كتاب عربي 21

إسرائيل: ضحية لضحاياها!

جوزيف مسعد
"الإبادة الجماعية الجارية اليوم ليست خروجا عن هذا السياق، بل تتويجا له، فهي برهان جديد ومضاعف على ما يحق للضحايا الغربيين أن يفعلوه"- جيتي
"الإبادة الجماعية الجارية اليوم ليست خروجا عن هذا السياق، بل تتويجا له، فهي برهان جديد ومضاعف على ما يحق للضحايا الغربيين أن يفعلوه"- جيتي
في الساعات المبكرة من صباح يوم الجمعة، شنّت إسرائيل غارات جوية في عمق الأراضي الإيرانية، مستهدفة مواقع قرب أصفهان وطهران. وورد أن من بين القتلى علماء ومسؤولين حكوميين كبارا ومدنيين، بينهم نساء وأطفال.

ومع ذلك، وبعد ساعات، وصف القادة الغربيون ووسائل الإعلام الغربية عدوان إسرائيل بأنه دفاع "استباقي" عن النفس. وزعم مسؤولون أمريكيون أن إسرائيل تحركت لإحباط تهديد إيراني "وشيك"، بينما أصر زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ جون ثون على أن الضربات كانت ضرورية لمواجهة "العدوان الإيراني" وحماية الأمريكيين.

رغم عدوانيتها المستمرة في جميع أنحاء المنطقة، فقد جرى تصوير إسرائيل الغازية والقائمة على احتلال أراضي الشعوب العربية في الغرب منذ ما قبل إنشاء مستعمرتها الاستيطانية عام 1948؛ على أنها "ضحية لضحاياها". وكلما اتسع غزوها للأراضي العربية واضطهادها للشعوب، تعززت لدى الغرب صورتها كضحية لضحاياها.

رغم عدوانيتها المستمرة في جميع أنحاء المنطقة، فقد جرى تصوير إسرائيل الغازية والقائمة على احتلال أراضي الشعوب العربية في الغرب منذ ما قبل إنشاء مستعمرتها الاستيطانية عام 1948؛ على أنها "ضحية لضحاياها". وكلما اتسع غزوها للأراضي العربية واضطهادها للشعوب، تعززت لدى الغرب صورتها كضحية لضحاياها

لم يكن ذلك وليد الصدفة، بل كان جزءا من مشروع صهيوني واعٍ ومدروس، عبّر عنه مبكرا الزعيم الصهيوني البولندي ديفيد بن غوريون (واسم عائلته الأصلي "غرون") عام 1936، بعد أشهر قليلة من اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى ضد الاستعمار الاستيطاني الصهيوني والاحتلال البريطاني، محدّدا كيف يجب على الصهاينة أن يُؤطّروا غزوهم لفلسطين والفلسطينيين، قائلا: "نحن لسنا عربا، والآخرون يقيسوننا بمعايير مختلفة... أدوات حربنا مختلفة عن أدوات العرب، وأدواتنا وحدها هي التي تضمن انتصارنا. قوتنا تكمن في الدفاع... وهذه القوة ستمنحنا نصرا سياسيا إذا اقتنعت إنجلترا والعالم أننا ندافع عن أنفسنا ولسنا المعتدين".

في عام 1948، وتماشيا مع هذا التأطير الصهيوني، صوّر الخطاب الغربي السائد الصهاينة، وهم يرتكبون المذابح بحق الفلسطينيين ويشرّدون مئات الآلاف منهم ويهجرونهم من وطنهم، على أنهم ضحايا مساكين يدافعون عن أنفسهم ضد السكان الأصليين الذين سعوا لاحتلال أراضيهم.

وتكرّست هذه الصورة المقلوبة أثناء الغزو "الدفاعي" الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة في حزيران/ يونيو 1967، في مثل هذه الأيام قبل 58 عاما، وهو الاحتلال الذي أدى إلى الإبادة الجماعية المستمرة اليوم. ولكن حتى الإبادة الجماعية الإسرائيلية اليوم يتم تبريرها في الغرب على أنها دفاعية بطبيعتها، فليست إسرائيل إلا ضحية لضحاياها، الذين قتلت وجرحت منهم 200 ألفا دفاعا عن نفسها.

