قضايا وآراء

حين تتحرك العلمانية الفرنسية لسحق خصومها

"مخاوف من زيادة تعداد المسلمين، وبروز المظاهر الإسلامية"- جيتي
المعركة التي دشّنتها فرنسا ضد جماعة الإخوان المسلمين -وكان أحدث تجلياتها صدور تقرير رسمي منتصف الأسبوع الماضي- هي محض غطاء أو لنقل إنها ورقة توت تستر بها حربها الحقيقية على الإسلام الذي تشعر بغزوه لها في عقر دارها، وهي التي كانت تستعمر من قبل نصف العالم الإسلامي تقريبا.

حرب فرنسا على المظاهر الإسلامية المباشرة (الحجاب- الطعام الحلال-السخرية من النبي صلى الله عليه وسلم.. الخ) تصاعدت مؤخرا مع تنامي أعداد المسلمين الفرنسيين الذين يمثلون الديانة الثانية في الدولة، وقد كشف تقرير صادر عن المعهد الفرنسي للدراسات الديموغرافية (INED) أن 10 في المئة من سكان فرنسا هم من المسلمين، وهو ما يعادل أكثر من 6 ملايين نسمة.

هذه المخاوف من زيادة تعداد المسلمين، وبروز المظاهر الإسلامية، استنفرت أحفاد الإمبراطورية الاستعمارية، وحملة النسخة المتطرفة للعلمانية لوقف هذا التمدد، واستغل هؤلاء مواقف بعض الحكومات العربية المناهضة للإسلام السياسي لتصعيد معركتهم المماثلة في فرنسا ضد الإخوان المسلمين؛ باعتبارهم الجماعة الأكثر حضورا والأكثر تمثيلا للإسلام السياسي. ولم يخف وزير الداخلية الفرنسي اليميني برونو ريتايو ذلك حيث أشار إلى أن الإخوان يتعرضون للتراجع والحصار في الدول العربية، وبالتالي يريد هو أن يكرر الأمر ذاته في فرنسا.

هذه المخاوف من زيادة تعداد المسلمين، وبروز المظاهر الإسلامية، استنفرت أحفاد الإمبراطورية الاستعمارية، وحملة النسخة المتطرفة للعلمانية لوقف هذا التمدد، واستغل هؤلاء مواقف بعض الحكومات العربية المناهضة للإسلام السياسي لتصعيد معركتهم المماثلة في فرنسا ضد الإخوان المسلمين؛ باعتبارهم الجماعة الأكثر حضورا

لكن ما لم يقله الوزير الفرنسي أن هناك تمويلا خليجيا -خاصة إماراتيا- ضخما لهذه الحملة الفرنسية ضد الإسلام السياسي. وقد أنشأت الإمارات قبل عدة سنوات عدة مراكز بحثية لتحريض السلطات الفرنسية ضد الإسلاميين، وخاصة الإخوان الذين صنفتهم تلك المراكز الإماراتية بأنهم خطر كبير على الثقافة الفرنسية؛ كمدخل لتأليب السلطات والرأي العام الفرنسي ضدهم.

محاولات شيطنة الإخوان عالميا هو هدف لعدة حكومات غربية تشعر بدور متزايد للإخوان في تلك المجتمعات. لم تستطع أي حكومة غربية أن تجد مخالفات قانونية للجمعيات المحسوبة على الإخوان، ولم تجد تهما حقيقية بتنبي أو دعم الإرهاب حتى تصنف الجماعة ضمن التصنيف الإرهابي. ولنتذكر أن الحكومة البريطانية برئاسة ديفيد كاميرون عجزت في العام 2015 عن تصنيف الجماعة إرهابية لافتقاد مبررات عملية لذلك، رغم المليارات الخليجية التي دفعت لبريطانيا بأشكال مختلفة في ذلك الوقت من أجل هذا التصنيف، والذي كان يراد له أن يكون استكمالا لقرارات تلك الدول الخليجية بتصنيف الإخوان كجماعة إرهابية، توطئة لتعميم هذا التصنيف عالميا. ولنتذكر أن الرئيس ترامب وعد في حملته الانتخابية الأولى عام 2016 بتصنيف الإخوان (إرهابية)، لكنه لم يستطع تنفيذ هذا الوعد في دورته الأولى لعدم توفر الأدلة الكافية لذلك، وكذا بسبب نصائح من مستشاريه بخطورة هذا الأمر على السياسة الأمريكية نفسها، ولم يُعد فتح الموضوع حتى الآن في دورته الثانية.

