تحدث كثير من المعاصرين عن "
الحرية" كمقصد من مقاصد
الشريعة، ومنهم: علّال الفاسي، الطاهر بن عاشور، يوسف القرضاوي، راشد الغنوشي،
وأحمد الريسوني إلخ.. لكنني أعتقد أن الحرية تأتي نتيجة إزالة نوعين من الاستبداد:
الأول ـ استبداد داخلي نتيجة
تحكم الشهوات بالإنسان.
الثاني ـ استبداد خارجي نتيجة وجود سلطة خارجية تفرض على الإنسان
سلوكاً وقيماً وأفكاراً معينة مرتبطة بأيدلوجية معينة، رغم عدم قناعته بها، وبهذا
تلغي هذه السلطة الخارجية حريته.
أما الاستبداد الأول فهي الشهوات وقد تحدث القرآن الكريم عنها فقال
تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ
وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ
الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) (سورة آل عمران) من الواضح
من خلال الآية السابقة أن أبرز الشهوات هي: النساء والبنون والأموال بمختلف
أصنافها سواء أكانت ذهباً أم فضة أم أنعاماً أم بساتين إلخ.. ويمكن أن تستهلك
هذه الشهوات عمر الإنسان وطاقته ولا يشبع منها، لذلك قال الرسول صلى الله عليه
وسلم: " لَوْ كانَ لاِبْنِ آدَمَ وادِيانِ مِن مالٍ لابْتَغَى وادِيًا
ثالِثًا، ولا يَمْلأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إلَّا التُّرابُ، ويَتُوبُ اللَّهُ علَى
مَن تابَ"(صحيح مسلم).
شرع الإسلام العبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج من أجل أن تساعد الإنسان على أن يوجه تكبيره وتعظيمه لله وليس لشهواته، ويخضع لأمر الله في الحلال والحرام فيأخذ ما هو حلال ويبتعد عما هو حرام، وتساعده على أن يحب الله أكثر من كل محبوبات الدنيا، ويخاف عقاب الله وناره، ويرجو عطاءه وجنته
وإذا استغرقت هذه الشهوات الإنسان فإنها تستعبده، لذلك قال الرسول
صلى الله عليه وسلم: "تَعِسَ عَبْدُ الدينار، تَعِسَ عَبْدُ الدرهم، تَعِسَ
عَبْدُ الخَمِيصَة، تعس عَبْدُ الخَمِيلَة، إن أُعْطِيَ رَضِيَ، وإن لم يُعْطَ
سَخِطَ، تَعِسَ وانْتَكَسَ، وإذا شِيكَ فلا انتَقَشَ"(رواه البخاري). وإذا
استغرقت هذه الشهوات الإنسان واستعبدته فإنه لا يملك حينئذ فضلاً من وقت وجهد لأي
إعمار أو بناء حضاري أو اجتماعي أو سياسي أو ثقافي، لأن الإنجاز والبناء يحتاجان
إلى فضل وقت وجهد ومال.
لذلك شرع الإسلام العبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج من أجل أن تساعد
الإنسان على أن يوجه تكبيره وتعظيمه لله وليس لشهواته، ويخضع لأمر الله في الحلال
والحرام فيأخذ ما هو حلال ويبتعد عما هو حرام، وتساعده على أن يحب الله أكثر من كل
محبوبات الدنيا، ويخاف عقاب الله وناره، ويرجو عطاءه وجنته، وكل صلاة يصليها
المسلم تنمي هذه الطاقات الخمس: تعظيم الله والخضوع له، وحب الله والخوف من ناره
وعذابه، ورجاء جنته، كذلك العبادات الأخرى من صيام وزكاة وحج تبني هذه الطاقات
الخمس وتجعله يسيطر على شهواته ويقودها، وتنمي إرادته وتجعله متحكماً في ذاته،
وبالتالي يصبح حراً وليس عبداً لشهواته.
