مقالات مختارة

اسـتـطـلاع مـرعـب ومـخـيـف

عبد المجيد سويلم
يجب دراسة حول التحوّلات العميقة التي طرأت على المجتمع الإسرائيلي في العقود الثلاثة الماضية- جيتي
يجب دراسة حول التحوّلات العميقة التي طرأت على المجتمع الإسرائيلي في العقود الثلاثة الماضية- جيتي
نُشر قبل ثلاثة أيام مقال حول استطلاع للرأي كان قد جرى قبل حوالى شهر من نشر المقال في صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية تضمّن الكثير من القضايا التي تثير أعلى درجات الرعب عن واقع الرأي العام في دولة الاحتلال.

لا أعرف لماذا تمّ تأخير النشر عن هذا الاستطلاع، أهو بسبب شدّة حساسية الإجابات، وبالتالي منعت الرقابة العسكرية نشره، أو الحديث عنه وبشأنه، أم لأسباب أخرى لا نعرفها وتتعلّق «بمشروعية» الأسئلة.

على كل حال، وبصرف النظر عن الأسباب حول النشر أو التأخير فإن ما جاء في الإجابات حسب المقال هو صاعق وصادم ومرعب ومخيف.

أوّل سؤال لافت، وهو ربما يكون قد أثار حفيظة إحدى الحلقات وكان فيما إذا كنت تؤيد/ي إبادة سكّان أيّ مدينة من مدن «الأعداء»، كما فعل «يوشع بن نون» عندما دخل إلى مدينة أريحا حسب الروايات الشائعة على أوسع نطاق في التراث اليهودي؟

فماذا كانت النتيجة؟
الإجابة والنتيجة كانت: 49% من المستطلعة آراؤهم كانوا مع الإبادة، تماماً كما فعل بن نون في أريحا!

لم يذكر المقال تفاصيل كافية عن الـ51% المتبقين من المستطلعة آراؤهم فيما إذا كانوا ضد الإبادة التامّة، أم إبادة جزئية، أم أن معظمهم فضّل عدم الإدلاء برأيه بصورة مباشرة.

يؤكّد المقال بهذا الصدد تحديداً أن الثقافة السائدة في المجتمع الإسرائيلي لا تختلف من حيث الجوهر عن ثقافة القوى المهووسة دينياً وقومياً، بل وتتطابق في أغلب الأحيان مع ثقافة «فتيان التلال» الذين لم يعودوا حالة شاذّة في المجتمع الإسرائيلي، وإنّما بات كل من لا يفكّر بنفس الطريقة التي يفكّرون بها هو الشاذ، وهو الخارج عن «قدسية» الوعي الجمعي في المجتمع. وقد انجرفت قوى علمانية وليبرالية إلى هذا الواقع.

ردّة الفعل «الجماهيرية» والسياسية على ما قاله يائير غولان، زعيم «حزب الديمقراطيين»، ونفس ردّة الفعل على ما كان قد قاله رئيس إحدى البلديات القريبة من مدينة «تل أبيب»، والتي حملت مضموناً عادياً جداً، وهو عدم جواز تجويع المدنيين والأطفال يؤشّر على أن ثقافة «فتيان التلال» هي الثقافة الحقيقية التي تتفشّى بصورة مرضية في هذا المجتمع سواء فهم الإسرائيليون ذلك أم لا.

الحديث هنا لا يدور عن تنديد أو استنكار، ناهيكم عن مسألة خلاف في الرأي، الحديث يدور عن إخراج رئيس بلدية، ولفظه من المجتمع كلياً، والحديث عن غولان وصل إلى المطالبة بالإعدام على بعض المنصّات والمواقع.

نحن هنا في الواقع أمام حالة هياج غوغائية تشبه حالات الهياج التي خلّدها المسرح العالمي عن هياج العوام في المراحل الأولى من القرون الوسطى.

السؤال المهم الثاني، كان فيما إذا كنت تؤيّد/ي التهجير القسري لكل أهالي قطاع غزّة؟
فماذا كان الجواب، وكيف جاءت النتيجة؟

الجواب يا سادة يا كرام جاء أن 82% يؤيّدون التهجير الكلّي القسري لكل سكان القطاع إلى خارج القطاع، بصرف النظر إلى أين!

وهنا، أيضاً، ليس لدينا تفاصيل كافية حول رأي البقية.. ولا نعرف على وجه الدقة فيما إذا كان رأي هذه البقية هو مع التهجير الكامل، ولكن ليس بصورة قسرية مباشرة، أم أنهم لم يدلوا برأيهم لأسبابهم الخاصة.

أقصد أن 18% فقط من المجتمع الإسرائيلي إمّا هم مع التهجير غير القسري، أو هم في الواقع معه، هذا ولكن دون الاهتمام بالإفصاح عن رأيهم! وليس واضحاً لي ما هو التهجير غير القسري عندما يتم التدمير الكامل.

أمّا الذين يعتقدون بأن هذه النسب الكاسحة، الصاعقة والصادمة قد جاءت في ضوء ما تعرّضت له دولة الاحتلال في 7/10/2023، فأنصحهم بالتأني قليلاً ليسمعوا بآذانهم، وليشاهدوا بأُمّ أعينهم النتيجة التي سنأتي عليها في الإجابة عن السؤال الثالث.

السؤال الثالث يا سادة يا كرام كان:
هل تؤيّد/ي تهجير الفلسطينيين من إسرائيل، والمقصود هنا هم العرب الفلسطينيون في الداخل، والذين هم من مواطني «الدولة»، والذين يزيد عددهم على المليوني نسمة؟

فماذا كان جواب المجتمع الإسرائيلي عن هذا السؤال:
الجواب يا سادة يا كرام، وخصوصاً السيّدات، والسّادة الذين يعتقدون أنّ «طوفان الأقصى» هو السبب المباشر لارتفاع النسبتين المذكورتين أعلاه هو أن 56% من المستطلعة آراؤهم هم مع التهجير.

