شهدت أسعار
الفضة الجمعة، انخفاضا حادا بنسبة تصل إلى 6 بالمئة، في أكبر تراجع لها منذ ستة أشهر، بعد موجة صعود قياسية سجلتها خلال الأيام السابقة.
وعلى الرغم من تعافيها الجزئي٬ إلا أن المعدن الثمين كان على وشك الإغلاق منخفضاً بنحو 4.75 بالمئة، ويأتي هذا الانخفاض وسط تراجع المخاوف بشأن جودة الائتمان الأمريكي والتوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، حيث ساعدت تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد
ترامب في تهدئة الأسواق المالية.
وأسهمت النتائج الإيجابية للبنوك الإقليمية في استقرار سوق الأسهم وارتفاع عوائد السندات، وهو عامل ضغط تقليدي على أسعار
الذهب والفضة التي لا تولد دخلاً من الفوائد.
وكانت الفضة قد سجلت مستويات قياسية جديدة في وقت سابق من هذا الأسبوع، حيث اقتربت من 54.48 دولاراً للأونصة يوم الجمعة الماضي قبل أن تنعكس أسعارها بشكل حاد.
ويشير محللو السوق إلى أن الارتفاع السريع ربما جاء بمعدل يفوق القدرة الطبيعية للأسواق على استيعاب الطلب. بعد موجة صعود الذهب، جاء دور الفضة لتشهد ارتفاعا غير مسبوق على المدى البعيد في الفترة الماضية بالأسواق العالمية٬ ومع توجه المستثمرين نحو أصول التحوط خوفاً من تبعات الإغلاق الحكومي الأمريكي وإمكانية فرض رسوم جمركية جديدة على المعادن.
الفضة والطلب التحوطي
في ظل تغيرات اقتصادية وجيوسياسية متسارعة، ازدادت الرغبة في المعادن النفيسة كأدوات للتحوط ضد المخاطر العالمية. وبالنسبة للفضة، أدى اختلال العرض والطلب إلى موجة ارتفاع قوية دفعت الأسعار إلى تجاوز 50 دولاراً للأونصة في منتصف تشرين الأول/أكتوبر الجاري٬ متخطية مستويات مقاومة تاريخية تعود إلى الثمانينيات.
ارتفعت الفضة بنسبة تقارب 70 بالمئة خلال 2025، وتداولت حتى منتصف تشرين الأول/أكتوبر عند نحو 52 دولاراً للأونصة، مسجلة أعلى مستوياتها منذ الثمانينيات.
تاريخيا تجاوزت الفضة 40 دولارا للأونصة في عام 1980 لفترة قصيرة، ثم هبطت إلى 3.51
دولار عام 1993، قبل أن تشهد موجة صعود مشابهة في 2011 لمدة شهرين، تلتها تراجعات حادة، ثم تسجيل قاع عند 11.735 دولاراً في عام 2020.
ويختلف السياق الحالي عن الدورات السابقة، إذ يتميز بمزيج من الطلب التحوطي والمحفزات الصناعية والتكنولوجية، ما يمنح الأسعار دعما هيكليا مختلفا عن الماضي، ويجعل قياس السوق الحالية بمعايير قديمة أمرا مضللا.
الإنتاج العالمي للفضة
بلغ الإنتاج العالمي من الفضة نحو 25 ألف طن في 2024، ويأتي ترتيب كبار المنتجين على النحو التالي:
المكسيك: 6300 طن (25%)
الصين: 3300 طن (13%)
بيرو: 3100 طن (12%)
بولندا: 1300 طن (5%)
بوليفيا: 1300 طن (5%)
روسيا: 1200 طن (4.8%)
تشيلي: 1200 طن (4.8%)
الولايات المتحدة: 1100 طن (4.4%)
أستراليا: 1000 طن (4%)
كازاخستان: 1000 طن (4%)
الأرجنتين: 800 طن (3.2%)
الهند: 800 طن (3.2%)
السويد: 400 طن (1.6%)
كندا: 300 طن (1.2%)
دول أخرى: نحو 2,100 طن (8%)
وبذلك تستحوذ أمريكا اللاتينية على نحو 51 بالمئة من المعروض العالمي من الفضة، لا سيما من المكسيك وبيرو وبوليفيا وتشيلي والأرجنتين.
