اعتراف في
إحدى عشرة دقيقة
منذ إعلان
بن غوريون قيام
إسرائيل في أيار/ مايو 1948، لم تتردد الولايات المتحدة لحظة واحدة
في تقديم الاعتراف الرسمي. كان الرئيس الأمريكي هاري ترومان أول المهنئين، معترفا بالدولة
الوليدة بعد 11 دقيقة فقط من إعلانها. لم يكن ذلك توقيتا عبثيا، بل تدشينا لتحالف استراتيجي
اختلطت فيه العقيدة بالسياسة، والمصلحة بالأيديولوجيا.
من التعزية
إلى التمويل المفتوح
في خمسينيات
القرن الماضي، اقتصرت المساعدات الأمريكية لإسرائيل على
دعم اقتصادي محدود، غير أن
نكسة 1967 مثّلت نقطة تحوّل مفصلية؛ إذ اتضحت قيمة إسرائيل في العقل الاستراتيجي الأمريكي
كأداة متقدمة لتأمين المصالح الغربية في الشرق الأوسط. بعد حرب تشرين الأول/ أكتوبر
1973، أنشأت واشنطن جسرا جويا عسكريا ضخما لتزويد إسرائيل بالسلاح، وصلت تكلفته إلى
2.2 مليار دولار خلال أسابيع. ومنذ منتصف الثمانينات، أصبحت المساعدات الأمريكية بندا
ثابتا في ميزانية واشنطن، بمتوسط 3 مليارات دولار سنويا، دون شروط أو مراجعة.
في الجانب العربي، فتراجعت المواقف تدريجيا من المواجهة إلى الحياد، ثم إلى التنسيق والتطبيع. وبدلا من أن تكون القضية الفلسطينية رافعة للموقف العربي، تحوّلت إلى ملفٍ مرهق يُراد طيّه بأي ثمن، حتى لو كان الثمن هو الكرامة والحق والذاكرة
الدعم يتحوّل
إلى عقيدة سياسية
التحوّل الأخطر
لم يكن في حجم المساعدات فقط، بل في نوعها. استثمرت الولايات المتحدة في إسرائيل كذراع
تكنولوجي متقدم، مولت من خلاله تطوير منظومات مثل "القبة الحديدية" و"مقلاع
داوود". في 2016، وقّعت إدارة أوباما اتفاقا بتقديم 38 مليار دولار على مدى عشر
سنوات، منها 5 مليارات مخصصة حصريا لأنظمة الدفاع الصاروخي. أصبحت إسرائيل من أكبر
مصدّري التكنولوجيا الأمنية، من الطائرات دون طيار إلى أدوات التجسس، بتفوق ما كان
ليحدث دون الدعم الأمريكي غير المشروط سياسيا وعسكريا وماليا.
أوباما يوقّع:
الدعم صار التزاما أبديا
الاتفاق الذي
وقّعه أوباما مثّل تتويجا لعقود من الرعاية الأمريكية، محوّلا إسرائيل من "حليف"
إلى امتداد مباشر للبنية الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط. لم يعد الحديث عن
دعم طارئ، بل التزام مؤسسي يتجاوز الإدارات والحسابات الظرفية.
شراكة في الدم:
غزة تحترق والعالم يشاهد
في كل عدوان
على غزة، تقف واشنطن كحائط صدّ دبلوماسي ضد أي إدانة. في عدوان 2023، استخدمت أمريكا
الفيتو ثلاث مرات، بينما كانت تزود إسرائيل بذخائر خارقة وقنابل ذكية. لم يكن ذلك دعما
فقط، بل شراكة صريحة في آلة القتل، تحت مظلة أخلاقية متهالكة.
العرب من الندية
إلى التصفيق
أما في الجانب
العربي، فتراجعت المواقف تدريجيا من المواجهة إلى الحياد، ثم إلى التنسيق والتطبيع.
وبدلا من أن تكون القضية الفلسطينية رافعة للموقف العربي، تحوّلت إلى ملفٍ مرهق يُراد
طيّه بأي ثمن، حتى لو كان الثمن هو الكرامة والحق والذاكرة. صار الصمت الرسمي أشبه
باعتراف ضمني، وانهارت فكرة "الندية" في التعاطي مع القوى الكبرى، ليحل مكانها
خطاب التبرير والتعايش مع الذل.
ثمن الهيمنة
تسدده أشلاء الفلسطينيين
لم تعد فلسطين
مجرد جرح جغرافي، بل معيارا للكرامة السياسية والوعي الأخلاقي. ولعلّ التاريخ لم يجُد
على هذه الأمة بمثل هذا الطيف من الحكّام الذين انحدروا، شرقا وغربا، يمينا ويسارا،
إلى قاع الاستسلام والتقزيم. هؤلاء لم يكونوا نتاج فراغ، بل نتيجة إعدادٍ ممنهجٍ منذ
عقود؛ إذ أُنهِكت الدول العربية بالأزمات الاقتصادية، وأُغرقت في الديون، ووُضعت كل
دولة في مسرح أزمات منفرد يُشغلها عن التصعيد، أو حتى التفكير بمسؤولياتها تجاه فلسطين.
انكشف زيف الديمقراطية التي طالما تبجّح بها العالم الغربي، فبينما يتغنى بالحريات وحقوق الإنسان، نجد أن مجرد التعبير عن الرأي قد تحول إلى جريمة تُلاحَق بالتهديد والعقاب
وفي ظل ذلك،
دُفعت الشعوب إلى اختبارات قاسية: بين لقمة العيش أو الحريات، بين الخضوع للمخططات
الصهيونية والأمريكية أو مواجهتها بثمن الترويع والاختفاء، بين الانصياع الكامل أو
الموت البطيء في العزلة والانكفاء. وهكذا، بينما تُبنى إسرائيل بالسلاح الأمريكي والصمت
العربي، تُهدم فلسطين على مرأى ومسمع من عالمٍ يعرف لكنه لا يعترف.
انكشاف حقيقة
الديمقراطية المزيفة
لقد انكشف
زيف الديمقراطية التي طالما تبجّح بها العالم الغربي، فبينما يتغنى بالحريات وحقوق
الإنسان، نجد أن مجرد التعبير عن الرأي قد تحول إلى جريمة تُلاحَق بالتهديد والعقاب.
لقد سُدت الأفواه، وتُسرع التهديدات بالسجون والتغريم والفصل من الجامعات الأمريكية
والترحيل للمهاجرين الذين يرفضون الانصياع، إلى جانب الملاحقة والتنكيل بكل من تجرأ
على التظاهر في شوارع أمريكا وأوروبا.
وبينما تتصاعد
موجات القهر، يُجبر العديد على الهروب من واقعٍ مظلم لا يجدون فيه سوى القمع والخوف،
ليبحثوا عن ملاذ في فضاء العالم الافتراضي الذي يُغرقهم في مسافره المظلمة وفساده.
في هذا الفضاء، تُسلب الهوية، وتُضمر العقول، ويُنشأ جيل جديد فاقد القدرة على التمييز
بين الحقيقة والتضليل. هذا الجيل، الذي تُحرَم فيه فرص التفكير النقدي، يجد نفسه محاصرا
بين قيدين: الأول واقع مرير يعصف بحريته وحقوقه، والثاني فضاء افتراضي يزرع فيه اليأس
والانفصال عن الواقع والجذور.