أفكَار

فرنسا بين شعارات الجمهورية وواقع التمييز.. المسلمون في مرمى السياسة

سيتعمّق قلق فرنسا الجمهورية، التي كانت أحد أعمدة عصر الأنوار الحداثة، ويتفاقم داخلها هذا الصخب الهوياتي، إن لم تستوعب وتتفاعل بحيوية ومن موقع القوة والثقة بالذات مع ديناميكية التحول والتطور الحاصلة داخلها.
لا يكاد الجدل في فرنسا حول الإسلام والمسلمين يخبو حتى يتجدد أكثر سخونة وصخبا متخذا في كل مرة عنوانا جديدا للإثارة الإعلامية والتحريض. وكان التقرير الأخير المثير للجدل حول "الاخوان المسلمون والإسلام السياسي في فرنسا" والذي تصدّر الإعلان عنه وزير الداخلية الفرنسي برونو ريتايو آخر هذه الحلقات التي لا تنتهي بشأن الجدل حول الإسلام والمسلمين في المشهد الفرنسي.

والحقيقة أن التقرير الأخير يقتضي توقفا عنده سواء، لجهة السياقات التي جاء فيها فضلا عن طبيعة المضامين والخلاصات التي انتهى إليها التقرير.

أولا ـ جاء التقرير في سياقات سياسية داخلية سمتها التجاذبات والانقسام، وخارجية ساخنة، سمتها تفاقم الصراعات واتساع نطاق الحروب، سياقات أكدت أغلب الصحف الفرنسية أن لها تأثيرات بشكل أو بآخر في الملف المثار بشأن الإسلام السياسي في البلاد. ففضلا عن الصعوبات التي تواجهها حكومة فرانسوا بايرو، بسبب ضعف شرعيتها وهشاشتها، في ظل تشكيك المعارضة في تمثيليتها للفرنسيين، وأيضا استقطاب داخل مكونات الحكم على خلفية الرهانات الانتخابية القادمة.

صدر التقرير في وقت كان فيه الموقف الفرنسي الرسمي القوي من الملف الفلسطيني يتصدر الموقف الأوروبي، مطالبا بوقف الحرب على غزة وإدخال المساعدات دون تأخير، ومهددا بفرض عقوبات على الإسرائيليين. وفي ذروة هذا الموقف اللافت سارعت الصحف اليمينية بالإعلان عن التقرير بشأن "الاخوان المسلمين"، ونشرته بشكل استباقي، مروّجة وبشكل استعراضي تضخيمي مبالغا فيه لمضامين التقرير، لينقلب الاهتمام الفرنسي فجأة من الملف الإنساني المأساوي في غزة وما يواجهه أهلها من حرب تجويع، باتجاه جدل داخلي قديم جديد بشأن الإسلام والمسلمين وخطر نشاطاتهم. فكانت عملية الإعلان عن التقرير وتسريبه للصحف اليمينية لتتناوله بشيء من المبالغة، عملية اختطاف وتحويل وجهة اهتمام الرأي العام الفرنسي من المأساة الإنسانية في غزة إلى الخطر الإسلامي الداهم (المزعوم) في فرنسا.

في الوقت الذي يقدّر فيه التقرير عدد أعضاء الجماعة في فرنسا بأربعمائة عضو نشيط، يحذّر فيه من أن هؤلاء يخترقون مؤسسات الجمهورية، في المجالس المحلية والرياضية والتعليمية، بينما لا يمكن تصوّر أن يكون هذا العدد المتواضع المشار إليه، جديا لدرجة أنه يمكّن الإسلاميين من اختراق مؤسسات الدولة الفرنسية التي يعد مواطنوها حوالي 70 مليونا.
ثانيا ـ رغم الفرقة الإعلامية وسياسة الإثارة، التي وصلت حد دق ناقوس الخطر، لم يتضمن التقرير جديدا عما يتم تتداوله الصحف اليمينية والقوى اليمينية المتطرفة منذ سنوات طويلة حول الإسلام والمسلمين و"الخطر الإسلامي" المتخيّل.

فالتقرير الذي قدم سردية عن تاريخ جماعة الاخوان المسلمين، خلاصتها أن هذا التيار تراجع بشكل ملحوظ وهو في حالة انحسار، على المستوى الدولي، بعد حملات القمع والمطاردة التي تعرضت لها الجماعة منذ سنوات طويلة، خاصة في المنطقة العربية. غير أن التقرير وفي تناقض مع خلاصته العامة يحذر ودون الارتكاز على معطيات جدية، من خطر الإخوان، ومن مخططاتهم اختراق مؤسسات الجمهورية الفرنسية.

