كلمات
الأمة مفاتيح مشاريع حضارية خاصة حينما تستند إلى مرجعية تأسيسية من القرآن
والسنة؛ ولعل اقتران كلمتي الانبعاث والإحياء يشير الى مشاريع حضارية لا يمكن
تجاوزها أو إغفالها أو إنكارها. والوقوف عند الكلمتين والكلمات المرجعية الأخرى لم
يكن أبدا من قبيل مرور الكرام العابر؛ ولا هو من زينة الكلمات التي يعبر بها وعنها
عن كلمات إنشائية بل هي وظيفة تأسيس. فما وُصفت اللغة العربية بالفصحى إلا لأنها
تُفصح، وما ارتبطت بالبيان إلا لأنها تبيّن وتوضح، وما اقترنت بالبلاغة إلا لأنها
تُبلغ بالأساليب المرعية والكلمات الموافقة للمقام وفق الأحوال، ولذلك قالوا ولكل
مقام مقال. بين الإفصاح الذي لا لبس فيه، والبيان والتبيين، والبلاغ ومهمة
التبليغ؛ تقترن الوظيفة اللغوية الفاعلة بالمرجعية التأسيسية في حجة الله البالغة،
فاجتمع في البيان الرحماني "الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه
البيان"؛ فتقيم الحجة الإلهية البالغة وتقيم الحجة على خلق الله تعالى وفي
صدارتهم الإنسان المستخلف القائم بالعمران والشهود الحضاري.
إنه الشهود
الحضاري المتسم بثلاثية تهندس عملية الشهود، "وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ
أُمَّة وَسَطا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ
عَلَيْكُمْ شَهِيدا" (البقرة: 143). وهو الجعل الإلهي للإنسان المؤمن، والجعل
الإنساني في التزامه المنهاج والامتثال الإلهي، "أَلَا لَهُ الْخَلْقُ
وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ" (الأعراف: 54).
ضمن هذه الرؤية نرى مشروع الانبعاث الحضاري المستند إلى الشروط التي تتعلق بعملية الخروج؛ والتعاقد المقترن بالإعداد والاستعداد والإمداد
و"أمة"؛
ليست هكذا ضمن عمليات التكوين الأممي، ولكنها أمة موصوفة بالوسط والوسطية، وهي من
قبل وفق الجهد والنشاط والدور والوظيفة، ومن بعد تمارس أقصى درجات الفاعلية، فتصير
خيرتيها من جنس أفعالها وثمرة فعلها: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ
لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ" (آل عمران :110). تلك "
الخيرية" المشروطة بصفاتها
وفعلها على سبيل أفعال المضارعة والأحوال المواكبة لها إنما تعبر في الحقيقة عن
جوهر المشروطية الإلهية للأمة المتمتعة بصفة الخيرية. "الخيرية" ليست
صفة مجانية وإن ارتبطت بالحال المخصوصة؛ وكأن الأمر يتعلق بـ"عقد الخيرية
للأمة"، وهو عقد دور ورسالة؛ وصف بالخيرية والوسطية، وحالة تعاقدية، ومهمة
شهودية استخلافية عمرانية، موصولة بمرجعية الرسول صلى الله عليه وسلم والرسالة في
سياقات ثلاثية الشهود التي أشرنا إليها.
أمة
الخيرية أمة الوسط
ضمن
هذه الرؤية نرى مشروع الانبعاث الحضاري المستند إلى الشروط التي تتعلق بعملية
الخروج؛ والتعاقد المقترن بالإعداد والاستعداد والإمداد، "وَلَوْ أَرَادُوا
الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّة وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ
فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا
زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ
وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ" "التوبة:
46-47). الخروج للقتال كان المناسبة ولكن في هذه الآية الكريمة معان تفيض علينا
بقانون وسنة إلهية تسطر قاعدة للفعل والفاعلية وقوانين تلتئم في قوانين فرعية
للانتظام السنني، مثل قوانين الإرادة، وقوانين الإدارة، وقوانين الإعداد
والاستعداد، وقوانين العدة. إنها قوانين رغم جزئيتها تمثل شروطا جوهرية في عمليتي
الخروج الفاعل والقعود المثبط الفاشل.