طبيعة العرض وسبب بطء الاستجابة
في معظم المناجم، لا تستخرج الفضة كمنتج رئيسي، بل تأتي كناتج ثانوي أثناء استخراج الرصاص والزنك والنحاس وأحياناً الذهب، وتُستعاد خلال عمليات التكسير والتركيز والصهر. لذلك، فإن زيادة المعروض ترتبط بخطط إنتاج هذه المعادن الأساسية وليس بسعر الفضة وحده.
ويعد الوضع الراهن أكثر تعقيدا من أي دورة سابقة، إذ يجمع بين التطور التكنولوجي السريع، والعوامل الاقتصادية والسياسية العالمية المتشابكة. في المقابل، يظل العرض بطيء الاستجابة بسبب ارتباطه بدورات المعادن الأساسية وقيود الاستثمارات والتنظيمات اللوجستية والبيئية، ما يجعل أي صعود للأسعار يتسم بالندرة الهيكلية والمقاومة للهبوط السريع.
المحركات الرئيسية لارتفاع الفضة
1. المخاطر الاقتصادية والجيوسياسية
تعمل المخاطر الاقتصادية والجيوسياسية على تعزيز الإقبال على المعادن النفيسة، خاصة مع تفاقم الديون العالمية، تآكل القوة الشرائية للعملات، وضعف العوائد الحقيقية، إلى جانب ميل البنوك المركزية نحو التيسير النقدي.
وتاريخيا، عندما تنخفض العوائد الحقيقية، يتجه المستثمرون نحو أصول التحوط مثل الذهب والفضة. ويبرز أثر تآكل الدولار الأمريكي بشكل واضح، إذ فقد أكثر من 99 بالمئة من قيمته الشرائية مقابل الذهب منذ ثلاثينيات القرن الماضي، مع انعكاس مباشر على الفضة كأصل تحفظي.
2. تحديات العرض المرتبطة بالمعادن الأساسية
نظرا لأن الفضة غالبا ما تنتج كناتج جانبي، فإن أي تعطل في إنتاج الرصاص أو الزنك أو النحاس أو الذهب يؤثر مباشرة على المعروض. وتشمل هذه التحديات القيود التنظيمية، البطء في الترخيص البيئي، تغييرات الضرائب، الإضرابات العمالية، نقص المعدات، قيود التصدير، العقوبات، الأزمات المناخية والتوترات الأمنية.
هذه الطبيعة تجعل الاستجابة لأي ارتفاع في الطلب بطيئة جداً، وتؤدي إلى استمرار ندرة المعدن الجاهز للتسليم، حتى مع تحسن شهية السوق.
3. العوامل القانونية واللوجستية والسوقية
أ. التعريفات الجمركية والمادة 232
فرضت الولايات المتحدة تعريفات جمركية على المعادن الأساسية بموجب المادة 232، التي تتيح تقييد الواردات إذا اعتبرت تهديدا للأمن القومي. في 26 آب/أغسطس الماضي٬ أدرجت الفضة ضمن مسودة قائمة المعادن الحرجة إلى جانب النحاس والرصاص والبوتاس والسيليكون والرينيوم.
هذا الإدراج، رغم أنه لا يفرض رسوما فوريا، يرفع احتمال استخدام أدوات الأمن القومي مستقبلا ويزيد من حساسية السوق تجاه تدفقات المعدن وتوقيتها.
ب. الانعكاس على اللوجستيات وسرعة الشحن
كما دفع الترقب لقرارات جمركية جديدة المتعاملين إلى الإسراع بشحن الفضة قبل تغير الشروط، مما يقلل المخزون الخارجي ويجعل السوق شديد الحساسية لأي تأخير في التخليص أو النقل، حتى أن بعض الشحنات تنقل جوا بأسعار مرتفعة لتلبية الطلب الفوري، كما يحدث عادة مع الذهب.
ج. اختناق التمويل والعلاوات بين لندن ونيويورك
ارتفعت معدلات إيجار الفضة إلى نحو 35 بالمئة وهو أعلى مستوى مسجل، ما يعكس ضغوطا على السوق الفعلية. تزامن ذلك مع زيادة تكاليف الاقتراض لأجل ليلة واحدة في بورصة لندن بنسبة تجاوزت 100%، ما أبرز اختناق التمويل قصير الأجل. كما تجاوز سعر مزاد لندن 50 دولارا للأونصة، مع علاوة فورية تقارب 3 دولارات فوق العقود الآجلة، مؤشراً على ندرة المعدن المادي وشح السيولة.