كانت حرب حزيران/ يونيو 1967 لحظة فارقة في تاريخ إسرائيل ارتقت بها إلى مرتبة "الضحية المقدسة" التي لا تُمس في المخيال الغربي، إذ تضاعف مؤيدوها، سواء من المسيحيين أو اليهود الغربيين، وأصبحت كراهية الغرب للعرب والفلسطينيين باعتبارهم مضطهِدين لإسرائيل غير قابلة للاحتواء. وقد ساهم هذا المناخ العدائي في دخول المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد معترك السياسة، بعدما لمس عن كثب حجم العداء والتشويه والإقصاء الذي يتعرض له العرب في الولايات المتحدة ومنها.

سأقوم فيما يلي باستعراض إنجازات حرب عام 1967 والتحضيرات التي سبقتها، عسى أن يكون في ذلك ما يُنير الموقف أمام أولئك الذين أصيبوا بخيبة أمل بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر، نتيجة التواطؤ الغربي في الإبادة الإسرائيلية واستمرار تصوير إسرائيل في الغرب على أنها ضحية لضحاياها.

بين عامي 1948 و1967، دمّرت إسرائيل نحو 500 قرية فلسطينية وأقامت في مكانها مستوطنات يهودية، فيما اعتُبر في الغرب "معجزة" بناء دولة يهودية بعد المحرقة رغم مقاومة الشعب الفلسطيني والعرب الذين صُوروا على أنهم مضطهِدون لليهود. ووصف المؤرخ إسحاق دويتشر، الذي يُعرَف غالبا بأنه ناقد للصهيونية، إقامة إسرائيل ومحوها لفلسطين والفلسطينيين بأنها "أعجوبة نادرة من عجائب التاريخ" تُشبه "الأساطير والخرافات البطولية العظيمة" في العصور القديمة. كما وصف رئيس أركان الجيش الإسرائيلي موشيه ديان، عام 1969، إنجازات إسرائيل الأسطورية في تدمير فلسطين قائلا: "بُنيت قرى يهودية مكان قرى عربية. أنتم لا تعرفون حتى أسماء هذه القرى العربية، ولا ألومكم، لأن كتب الجغرافيا هذه لم تعد موجودة. ليس فقط الكتب غير موجودة، بل القرى العربية نفسها لم تعد موجودة". وقد دفع فخر ديان بسرقة إسرائيل للأراضي الفلسطينية إلى حثّ الإسرائيليين عام 1968 على مواصلة عملية التوسع، قائلا: "لا يجب أن تتوقفوا -لا قدر الله- وتقولوا: هذا كل شيء؛ حتى هنا، حتى دغانيا، حتى مفلاسيم، حتى نحال عوز! فهذا ليس كل شيء".

لم يكن تأسيس الإسرائيليين لدولتهم وتوسعتها المستمرة على حساب أرض الفلسطينيين المسروقة أمرا يستحق النقد في الغرب، بل احتفى بهذه السرقة "الأسطورية" لأراضي الفلسطينيين، وعبّر عن أسفه لصغر مساحة إسرائيل، داعما بشكل علني خططها التوسعية التي كانت جارية بالفعل. فطالما أن الإسرائيليين يُقدَّمون كضحايا، فإنهم -بطبيعة الحال في هذا المنطق المعكوس- بحاجة إلى مساحة أكبر ليحتلوها "دفاعا عن أنفسهم".

وقد أعاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تكرار هذا الرأي السائد مؤخرا، عندما سُئل في شباط/ فبراير الماضي عن احتمال ضم إسرائيل للضفة الغربية، فأجاب مؤكدا: "إسرائيل دولة صغيرة... دولة صغيرة من حيث المساحة".

كانت هذه الرواية راسخة قبل وبعد العدوان الثلاثي عام 1956، حين غزت إسرائيل غزة وسيناء لأول مرة، حيث وصف بن غوريون، رئيس الوزراء المؤسس لإسرائيل، غزو سيناء بأنه كان "الأعظم والأكثر مجدا في تاريخ شعبنا". وأضاف أن الغزو والاحتلال الناجحين أعادا "إرث الملك سليمان من جزيرة يوتفات جنوبا إلى سفوح لبنان شمالا". "يوتفات" -كما سارع الإسرائيليون إلى إعادة تسمية جزيرة تيران المصرية- "ستصبح مرة أخرى جزءا من مملكة إسرائيل الثالثة!"