ففي الوقت الذي يقدّر فيه التقرير عدد أعضاء الجماعة في فرنسا بأربعمائة عضو نشيط، يحذّر فيه من أن هؤلاء يخترقون مؤسسات الجمهورية، في المجالس المحلية والرياضية والتعليمية، بينما لا يمكن تصوّر أن يكون هذا العدد المتواضع المشار إليه، جديا لدرجة أنه يمكّن الإسلاميين من اختراق مؤسسات الدولة الفرنسية التي يعد مواطنوها حوالي 70 مليونا. لذلك انتقدت العديد من الصحف الفرنسية الرئيسية على غرار صحيفة "لوموند"، التقرير واعتبرته لم يأت بجديد يستحق الإثارة، كما استغربت الضجة التي أحدثتها الصحف اليمينية حول التقرير، نافخة في خلاصات بشكل تضخيمي، لا يعكس مطلقا المضمون الحقيقي الوارد في التقرير.

ثالثا ـ بدا التقرير الذي ذكرت العديد من الصحف أن من حرره شخصيتان أحدهما كان دبلوماسيا سابقا والآخر موظف في الدولة، متأثرا إلى حد كبير في تحليل ظاهرة الاخوان، بسردية أنتجتها وروّجت لها أجهزة أمنية عربية. وهذه السردية المذكورة منحازة ومصاغة بخلفية أمنية تجريمية بحتة، تبناها النظام المصري الرسمي مع التجربة الناصرية وما بعدها، ثم الأنظمة العربية المحاربة للإسلاميين في المنطقة العربية. وقد اعتبرت صحيفة "لوموند" الفرنسية أن التقرير استلهم وأنجز بتأثير إماراتي واضح، مشيرة إلى أن الإمارات تحذّر منذ سنوات من "الخطر الإسلامي" في أوروبا.

وقد اعتبر المفكر الفرنسي الخبير في الحركات الإسلامية فرانسوا بورغات، أن التقرير كتب بطريقة ساذجة ومتحيزة، وهو مسكون بالرؤية الاستبعادية الإقصائية المناهضة للإسلام والمسلمين، رغم أنهم باتوا جزءا من النسيج المجتمعي الفرنسي، ويزيد عددهم على الثمانية مليون. كما اعتبر بورغات أن التقرير محشو بمعطيات لا دليل على صحتها ولا تستند على مراجع جدية.

والحقيقة أن خواء التقرير وعدم جديته رغم محاولة تضخيمه وتعبئة الرأي العام بسرديته، يعكس اختراق المؤسسات البحثية الفرنسية من قبل تيار يميني، و"باحثين" قريبين من اليمين المتطرف لا سيما أطروحات المرشح الرئاسي السابق اريك زمور. فرغم حساسية الموضوع المثار إلا أنه بدا مثارا بطريقة مسيّسة، تعكس تجاذبات ودوافع سياسوية قديمة جديدة، ورهانات صراعات انتخابية تستعمل الإسلام والمسلمين كفزاعة للتخويف والخوف على الجمهورية وقيمها اللائكية العلمانية، بطريقة شعبوية.

رابعا ـ التقرير الذي أعاد الجدل بشأن الإسلام والمسلمين، والذي أثار حفيظة حتى بعض القريبين من الإليزيه ومؤسسات الحكم في فرنسا، وأيضا قلق المنظمات المسلمة التي أنشأتها الدولة نفسها واختارت التعامل معها، سقط في فخ التعميم والتسرّع في سوق الاتهامات والتساهل في إدانة شخصيات ومنظمات مسلمة، أو وضعها محل شبهة، أو التشكيك في مصداقيتها ووطنيتها. فقد اعتمد معدو التقرير سردية أنظمة حكم تسلطية في المنطقة العربية عُرفت بعداوتها وحربها ضد التيارات الإسلامية، وهي أنظمة تطارد جميع معارضيها بما في ذلك الإسلاميين، ولا تكف عن ملاحقتهم وشيطنتهم.