أما الاستبداد الخارجي فلا بد من مدافعته كما فعل موسى عليه السلام
مع فرعون، عندما طلب منه أن يكف عن استعباد بني إسرائيل، ويطلقهم معه، لكنه رفض
ذلك وبدأ الصراع بينهما، بمشهد حشد سحرة فرعون ألاعيبهم، ثم أخرج موسى عليه السلام
عصاه فإذا هي تلتهم حبال السحرة، وهنا بلغ غضب فرعون ذروته بعد أن آمن السحرة
بموسى عليه السلام، لأنهم علموا صدقه وأنه ليس ساحراً مثلهم، وحرّض الملأ فرعون
على موسى عليه السلام وقالوا له: " أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض"،
وهنا هدد فرعون بني إسرائيل بأنه سيقتل ذكورهم ويستحيي إناثهم، ثم خاطب موسى عليه
السلام قومه بأن عليهم الصبر لأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده المتقين، ثم
أنزل الله على فرعون وقومه عذابات متتالية منها: القحط والجدب والطوفان والجراد
والقمل والضفادع والدم، ثم أنجى الله موسى وقومه وأغرق فرعون وجيوشه في البحر،
وأورث الله بني إسرائيل الجنات التي كان يملكها فرعون في بلاد الشام.
وهكذا انتهت المواجهة بين الرسولين موسى وهارون عليهما السلام وفرعون
بانتصار الرسولين عليهما السلام وتحرير بني إسرائيل من استعباد فرعون، وذلك من أجل
أن يعبدوا الله بحرية، لذلك كانت الحرية نتيجة لإزالة الاستبداد.
ثم إن هذه المواجهة ليست خاصة بموسى عليه السلام مع فرعون، بل هي سنة
ومنهج مع كل الأنبياء مع اختلاف في صور المواجهة ونتائجها وأدواتها، فإننا نجد في
سور الأعراف وهود والشعراء تفصيلاً لهذه المواجهة مع كل الأنبياء تقريباً بدءاً من
نوح ومروراً بهود وصالح وشعيب ولوط وانتهاءً بموسى وعيسى ومحمد عليهم السلام. نجد
أن هناك خطاباً واحداً يقول فيه النبي: "يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله
غيره"(سورة هود: 84)، فيتصدى له الملأ الذين استكبروا. ويبدأ صراع بين طرفين
هما: الرسول من جهة، والملأ المستكبرون من جهة ثانية، من أجل انتزاع الحرية التي
تعني القدرة على اختيار
الدين للرعايا الموجودين مع النبي.
وبعد أن انتهت المواجهة بين الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه
من المسلمين مع سلطة قريش المتمثلة بأبي جهل وأبي لهب بالهجرة إلى المدينة، وأقام
الإسلام دولته في المدينة، شرع للمسلمين أن يواجهوا المستبدين المحيطين بهم من
دولتي الفرس والروم، من أجل أن يحرروا شعوبهم، ويعطوها حرية اختيار الدين والعقيدة
التي تريدها، وقصة ربعي بن عامر تعبّر عن هذا الفهم خير تعبير، فقال عندما أرسله
سعد بن أبي وقاص إلى رستم عظيم الفرس عندما سأله رستم: ما الذي جاء بكم؟ قال:
"لقد جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور
الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة".
وبهذا يتبين لنا أن الطريق للحرية هو إزالة الاستبدادين: الداخلي
والخارجي، لذلك أصبح من الأحق والأصح والأصوب أن تكون "إزالة الاستبداد"
هي
المقصد، لأن الحرية نتيجة، وتأتي حصيلة "إزالة الاستبدادين".
ولو أجرينا الآن مقارنة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية في
الوصول إلى الحرية، لنرى أيهما أصدق وأصوب في تحقيق هذه الحرية، لرأينا في العرض
السابق أن الإسلام يزيل الاستبدادين: الداخلي والخارجي من أجل تحقيق هذه الحرية،
فكيف تحقق الحضارة الغربية هذه الحرية لهذا الإنسان؟
تعتبر الحضارة الغربية أن الحرية مرتبطة بتحقيق شهوات الإنسان دون
قيد أو شرط وإلى أبعد حد، وقد جاء هذا الموقف انعكاساً ورداً على الكنيسة التي
كانت تعتبر أن جميع الشهوات دنس وأولها شهوة النساء، وتأمر بالابتعاد عنها.