د. إعادة التموضع بين الخزائن وحركة العبور عبر الأطلسي
حفزت العلاوات المرتفعة في لندن عمليات سحب ضخمة من خزائن كومكس في نيويورك لإرسال الفضة إلى لندن، مع تقديرات بنقل 15 إلى 30 مليون أونصة في أكبر سحب يومي منذ أكثر من أربع سنوات، بهدف تلبية الطلب الفوري رغم ارتفاع تكاليف النقل.
هـ. ندرة قنوات البيع والطلب الهندي المتزايد
شهدت الأسواق العالمية انقطاعات واضحة مثل:
- دار السك الملكية الكندية سجلت تأخيرات تصل إلى 3-4 أشهر في سبائك 100 أونصة.
- مصفاة راند في جنوب أفريقيا أعلنت نفاد الكروغيرراندز الفضية.
- دار سك بيرث في أستراليا أوقفت بيع منتجاتها خلال فترات الضغط.
بالتوازي، زاد الطلب الهندي بشكل مفاجئ خلال عطلة الأسبوع الذهبي، مما أجبر بعض الصناديق المتداولة هندياً على إيقاف الاشتراكات مؤقتاً. كل هذه العوامل تؤكد وجود نقص هيكلي في المعروض يعزز العلاوات ويشدد شروط التسليم، ويبقي الفارق بين السوق الفوري والعقود الآجلة قائماً.
4. الطلب الصناعي على الفضة
يتسارع الطلب الصناعي على الفضة بدفع من التحول نحو الطاقة النظيفة، الرقمنة، ومتطلبات الاعتمادية والسلامة في قطاعات متعددة:
الإلكترونيات والكهرباء: تدخل الفضة في لوحات الدوائر المطبوعة، المفاتيح عالية الاعتمادية، أنظمة التتبع عبر الموجات الراديوية، وشبكات الجيل الخامس وإنترنت الأشياء. بلغ الطلب نحو 456.6 مليون أونصة عام 2024 مع نمو يقارب 4 بالمئة.
الطاقة الشمسية: تستخدم الفضة كموصل في الخلايا الكهروضوئية، بلغ الاستهلاك نحو 197.6 مليون أونصة، بكثافة تقارب 20 كغ لكل ميغاواط مركب.
صناعة السيارات: تدخل الفضة في نقاط التماس وأنظمة التحكم داخل المركبات، خصوصا الكهربائية، ويتجاوز الاستهلاك الحالي 60 مليون أونصة سنويا مع توقع بلوغه 90 مليون أونصة مع تعمق الكهربة وانتشار البنية التحتية للشحن.
الصناعات الكيميائية: تستخدم كمحفز لإنتاج أكسيد الإيثيلين والفورمالديهايد، مع إمكانية استرجاع معظمها بعد التشغيل، ويستهلك إنتاج أكسيد الإيثيلين وحده نحو 10 ملايين أونصة سنويا.
اللحام وسبائك الوصل المعدنية: تدخل في وصلات مقاومة للتآكل والحرارة، خصوصاً في سبائك قصدير/فضة/نحاس بنسبة فضة تصل إلى 45 بالمئة.
المجال الطبي وتنقية المياه: تستخدم أيونات الفضة في الطلاءات والضمادات الطبية، ومطهرات أنظمة تنقية المياه للحد من البكتيريا والطحالب.
التصوير الفوتوغرافي: استمرار استخدام أفلام هاليد الفضة في التطبيقات الطبية والفنية العالية الدقة.
خلاصة
الارتفاع الحالي في أسعار الفضة ليس مجرد موجة مضاربية قصيرة المدى، بل هو نتاج مزيج من:
الإقبال التحوطي على الأصول الآمنة في ظل المخاطر الاقتصادية والجيوسياسية.
الطلب الصناعي المتزايد في قطاعات التكنولوجيا، الطاقة النظيفة، السيارات، الكيمياء، الصحة، والمياه.
بطء استجابة المعروض نتيجة طبيعة الإنتاج كناتج جانبي للمعادن الأساسية.
عوامل قانونية ولوجستية وسوقية مثل التعريفات الجمركية المحتملة، ارتفاع معدلات الاقتراض، وانكماش المخزونات القابلة للتسييل.
رغم التقلبات، يظل الاتجاه البنيوي للفضة صاعدا، مدعوما بالدور المزدوج للفضة كأصل صناعي ووسيلة لحفظ القيمة. ومع صعود الذهب، أصبحت الفضة خيارا أقل كلفة للتحوط، بينما يقيد العرض الاستجابة السريعة للطلب، ما يجعل المعدن تحت ضغط مستمر ومؤشرا على مسار صعودي مستدام طالما استمر نمو الطلب على المعروض الفعلي.