عندما أصرت الولايات المتحدة، نتيجة منافستها الإمبريالية مع فرنسا وبريطانيا، على انسحاب إسرائيل، أعرب بن غوريون عن غضبه قائلا: "حتى منتصف القرن السادس، تم الحفاظ على الاستقلال اليهودي في جزيرة يوتفات... التي حررها الجيش الإسرائيلي أمس"، مضيفا أن "قطاع غزة جزء لا يتجزأ من الأمة". واستنادا إلى نبوءة النبي إشعيا التوراتية، تعهد بأنه "لن تُجبر أي قوة، مهما كان اسمها، إسرائيل على إخلاء سيناء". ورغم الدعم الغربي الشعبي الواسع لإسرائيل، إلا أن ضغوط الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، أجبر الإسرائيليين على الانسحاب بعد أربعة أشهر. وبينما رحبت مصر حينها بقوة الطوارئ التابعة للأمم المتحدة على جانبها من الحدود، رفض الإسرائيليون استقبالها.

في عام 1954، اقترح وزير الدفاع بنحاس لافون "دخول المناطق منزوعة السلاح [على الحدود الإسرائيلية السورية]، والاستيلاء على المرتفعات عبر الحدود السورية [أي جزء من هضبة الجولان أو كلها]، ودخول قطاع غزة أو الاستيلاء على موقع مصري بالقرب من إيلات". أما ديان فقد اقترح أن تستولي إسرائيل على الأراضي المصرية عند رأس النقب في الجنوب، أو أن تشق طريقها عبر سيناء، جنوب رفح، إلى البحر الأبيض المتوسط. وفي أيار/ مايو 1955، دعا إلى ضم الأراضي اللبنانية جنوب نهر الليطاني.

بدأ الإسرائيليون في وضع خطط منهجية للاستيلاء على جميع الأراضي في المنطقة المنزوعة السلاح المحاذية لهضبة الجولان السورية، بحيث استولوا بين عامي 1949 و1967 على المنطقة المنزوعة السلاح بأكملها. بالإضافة إلى عمليات الاستيلاء واحتلال الأراضي هذه، تصاعدت طموحات إسرائيل الإقليمية طوال الفترة 1948-1967، إذ سعت إسرائيل إلى استفزاز الدول العربية، في محاولة لانتزاع رد فعل مسلح يمنحها الذريعة المناسبة لغزو أراضيهم، بينما تُقدِّم نفسها كضحية لضحاياها.

في 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 1966، اجتاحت القوات الإسرائيلية قرية السموع جنوب الضفة الغربية داخل الأراضي الأردنية، ففجّرت أكثر من 125 منزلا، إلى جانب عيادة ومدرسة. وحين حاول الجنود الأردنيون الرد، كانوا قد وقعوا في كمين، فقُتل 15 جنديا أردنيا وثلاثة مدنيين، وأُصيب 54 آخرون.

وفي نيسان/ أبريل 1967، صعّدت إسرائيل تهديداتها لسوريا، وقلّصت من نطاق المنطقة المنزوعة السلاح، وأرسلت إليها مزارعين وجرارات وجنودا متنكرين في زي شرطة. وعندما رد السوريون بقذائف الهاون، أطلقت إسرائيل 70 طائرة مقاتلة، قصفت دمشق نفسها، وقتلت 100 مواطن سوري.

أثارت الاستفزازات الإسرائيلية موجة غضب عارمة في الرأي العام العربي، ما دفع الزعيم المصري جمال عبد الناصر في نهاية المطاف إلى الاستجابة للضغوط الشعبية المتزايدة من مختلف أنحاء العالم العربي، فأصدر قرارا في أيار/ مايو 1967، بسحب قوات الطوارئ الدولية من الأراضي المصرية، وهي القوات التي لم تسمح إسرائيل بوجودها قط على جانبها من الحدود. كما قرر إغلاق مضيق تيران عند مدخل البحر الأحمر أمام الملاحة الإسرائيلية، وهو إجراء قانوني بموجب القانون الدولي، لكون المضيق يقع ضمن المياه الإقليمية المصرية. أعقب ذلك إرسال عبد الناصر فرقتين عسكريتين إلى سيناء لحماية الحدود بعد انسحاب قوات الطوارئ وإغلاق المضائق، التي كانت تمر عبرها أقل من 5 في المئة من تجارة إسرائيل الخارجية. غير أن إسرائيل تلقفت هذه الخطوات كذريعة مثالية لتنفيذ مخططاتها التوسعية القديمة تحت غطاء "الرد الدفاعي".

في 5 حزيران/ يونيو 1967 شنت إسرائيل هجوما مباغتا على مصر والأردن وسوريا. وخلال ستة أيام، احتلت قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء المصرية حتى قناة السويس للمرة الثانية في عقد من الزمان، بالإضافة إلى الضفة الغربية بأكملها من الأردن، إلى جانب هضبة الجولان السورية.