يتبين لنا أن الطريق للحرية هو إزالة الاستبدادين: الداخلي والخارجي، لذلك أصبح من الأحق والأصح والأصوب أن تكون "إزالة الاستبداد" هي المقصد، لأن الحرية نتيجة، وتأتي حصيلة "إزالة الاستبدادين".
ولا شك أن هذا التوجه يقود إلى استعباد الإنسان لشهواته، فهي قد
أطلقت له شهوات الجنس أن يحققها بجميع الطرق دون قيود أو حدود حتى نكاح المحارم،
وأطلقت له حرية كسب المال وإنفاقه دون قيود أو حدود، وكذلك أطلقت له حرية الطعام
والشراب دون قيود أو حدود إلخ...، وبهذا تحول الإنسان إلى "حيوان
استهلاكي" يلهث وراء تحقيق شهواته وأبرزها "الجنس"، وبهذا أصبح
مستعبداً لهذه الشهوات، لذلك أصبح مرهوناً ومرتبطاً من داخله بالاستبداد الخارجي
وهو السلطة الحاكمة، التي بيدها إتاحة هذه الشهوات أو منعها، لذلك أصبح الإنسان في
الغرب مستعبداً من قوتين:
الأولى ـ الاستبداد الداخلي وهو استبداد الشهوات.
الثانية ـ استبداد السلطة الحاكمة التي بيدها سلطة منع الوصول إلى
هذه الشهوات.
لذلك أصبحت "الحرية" السياسية التي منحتها الحضارة الغربية
للإنسان الغربي لا قيمة لها، لأن الإنسان مقيد بالشهوات من جهة، ومضطر أن يستجدي
السلطة الحاكمة من أجل أن تحقق له شهواته من جهة ثانية، ثم يأتي دور الإعلام فيقوم
بدور المثير للشهوة الاستهلاكية عند الإنسان وأبرزها "شهوة الجنس" حتى
تصل إلى درجة "السعار الاستهلاكي" فيزداد استبداد الشهوات، ويزداد خضوعه
للسلطة الحاكمة، وتصبح شعارات الحرية كلمات جوفاء يقوم به الإنسان المقيد بكل
أصناف الاستبداد، وهو الذي يلهث ويركض وراء ما يحقق له شهواته.
ومما يؤكد ذلك أن الناخب الغربي في كل من أوروبا وأمريكا، يهتم
بالمرشح الذي سيرخص له سعر البنزين والمشروبات الكحولية ويخفض له الضرائب ويحقق له
دخلاً أكثر إلخ.....، ولا يهتم بالسياسة الخارجية مطلقاً.
من خلال هذه المقارنة نستطيع أن نجزم بأن الحضارة الإسلامية أكثر
صدقاً في تحقيق الحرية للإنسان.
الخلاصة:
جعل بعض الكتاب "الحرية" مقصداً من مقاصد الشريعة، والأولى
في نظري أن يكون "إزالة الاستبداد" هو المقصد لأن الحرية نتيجة لإزالة الاستبدادين الداخلي والخارجي، وقد شرع الإسلام العبادات من أجل أن
يعبّد المسلم ذاته لله، ولا تستعبده شهواته، وليصبح لديه القدرة على تحقيق ذلك،
وقد أنتجت الحضارة الغربية إنساناً بصورة "حيوان استهلاكي" لأنها قامت
على إطلاق الشهوات بكل طريق وبأية صورة، وقد جاء الإعلام ليلعب دوراً كبيراً في
إثارة "الشهوات الاستهلاكية" وأبرزها ما يتعلق بالجنس ليزيد في سطوة
استعباد الشهوات للإنسان. وبهذا تكون الحضارة الإسلامية أكثر صدقاً من الحضارة
الغربية في جعل الإنسان حراً.