الانبعاث
حركة فاعلة، والقعود حالة مواجهة ترتكن لفعل التثبيط وتعطيل الخروج والإرادة
والعدة والإدارة والاستعداد والاستمداد، إنها شروط عامة ترتبط بحال المشروطية
للخروج الفعال؛ في مواجهة نموذج القعود والخبال والفتنة الذي لا ينتج إلا فشلا
وتثبيطا وتخذيلا في مآلاته وآثاره السلبية على المجتمع وسلطة الأمر فيه.
"إن
قوى الإحياء الإسلامي في الأمة مطالبة بتغيير أساسي في مقاربتها للتحديات الحضارية
التي تواجهها الأمة. إذ كان الخيار الذي يمكن اعتباره الخيار الاستراتيجي الحاكم
لفكر وحركة قوى الإحياء الرئيسة في الأمة خلال العقود الماضية؛ هو مقاومة الزحف
الحضاري على هوية الأمة ودينها ومسيرتها الحضارية عبر مقاربة اعتمدت بالأساس على
تثبيت الأمة، وخاصة شرائحها الوسطى وقواها الشابة، تثبيتها على ثوابت دينها
وهويتها، وإبطاء زحف المشروع الحضاري المغاير وتغوله على مقدرات الحياة في بلاد
المسلمين فكرا وقيما وبنى اجتماعية وسياسية واقتصادية وأنماط حياة وممارسات يومية.
لم تختر القوى الفاعلة إذن أن تواجه هذا المشروع من خلال تحديه المباشر والإصرار
على تأسيس مقدرات حياة على نماذج إسلامية خالصة، وإنما اختارت أن تعمل تحت سقف تلك
البنى الحضارية الوافدة، وتمارس دورها المقاوم والإحيائي من ذلك الموقع. نقترح هنا
أن قوى الإحياء الإسلامي تحتاج أن تراجع تلك المقاربة بشكل جذري، وتتحرك منها إلى
مقاربة تتبنى الإصرار على تأسيس حالة حضارية جديدة في أمتنا وعالمنا مستندة إلى
نماذج إسلامية خالصة".
هذا
نص مدخل الأستاذ الدكتور حسين القزاز في رؤيته حول "مشروع رؤية الانبعاث
الحضاري"، والذي يرتكز على فكرة النماذج المعرفية الكامنة والظاهرة والأنساق
الحضارية الحاكمة والغالبة.
ويقول:
"إن ما أسميناه المشروع بـ"النموذج الحضاري" هو ما يكمن وراء هذه
البنية الحضارية بمكوناتها المتداخلة، وهو الذي يُعَرِّفُ لها منطلقاتها ويحدد
الملامح الأعمق للفضاءات التي تتشكل فيها وتتطور بمعلوميتها. وهو الذي نستطيع أن
نرى تجلياته في ثلاثة مستويات: الإنسان الفرد؛ ميوله واهتماماته الأساسية
وانحيازاته ودوائر تركيزه وملامح فكره واتجاهات حركته، البنى المجتمعية بأنواعها
ومستوياتها: هيكلية رسمية كلية/ تشكيلات مجتمعية/ أنظمة وسيطة/ أبنية ثقافية عامة
وجزئية.. إلخ، أوجه سلوك وأنماط حياة وقرارات فردية وجماعية يوجِّه بها الناس
موارد مجتمعاتهم ويحددون كيفيات إنفاق أوقاتهم وأموالهم. تكمن أهمية وخطورة
النماذج الحضارية في أن الناس في أي مجتمع ينطلقون منها ولا يُسائلونها، كما لو
كان الإنسان والمجتمع يتحرك بقوة الدفع الذاتي دون أن يفكر فيما يحركه. كل ذلك هو
في الحقيقة انعكاس لمكنون نموذج حضاري مؤسس على مرتكزات من الفردانية والنفعية
المادية والنخبوية المستعلية". هذا هو النسق الحضاري الغالب والمهيمن.
