والتطهير
العرقي بحق الشعب
الفلسطيني واستمرار حرب الوجود عليه. فالثروات الطبيعية لأرضٍ مسلوبة
هي ملك لأصحابها، والمياه والغاز والنفط والآثار والتراث تتعرض كلها للتشويه والتزوير
وللسرقة العلنية على مرأى ومسمع العالم كله، ومن ضمنه دول عربية تساهم بشكل فعال بتسهيل
هذا التزوير، وبمنح الاحتلال طوق النجاة من العقوبات عن جرائمه، وبإمكانية تمدده والسيطرة
على الأرض الفلسطينية وتحويل المنطقة رهينة له.
منح إسرائيل استثمارات ضخمة، وتوقيع عقود أمنية واقتصادية معها من زبائن عرب،
يكشف عن الدور الخطير جدا في تمهيد الرأي العام العربي والفلسطيني لـ"الهزيمة"
بعد جرائم الحرب وضد الإنسانية. فلجوء دولة الإمارات لإبرام صفقة ضخمة أيضا مع المؤسسة
الأمنية الصهيونية لشراء نسخة متطورة من أنظمة حماية الطائرات من طراز "J-Music" التي تنتجها
"إلبيت سيستمز" للصناعات العسكرية كما نقل موقع "واللا"
العبري ووصفها بأنها ثاني أكبر صفقة أسلحة (بعد ألمانيا ورومانيا) بتاريخ إسرائيل بقيمة
2.3 مليار ، يكشف عن الدور الخطير للتطبيع العربي مع إسرائيل لتمكينها من تحقيق انتصارها
على الشعب الفلسطيني.
دولة بحجم مصر، وإمكانياتها ومكانتها، أصبح أمن طاقتها مرهونا بيد دولة مغتصبة
لأرض فلسطين وسارقة لغازها ومياهها، والتستر على هذا بنود الاتفاق فضحته شهور العدوان
الطويل على غزة، فكان الحديث المستمر عن رفع الحصار على غزة وفتح معبر رفح، والموقف
من احتلال محور فيلادلفيا وانتهاك إسرائيل لاتفاق "السلام" مع مصر، والكثير
من الخروقات التي تصب كلها في تبديد الأمن القومي المصري والعربي. وهنا يُطرح السؤال
على الذي يخفف من اتفاق الغاز مع الاحتلال بأنه اقتصادي بحت، عن ماهية الدور المصري
في الوساطة وفي ملف القضية الفلسطينية عموما.
السياسة لا تبتعد عن المصالح الاقتصادية بل هي في صلبها، وتشكل المصالح والمنفعة
المتبادلة العمود الفقري للعلاقات السياسية، والسؤال التالي: أيهما أقرب في نظم العقد
السياسي الرسمي العربي؛ هل هو مع القضية الفلسطينية أم مع إسرائيل؟ في ظننا انفراط
هذا العقد مع القضية الفلسطينية، على الشكل المخزي الذي ظهرت عليه أثناء حرب الإبادة
في غزة، وبقياس تجربة توقيع اتفاق الغاز والانفتاح على الفاشية الصهيونية والتمسك بالعلاقة
معها، لا يبرز مخاطر إسرائيل " الغازية" الاستعمارية فقط، والتي لا تراها
بعض الأنظمة العربية كذلك، بل تنظر في العلاقة مع إسرائيل على أنها تقدم نوعي وضرورة
ملحة، بينما تراها إسرائيل تعزيزا لمكانتها في أمن الطاقة والسيطرة الأمنية. وفي التسريب
عن اتفاق الغاز أن لواشنطن دورا مركزيا بالضغط على مصر وإسرائيل، لتوقيع الاتفاق بما
يضمن المصلحة الإسرائيلية وشروطها في سيناء ورفح وغزة والقضية الفلسطينية، تفسير مشبع
بقرائن ودلائل الانبطاح العربي أمام هذه الفاشية.
أصبح لدينا في الجانب العربي، من خارج المنظومة الغربية والأمريكية التي طالما
اشتكينا من انحيازها الأعمى لإسرائيل وتقديم كل أشكال الدعم لسياستها الاستعمارية،
جبهة أمنية اقتصادية تصب في خدمة وتقوية المشروع الصهيوني، من أبو ظبي إلى الرباط مرورا
بمصر؛ جبهة مندفعة للتقليل من أحلام الفلسطينيين والعرب، وأنظمة بإمكاناتها الاقتصادية
والبشرية الهائلة لا تجد في هذا الكون إلا هذا القبح الصهيوني ليكون مركز اعتماد لها،
بأي شكل وبأي طريقة لتستريح عنده، وعلى حساب الحقوق الفلسطينية والعربية. فخلال العامين
الماضيين كان السؤال المطروق: كيف ستكون طريقة ترميم صورة إسرائيل المتصدعة في العالم،
ونجاتها لتطهير نفسها من جرائم الإبادة؟
يأتي الجواب عربيا فصيحا و"بحتا" عمن يحمي إبادة الشعب الفلسطيني،
ومن يساهم في دعم المستعمرين لتحقيق مشروع سيطرتهم على الأرض، وما يمنع حقيقة تجسيد
الحقوق الفلسطينية ورفع الظلم الواقع على الشعب الفلسطيني؛ ليس فقط التخاذل العالمي
ومصالح القوى الاستعمارية وازدواجية المعايير، بل أيضا حسابات السياسة العربية القاسية
المرتبطة بمعرفة واقعها، فتلك الكتلة العربية الضخمة في الموارد البشرية والاقتصادية،
والتي فشلت في تنمية مواردها الأمنية والاقتصادية والسياسية لصالح السلطة وفرض القمع،
تتحول لرهينة بيد "عدوها"، وكل مواردها تسخّر لخدمة إسرائيل التي أصبحت تبيع
الطاقة والأمن لأنظمة عربية فظيعة الضعف والتخاذل، وتترجم شعارها عن "إسرائيل
الكبرى" في نشوة المشاعر الصهيونية عن "القوة" والإعجاب بها، وبالعقل
الصهيوني المبدع للفاشية والعنصرية.
فعندما تمتلك إسرائيل زبائن عربا، يناقشون معها فعالية أدوات الجريمة على أشقائهم،
ويبدون حماسة كبيرة من الإعجاب والاهتمام في شراء سلاح الجريمة، وموارد الضحية وارثه
في أرضه وهوائه وماءه وغازه، فلا داعي للسؤال عن الثمن، وأين ستستخدم أدوات الفاجعة
الفلسطينية!
x.com/nizar_sahli