ولأن فرنسا تدرك صعوبة هذا التصنيف فإنها عمدت إلى خطة بديلة وهي شيطنة الإخوان، والزعم بأنهم يمثلون خطرا على العلمانية الفرنسية، النسخة الأكثر تطرفا بين كل المدارس العلمانية، وهي علمانية قمعية استئصالية، لا تقبل غيرها من الأفكار والثقافات، بل تحرص على تصفيتها، على خلاف المدارس العلمانية الأخرى التي تعتبر نفسها محايدة تجاه الأديان والعقائد، وأن دورها هو توفير الحرية لجميع الأفكار طالما أنها تلتزم بالقوانين.

لنعد إلى التقرير الذي ناقشته الحكومة مناقشة أولية قبل عدة أيام، وينتظر أن يناقش في اجتماع مجلس الأمن الوطني مطلع حزيران/ يونيو المقبل، فهو يدعي أن المشروع الإخواني يمثل تهديدا للتماسك الوطني، لكنه يقر بأن هذا التهديد ليس عنيفا أو مباشرا، بل طويل الأمد ويؤثر بشكل تدريجي على نسيج المجتمع ومؤسسات الجمهورية، وأنه يسعى لإحداث تغييرات تدريجية في القوانين والنظم، خصوصا ما يتعلق بالعلمانية والمساواة بين الجنسين، ما يضعه في خانة المخاطر التي تستوجب التدخل الفوري.

الممارسة العملية تؤكد أن المستهدف هو المظاهر الإسلامية في عمومها، وأن تركيز المعركة في الوقت الحالي على الإخوان وبشكل أوسع قليلا على الإسلام السياسي هو محض "مرحلة أولى"، بهدف فصل هذا الجزء النشط عن بقية المسلمين الفرنسيين

ومن الواضح هنا أن الحكومة اليمينية الفرنسية تبدو عاجزة عن مواجهة الفكر بالفكر، فتستعد لقمعه بالقوة، وهي أيضا تستحضر مقولات استبدادية مثل الزعم بسعي الإخوان لإحداث تغييرات تدريجية في القوانين!! وكأن الحكومة تريد فرض وصاية مسبقة على البرلمان ذاته، فتغيير القوانين يكون من خلال البرلمان، وإذا حدث تلك التغييرات من خلال البرلمان فإن الواجب على أي حكومة احترامها والعمل بها وليس محاولة إجهاضها قبل وقوعها، علما أن الإخوان أو حتى المسلمين عموما في فرنسا لا يمتلكون قوة برلمانية تسمح لهم بسن تشريعات، أو تعديلها.

يقول التقرير: "إن الحضور الإخواني في فرنسا يتمتع ببنية تنظيمية قوية، لكنه لا يعبّر عن شكل من أشكال الانفصال العدائي أو العنيف، بل يعتمد على نهج ناعم وتدريجي يسعى إلى التأثير في المؤسسات العامة". فما الذي يشين ويستدعي العقاب في هذا السلوك؟! أليس هذا جزء من حرية التعبير عن الرأي والعقيدة بطريقة سلمية قانونية؟!

رغم أن التقرير ادعى "أن الإسلام كدين ليس موضع استهداف، بل المقصود هو التصدي لمشروع سياسي يستخدم الدين كغطاء"، إلا أن الممارسة العملية تؤكد أن المستهدف هو المظاهر الإسلامية في عمومها، وأن تركيز المعركة في الوقت الحالي على الإخوان وبشكل أوسع قليلا على الإسلام السياسي هو محض "مرحلة أولى"، بهدف فصل هذا الجزء النشط عن بقية المسلمين الفرنسيين، وحتى تجنيد بعضهم في هذه المعركة ضد إخوانهم وأبناء عقيدتهم، وفي حال النجاح في هذه المرحلة فإن المعركة ستتسع في مرحلة تالية ضد فئات أوسع من المسلمين، وصولا إلى إفناء الإسلام كاملا، ونصب محاكم تفتيش لمن تبقى مسلما على غرار محاكم التفتيش الإسبانية.

x.com/kotbelaraby