لا نعرف على وجه الدقّة هنا، أيضاً، رأي البقية، فيما إذا كانوا ضد التهجير من حيث المبدأ، أم أنهم مع تهجير طوعي، أم أنهم مع التهجير، لكنهم يفضلون عدم الإفصاح عن آرائهم.

لكن مسألة التهجير الطوعي لم ترد على الإطلاق في سياق الاستطلاع، لأن التهجير القسري و»الطوعي» هو اختراع أميركي وإسرائيلي بهدف الخداع والتضليل السياسي والإعلامي، وقد تم «اختراع» الطابع «الطوعي» للتهجير بعد أن واجه التهجير القسري المباشر، وتحت النار والموت ما واجهه من عقبات لم يكن ممكناً على الأخيرين التغلب المباشر عليها.

ولهذا فنحن في الواقع أمام سؤال موحّد في حالة الأسئلة الثلاثة، وليس بصورة مختلفة بين حالة وأخرى، وبين سؤال وآخر.

على كلّ حال لا يمكن إنكار أن «الطوفان» قد لعب دوراً في ازدياد هذه النسبة في الإجابة عن الأسئلة الثلاثة، ولا يمكن إنكار أن التعبير عن الرأي والإفصاح عنه قد ارتفع في ضوء طبيعة الهجوم الذي قامت به «حماس»، كما لا يمكن إنكار أنّ عقلية الاستعلاء والعنجهية التي بُني وتربّى عليها المجتمع الإسرائيلي، ونمط الثقافة، وعُمق «القناعات» التي ترسّخت لديه قد أدّت في ظروف صدمة «الطوفان» إلى تأجُّج مشاعر الانتقام وتبرير الإجرام والتوحُّش، لكن هذه العوامل ــ برأيي ــ ليست سوى «القشّة» إيّاها التي نعرفها في التراث العربي.

أعتقد أن جميعنا كان يتمنّى أن تكون مثل هذه النسب المرعبة هي حالة من ثورة الغضب، أو مجرّد ردّة فعل على حدث مهما كان شأن وتأثير هذا الحدث، أو أنّ المسألة بالتالي هي عابرة ومؤقّتة أو حتى استثنائية، وكنّا نتمنّى جميعاً أن تعود هذه النسب لظروف سياسية خاصة تجعل من التفكير السوي مسألة صعبة، وغير واقعية، لكن الأمر مع الأسف الشديد ليس كذلك، والمواقف التي شهدناها في هذا الاستطلاع ليست وليدة «الطوفان»، وليست مجرّد ردّة فعل مباشرة عليه، وهي عملية لها أصولها وجذورها، وسياقاتها التي لا تحتاج إلى الكثير من الجدل.

أما إذا اعتقدنا عكس ذلك، أو أنّ هذه النسب هي انعكاس مباشر وأساسي بسبب الأخير، فأغلب الظنّ أننا أمام ظاهرة تشبه ظاهرة انكسار الضوء.

علينا أن ندرس ونبحث ونتابع البحث والدراسة حول التحوّلات العميقة التي طرأت على المجتمع الإسرائيلي في العقود الثلاثة الماضية.

هذه التحوّلات هي من العمق، ومن الجذور الاجتماعية والثقافية، وقبلها الاقتصادية، وهي في واقع ازدياد أعداد «الحريديم»، وتناقص أعداد الفئات الليبرالية من زاوية الهجرة ومعدّلات الولادة، ومن زاوية السيطرة الكاملة على وسائل التعليم، ووسائل الإعلام والثقافة، ومن زاوية غسل الدماغ المنهجي المنظّم الذي خضعت له الأجيال الشابة الحالية.. هي من العمق بحيث أنّ الطفل الإسرائيلي/ اليهودي الذي ولد قبل حوالى 30 سنة قد عاش وتربّى في كنف ثقافة وإعلام ومدرسة تغذّي على مدار الساعة نمط الوعي الذي يحمله.

نحن منذ أكثر من 30 سنة لم نلاحظ بما يكفي ما كان يتعرّض له مجتمعهم من حقن عنصري منظّم.
وعلى العموم مهما كان للحالة الإسرائيلية من خصوصية، ومهما كانت درجة الاستثنائية فيها إلّا أنّ مجتمعات المستوطنين لم تكن تملك وعياً مغايراً في تجارب الشعوب، وتجارب التاريخ الحديث والمعاصر.

المجتمع الاستيطاني الفرنسي في الجزائر لم يكن لديه ثقافة مغايرة عن ثقافة المجتمع الإسرائيلي، ولا البيض في جنوب إفريقيا إلّا قليلاً، ولم يكن هناك من وعي هولندي، أو بلجيكي أو ألماني في حالات، ودرجات معيّنة من الاستيطان، ولم يكن وعي المستوطنين في أميركا ونيوزيلندا وأستراليا في وضع مختلف جذرياً عن حالة الوعي في المجتمع الإسرائيلي، الذي يبقى مجتمعاً استيطانياً، وما زال، وسيظلّ إلى أن يتمّ تصحيح التاريخ في هذا الصراع.

المصادر لمعرفة التحوّلات التي طرأت على المجتمع الإسرائيلي موجودة وهي في متناول الجميع، وخاصة إصدارات «مدار»، وأخصّ بالذكر هنا كتاب «اليمين الجديد»  للباحثة د. هنيدة غانم.
استطلاع مرعب ومخيف، ويجب أن يدقّ لدينا كلّ نواقيس الخطر.

(الأيام الفلسطينية)
التعليقات (0)

خبر عاجل