كتاب عربي 21

الحرب على غزة كنقطة تحول تاريخية

سعيد الحاج
"الإبادة الحالية لم تكن لتحصل فضلا عن أن تستمر حتى الآن لولا الحضيض الذي وصلته الأوضاع في العالم العربي والإسلامي "- جيتي
"الإبادة الحالية لم تكن لتحصل فضلا عن أن تستمر حتى الآن لولا الحضيض الذي وصلته الأوضاع في العالم العربي والإسلامي "- جيتي
عبر التاريخ، ثمة أحداث تُسجل نهاية حقبة تاريخية وحضارية وبداية أخرى، بحيث تشكل ذروة قوة دولة أو إمبراطورية ما أو قمة ضعف أخرى. وطالما كانت الحروب هي الأبرز على هذا الصعيد، مثل معركة واترلو التي تعدُّ نهاية إمبراطورية نابليون، أو معركة لينيغراد وفشل حصارها الذي كان أحد أهم منعطفات الحرب العالمية الثانية، وفتح القسطنطينية الذي شكّل نهاية دورة حضارية وانبلاج أخرى، وفشل السلطان سليمان القانوني في فتح النمسا الذي ينظر له المؤرخون كذروة قوة الدولة العثمانية وبداية تقهقرها.

ولا تكتفي هذه الأحداث أو الحروب بأن تكون منعطفات تاريخية وحضارية، ولكنها كذلك كاشفة لمجمل الأوضاع التي عايشتها على طرفَيْ المعركة. وحرب الإبادة التي شُنت على قطاع غزة بعد عملية "طوفان الأقصى" ليست استثناء في هذا السياق، مهما كانت النتائج المباشرة والظاهرة لها على المدى القصير. فهي نقطة تحول عميقة في مسار الصراع مع "إسرائيل"، وكاشفة للأوضاع السائدة، وستحدد على المدى البعيد مصير كل من دولة الاحتلال والمقاومة (والقضية) الفلسطينية والعالم العربي والإسلامي ككل.

إن جزءا أساسيا من أسباب الدموية والوحشية التي تجاوزت كل حدود المنطق والمكاسب العسكرية في هذه الحرب يعود لمحاولة الاحتلال محو صورة السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، والسعي لبناء الردع مرة أخرى باستخدام كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، والحصول على دعم غير مسبوق وغير محدود

بالنسبة لـ"إسرائيل"، فقد انهارت الأركان الرئيسة لاستراتيجيتها الأمنية المعتمدة منذ تأسيسها، من الردع للحرب على أرض العدو، ومن الإنذار المبكر للحسم السريع، وباتت في حاجة ماسة لاستراتيجية بديلة بعد أن أثبتت المقاومة الفلسطينية محدودةُ الموارد وعناصر القوة؛ بأنها ليست قابلة للحرب فقط وإنما للهزيمة كذلك. وبالنسبة لدولة الاحتلال التي طالما ردد منظّروها بأن أول هزيمة قد تتعرض لها ستكون بداية النهاية أو النهاية نفسها، فقد دقت كل نواقيس الخطر، بعد أن شهدت على ما سبق مختلفُ الأطراف والقوى في المنطقة والعالم، الصديقة لدولة الاحتلال قبل أعدائها.

ولذلك فإن جزءا أساسيا من أسباب الدموية والوحشية التي تجاوزت كل حدود المنطق والمكاسب العسكرية في هذه الحرب يعود لمحاولة الاحتلال محو صورة السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، والسعي لبناء الردع مرة أخرى باستخدام كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، والحصول على دعم غير مسبوق وغير محدود من الولايات المتحدة على وجه الخصوص.

كما أن الحرب ستحدد مصير المقاومة الفلسطينية ومعها القضية برمتها، إذ ثمة تلازم كبير بينهما، فبالنظر للسياقات والتغييرات التي طرأت على الحركة الوطنية الفلسطينية في العقود الأخيرة وطبيعة الحرب الحالية، لا يمكن تصفية القضية والمقاومة قائمة، ولا يمكن الحفاظ عليها إن هُزمت الأخيرة.