بخلاف التسمية المتداولة في العالم العربي، حيث يشار إلى الغزو الإسرائيلي باسم "حرب حزيران/ يونيو 1967"، يصر الإسرائيليون ورعاتهم الإمبرياليون في الغرب ليس فقط على قلب الحقائق، وكأن إسرائيل هي التي تعرضت "للاجتياح العربي" لا على أنها هي الغازية لجيرانها العرب، بل أيضا على الإشارة إلى غزوها المتعدد الجبهات باسم "حرب الأيام الستة"، في تشبيه صريح لإسرائيل بالله نفسه. فكما خلق الله العالم في ستة أيام واستراح في اليوم السابع، صوّرت إسرائيل على أنها قد خلقت "عالما جديدا" خلال ستة أيام من الحرب، ثم استراحت منتصرة في اليوم السابع.

لم يستطع الخطاب الغربي إخفاء ابتهاجه العنصري بانتصارات إسرائيل على جيرانها العرب. فقد وصفت صحيفة ديلي تلغراف اللندنية الحرب بـ"انتصار الحضاريين"، وأعلنت صحيفة لوموند الفرنسية أن غزو إسرائيل قد "خلّص" أوروبا "من الذنب الذي تحملته في مأساة الحرب العالمية الثانية، وقبل ذلك، في الاضطهادات التي رافقت ولادة الصهيونية، من المذابح الروسية إلى قضية دريفوس في قارة أوروبا. لقد انتقم اليهود أخيرا -ولكن للأسف، على حساب العرب- من الاتهام المأساوي والغبي القائل بأن اليهود قد ذهبوا كالخراف إلى الذبح".

وكما فعلوا عام 1948، شرع الإسرائيليون في محو القرى الفلسطينية في الضفة الغربية من على الخريطة، فدمروا قرى بيت نوبا وعمواس ويالو، وطردوا سكانها البالغ عددهم عشرة آلاف نسمة. ثم دمروا قرى بيت مرسم وبيت عوا وحبلة والجفتلك، وغيرها. وفي القدس الشرقية، هاجم الإسرائيليون حي المغاربة، الذي سُمي بهذا الاسم قبل سبعة قرون عندما انضم متطوعون مغاربة من شمال أفريقيا إلى حرب صلاح الدين ضد الفرنجة الصليبيين. كان الحي مملوكا للوقف الإسلامي لقرون. مُنح آلاف السكان دقائق لإخلاء منازلهم التي هُدمت على الفور لإفساح المجال للجماهير اليهودية الغازية لدخول البلدة القديمة والاحتفال بانتصارهم أمام حائط البراق (ما يُسمى "الحائط الغربي").

عبّر أول حاكم عسكري إسرائيلي للأراضي المحتلة، الأيرلندي المولد حاييم هرتسوغ، والذي أصبح لاحقا الرئيس السادس لإسرائيل، عن فخره العارم بـتدمير و"تنظيف" الحي القديم من سكانه العرب، والذي وصفه، بأسلوبه العنصري الإسرائيلي المعهود، بأنه "مرحاض قررنا إزالته". هكذا يحافظ "الضحايا الحضاريون" على النظافة عندما يَهزمون ضحاياهم!

جابت سيارات الجيب العسكرية الإسرائيلية شوارع بيت لحم مطلقة إنذاراتها للسكان بمكبرات الصوت: "أمامكم ساعتان لمغادرة منازلكم والفرار إلى أريحا أو عمان. إن لم تفعلوا، ستُقصف منازلكم". هكذا بدأ التهجير المباشر، حيث أُجبر أكثر من 200 ألف فلسطيني على عبور نهر الأردن إلى الضفة الشرقية. وفي غزة، طرد الإسرائيليون 75 ألف فلسطيني بحلول كانون الأول/ديسمبر 1968 ومنعوا 50 ألفا آخرين كانوا يعملون أو يدرسون أو مسافرين في مصر أو أي مكان آخر خلال حرب 1967 من العودة إلى ديارهم في غزة. أحصت الأمم المتحدة 323 ألف فلسطيني نزحوا من غزة والضفة الغربية، منهم 113 ألف لاجئ من عام 1948 هجّروا للمرة الثانية. ونهب المدنيون والجنود الإسرائيليون الممتلكات الفلسطينية، كما حدث في عام 1948. يبدو أن هذا أيضا كان متناغما مع السلوك "الحضاري".