وقد تساءل العديد من المراقبين كيف لتقرير رسمي صادر عن الدولة الفرنسية ومن إعدادها، أن يسقط في فخ التسييس و"العلاقات العامة"، والوقوع في حبال اللوبيات المرتبطة بأنظمة حكم مستبدة. لوبيات تحدث عنها الإعلام الفرنسي منذ سنوات، وكشفتها تحقيقات استقصائية فرنسية لموقع "أورينت 21" الفرنسي المعروف بمهنيته، وكشف كيف أنها باتت تؤثر بشكل جلي في السياسات الفرنسية الرسمية، عبر مراكز للأبحاث ومؤسسات للعلاقات العامة وبعض وسائل الإعلام اليمينية، فضلا عن نواب في البرلمان الفرنسي نفسه. وهي لوبيات تخترق الموقف الرسمي للدولة وتعمل على توجيهه، تخادما مع مواقف أنظمة عربية محددة.

ورّم قلق الجمهورية الهوياتي، وصلت فيه الدولة حد اتهام مواطنيها المسلمين بالانفصالية والانعزالية وباختراق الدولة. قلق عبّر عن نفسه من خلال قانون لمحاربة الانفصالية الإسلامية وعرف بـ "قانون تعزيز قيم الجمهورية".
خامسا ـ يؤكد التقرير حقيقة تتعلق بالمشهد الفرنسي، حيث تورّم قلق الجمهورية الهوياتي، وصلت فيه الدولة حد اتهام مواطنيها المسلمين بالانفصالية والانعزالية وباختراق الدولة. قلق عبّر عن نفسه من خلال قانون لمحاربة الانفصالية الإسلامية وعرف بـ "قانون تعزيز قيم الجمهورية". من جهته بادر جيرالد دارمانين عندما كان وزيرا للداخلية إلى نشر "مانيفاستو" تحت عنوان "الانفصالية الإسلامية بيان من أجل اللائكية"، وهو "مانيفستو"، حتى وإن اختفى وراء محاربة الانفصالية، فقد عكس طموحات وزير الداخلية دارمانين في تمهيد الأرضية المناسبة التي تعزز حظوظه في الاستحقاق الانتخابي الرئاسي، خلفا لماكرون.

ولقد تصاعد هذا الهوس الهوياتي، بسبب الخطاب الرسمي المشحون بالتحريض، حد مشاركة أكثر من ألف من القادة العسكريين الحاليين والمتقاعدين في نشر رسالة مفتوحة في مايو 2021، تحذر من انهيار الجمهورية، وتهديد المبادئ العلمانية من قبل "الخطر الإسلامي" المتنامي. والأخطر في "البيان العسكري" المذكور أنه هدد بالتدخل لإنقاذ الجمهورية، إن لم تتحرك الدولة بإجراءات نوعية.

سادسا ـ فرنسا الحداثة والتقدم، تطمس اليوم بخطابات رسمية قيم "المواطنة" و"الاخوة" و"المساواة"، الأركان المكينة للجمهورية، وتدهس بسياسات وترسانة من القوانين المثيرة للجدل التي تغذيها لوبيات متسللة في ثنايا الدولة وتحريض أنظمة تسلّطية "صديقة"، أسس التعايش المشترك، حتى بدا المجتمع الفرنسي مجتمعات، والفضاء العام فضاءات. وباتت الضواحي بعضها لـ "الأشراف" وأخرى لـ"الأوباش".
فرنسا الجمهورية القلقة تبدو اليوم أكثر توترا وأكثر صخبا من أي دولة أوروبية أخرى. ينعكس قلقها الصاخب، بشكل متسارع على سياساتها العامة، وتدبير اجتماعها السياسي. حالة قلقة باتت تمنعها من إدراك عناصر التحول الطارئة على ذاتها، واستحقاقات التفاعل مع هذه التغيرات العميقة، من أجل الاستيعاب والتجدد.

وسيتعمّق قلق فرنسا الجمهورية، التي كانت أحد أعمدة عصر الأنوار الحداثة، ويتفاقم داخلها هذا الصخب الهوياتي، إن لم تستوعب وتتفاعل بحيوية ومن موقع القوة والثقة بالذات مع ديناميكية التحول والتطور الحاصلة داخلها. وإن هي عاندت حقيقة تلك التحولات، هوية متعددة الأبعاد، ونظاما جمهوريا يحتفي بتعدد الثقافات وتنوّع الخلفيات، فستتكرّس جمهورية قلقة، قلق ستتغذى منه الشعبوية وتتمدد، ما يهدّد مع الوقت المبادئ الديمقراطية، ويقوّض القيم الأساسية للجمهورية.  

*كاتب وباحث ـ مدير المركز المغاربي للبحوث والتنمية