بعد هذه الحرب، إما أن يُقضى على المقاومة الفلسطينية وتحديدا في قطاع غزة وفق ما تسعى له دولة الاحتلال، وتنتهي بالتالي القضية الفلسطينية كما عرفناها وعرفها العالم منذ القرن الماضي، ويُفتح الباب على إمكانية تصفيتها تماما، وإما أن تخرج واقفة على قدميها رغم التضحيات غير المسبوقة منها ومن الشعب، لنكون جميعا أمام مرحلة جديدة ومتقدمة في الصراع، بغض النظر عن الشكل والأسماء.

وهذه الحقيقة تدركها "إسرائيل" وحلفاؤها، ويثير جنونهم استمرار المقاومة بأشكال مختلفة رغم استخدام كل أدوات القتل والنسف والتدمير على مدى أكثر من عام ونصف، وعدم اقتراب المقاومة من مجرد التفكير برفع راية الاستسلام، ولذلك نرى الوحشية والهمجية في استهداف المدنيين بشكل ممنهج للضغط من خلالهم على المقاومة.

كما أن الحرب كاشفة ومؤثرة في السياق العربي والإسلامي وعلى مستوى المنطقة، خصوصا في الفشل والعجز والتواطؤ الرسمي (باختلاف الدول والمواقف) إزاء الإبادة والحصار والتجويع والتهجير، وهو ما تسجله ذاكرة الشعوب. وكما كانت الحروب السابقة على غزة في علاقة تأثر وتأثير مع الواقع العربي والإقليمي، وخصوصا حرب 2008 التي كانت من ضمن عوامل انفجار الاحتجاجات العربية عام 2010، فإن المواقف الرسمية من حرب الإبادة الحالية ستكون ضمن عوامل التغيير في أكثر من بلد على المدى البعيد.

هذه الحرب ومخرجاتها ستحدد شكل المنطقة برمتها، وليس فقط غزة أو القضية الفلسطينية، لعقود قادمة وربما أطول من ذلك، وستكون إعلانا إما لنهاية العالم العربي والإسلامي كما عرفناه وإما بداية حضارية جديدة له،

على المستوى الإقليمي، ثمة سعي أمريكي- "إسرائيلي" محموم لتغيير المنطقة وإعادة تشكيلها وفق معادلات جديدة، فيتكرر الحديث عن السلام والتطبيع والتعاون مع "إسرائيل" رغم استمرار حرب الإبادة. ما يُسعى له هو مشروع "ناتو شرق أوسطي" كان قد طرحه ترامب سابقا، ولكن بمعادلات جديدة هذه المرة تستهدف إخضاع الجميع للقيادة والرغبات والأهداف "الإسرائيلية". إن المتغير الجذري في الاستراتيجية الأمنية لدولة الاحتلال، ومن ضمنها الحرب الاستباقية وضرب التهديدات المستقبلية المحتملة من الآن في مهدها وإنشاء مناطق عازلة داخل دول الجوار، كلها سياقات تدعم فكرة إعادة رسم الخرائط والمعادلات في المنطقة، والتي لن يكون أحد بمنأى عنها حتى من لا يناصبونها العداء والكراهية حاليا.

الأهم من كل ما سبق، أن الإبادة الحالية لم تكن لتحصل فضلا عن أن تستمر حتى الآن لولا الحضيض الذي وصلته الأوضاع في العالم العربي والإسلامي على المستوى الرسمي تحديدا، من أنظمة استبدادية، وتمزق ونزاعات داخلية، وتجريف للقوى الحية، وهرولة نحو التطبيع، والجسور البرية والبحرية لدولة الاحتلال، وإمدادها بمصادر الطاقة، والتعاون الأمني والعسكري معها؛ من مناورات مشتركة واستضافة لتدريبات جيشها.. الخ، كل ذلك وآلة القتل مستمرة في حصد الأرواح بلا حساب في غزة.

هذه الحرب ومخرجاتها ستحدد شكل المنطقة برمتها، وليس فقط غزة أو القضية الفلسطينية، لعقود قادمة وربما أطول من ذلك، وستكون إعلانا إما لنهاية العالم العربي والإسلامي كما عرفناه وإما بداية حضارية جديدة له، وكثير من الأطراف ذات العلاقة تدرك ذلك وتعيه جيدا، بينما ما زالت بعض النخب والكثير من الشعوب بعيدة عن هذا الإدراك، فضلا عن الفعل.

x.com/saidelhaj
التعليقات (0)