فماذا
عن النموذج المعرفي وخطورته؟ "خذ مثلا تلك المساحة الحرجة المتعلقة بالمعرفة
الإنسانية في أي مجتمع؛ طبيعتها ومصادرها ومنطلقاتها ومناهج اكتسابها وفحصها
وتركيمها، والبنى المؤسسية المرتبطة بإنتاجها وتوظيفها في المجتمع ومنظومات
الإمكانات التقنية والأداتية التي تتطور في رحابها. تلك المعرفة التي يتكئ عليها
المجتمع في البحث عن إجابات لما يواجه الناس من أسئلة وإشكالات ومعضلات في مساحات
حركتهم الأساسية كلها: طبيعية واجتماعية/ مادية وروحية/ فردية وجماعية/ منتظمة
وطارئة.. إلخ.
إن أردت أن تعرف الملامح والاتجاهات الأساسية للمعرفة التي يتكئ عليها أي مجتمع فعليك أن تدرك الجذور التي تنطلق منها: ما يسمى بفلسفة المعرفة، كما أن عليك أن تلم بمفاتيح عمليات التشكل والتكيف والتغير التي تتطور بها تلك الفلسفة
إن
أردت أن تعرف الملامح والاتجاهات الأساسية للمعرفة التي يتكئ عليها أي مجتمع فعليك
أن تدرك الجذور التي تنطلق منها: ما يسمى بفلسفة المعرفة، كما أن عليك أن تلم
بمفاتيح عمليات التشكل والتكيف والتغير التي تتطور بها تلك الفلسفة. فنجد مثلا أن
الغرب بحضارته المعاصرة يعزل وحي السماء عن المعارف المقبول لها أن تحكم حياة
المجتمعات. فالمعرفة العلمية عندهم هي ما يمكن قياسه بالحواس أو بامتدادات الحواس
ثم يعمل عليه العقل البشري لاستخراج قوانينه وفهم محددات حركته. ما يخرج عن ذلك لا
يمثل معرفة علمية. نجد أيضا أن تلك الفلسفة الحسية التجريبية الرشدية تتطور عبر
مراحل مسيرة التجربة الحضارية الغربية المعاصرة، فتتحرك من ساحات الحداثة
بانحيازاتها إلى ساحات ما بعد الحداثة بتطرفها".
"الدين
إذن وما يتعلق به مستبعد من تشكيل ما يصنفه أبناء هذه
الحضارة على أنه معرفة
علمية، إذ الدين نوع من الخبرات الذاتية التي لا تخضع للقياس بالحواس وامتداداتها،
ولا يقع تحت منطق الرشد المادي الصارم بمدارسه. مكانة الدين إذن في خريطة المعرفة
الإنسانية المنوطة بتوجيه حياة الناس شبيهة عندهم بمكانة مثيلاته من الخبرات
الذاتية كالسحر والخرافة والرياضات الروحية والرؤى والإلهامات الذاتية.. إلخ. لا
تجد بالتالي مكانا لوحي السماء في المنطلقات والنماذج والنظريات والأدوات السائدة
في علم النفس ولا في علم الاجتماع ولا في الاقتصاد والإدارة (والسياسة).. إلخ. وما
ينطبق على المعرفة ينطبق على المفردات الحضارية الأخرى".
إن
التحيز صار في الكليات الكبرى سواء كانت معرفية أو مفاهيمية؛ وهو ما أشرنا له في
بحثنا "مقدمات حول التحيز في التحليل السياسي"، حينما أشرنا أن التحيز
تسلل من خلال فرض مفاهيم حضارية كبرى لحضارة غالبة وفق التنبيه السنني الخلدوني،
"المغلوب مولع بتقليد الغالب في عوائده وزيه ونحلته وسائر أحواله"؛ في
نموذجه المعرفي والحياتي والسلوكي، ونموذجه المفاهيمي وأنساقه الحضارية.
ولأهمية
هذا المشروع وخطته التدافعية وعمليات الانتقال الحضاري وأصول التنزيل في واقع
الحياة ومجالاتها وميادينها التي تمثل بحق مشاتل التغيير والحركة فيها والتنزيل
الإصلاحي فيها؛ فإن متابعته في مقال آت من أوجب الواجبات؛ وحرث أرض التغيير
للمستقبل وفيما هو آت.
x.com/Saif_abdelfatah