على الرغم من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي تميزها، وعنصريتها الصارخة ضد العرب وازدرائها العنصري، فقد نُظر إلى غزو إسرائيل على أنه غزو ضحايا إسرائيليين لـ"مضطهِديهم" العرب. وبينما أصرت جوقة مؤيدة لإسرائيل في الغرب على أن إسرائيل المسكينة تُبقي على احتلالها الوحشي للأراضي التي احتلتها عام 1967 فقط لمقايضتها باتفاقات سلام مع ضحاياها العدوانيين، كانت في الواقع تُواصل مشاريعها الاستعمارية

وقد طردت إسرائيل أكثر من 100 ألف سوري من هضبة الجولان، ولم يتبقَّ في المنطقة سوى 15 ألف سوري في نهاية الحرب. وهدمت إسرائيل مئة بلدة وقرية سورية نُقلت أراضيها إلى المستوطنين اليهود. بينما كان معظم سكان سيناء آنذاك من البدو والمزارعين، أصبح 38 ألفا منهم لاجئين.

أسفر العدوان الإسرائيلي أيضا عن استشهاد أكثر من 18 ألف عسكري أو مقاتل مصري وسوري وأردني وفلسطيني، بينما لم يتجاوز عدد القتلى الإسرائيليين الألف. وأثناء الحرب وبعدها، أعدم الإسرائيليون بالرصاص ما لا يقل عن ألف أسير حرب مصري كانوا قد استسلموا، وأُجبروهم على حفر قبورهم بأيديهم قبل إعدامهم. كما قتلوا أسرى فلسطينيين ممن كانوا يخدمون في الجيش المصري، تم انتزاعهم من بين الأسرى عن قصد لأنهم فلسطينيون. وقد واصلت إسرائيل عمليات ترحيل الفلسطينيين بالمئات مع استمرار الاحتلال. وقد شكّل كل ما سبق من جرائم إسرائيل دليلا إضافيا في عين الغرب المتحضر على ما يجب على الضحايا "الحضاريين" فعله عندما يغزون أراضي ضحاياهم "الأقل تحضّرا".

ومع ذلك، وعلى الرغم من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي تميزها، وعنصريتها الصارخة ضد العرب وازدرائها العنصري، فقد نُظر إلى غزو إسرائيل على أنه غزو ضحايا إسرائيليين لـ"مضطهِديهم" العرب. وبينما أصرت جوقة مؤيدة لإسرائيل في الغرب على أن إسرائيل المسكينة تُبقي على احتلالها الوحشي للأراضي التي احتلتها عام 1967 فقط لمقايضتها باتفاقات سلام مع ضحاياها العدوانيين، كانت في الواقع تُواصل مشاريعها الاستعمارية.

دعونا نُلقي نظرة سريعة على بعض هذه التطورات كي تتضح الصورة أكثر:

بحلول عام 1977، أي بعد عشر سنوات من الغزو، كانت حكومات حزب العمل الإسرائيلية المتعاقبة قد ضمت القدس الشرقية، وأنشأت 30 مستعمرة استيطانية يهودية في الضفة الغربية وحدها، وأربع مستعمرات في قطاع غزة، مع المزيد قيد الإنشاء. انتقل ما يزيد عن 50 ألف مستوطن يهودي إلى المستعمرات اليهودية التي أُنشئت في القدس الشرقية، والتي وُصفت عمدا بأنها "أحياء". وقد أنشأت حكومات حزب العمل غالبية المستوطنات الثماني عشرة في شبه جزيرة سيناء قبل انتخاب الليكود. كما طرد حزب العمل، في عام 1972، عشرة آلاف مصري بعد مصادرة أراضيهم في عام 1969. فقد جرفوا منازلهم ومحاصيلهم ومساجدهم ومدارسهم، من أجل إنشاء ستة كيبوتسات، وتسع مستوطنات يهودية ريفية، ومستعمرة ياميت اليهودية في سيناء المحتلة. في نهاية المطاف، كان لا بد من تفكيك مستعمرات سيناء في عام 1982 بعد توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية.

في الأراضي السورية المحتلة، أقام الإسرائيليون، في تموز/ يوليو 1967، أول مستعمرة يهودية خارج حدود فلسطين الانتدابية، سمّوها "كيبوتس الجولان". وقد أثار مشهد هضبة الجولان شجون رئيس الوزراء الإسرائيلي العمالي ليفي إشكول، واسم عائلته الأصلي "شكولينك"، وحرّك حنينه لمسقط رأسه حيث صاح فرحا: "تبدو تماما كأنها أوكرانيا!".

طرد الإسرائيليون نحو 5000 لاجئ فلسطيني كانوا يقيمون فيما يعرف بـ"الحي اليهودي" في القدس الشرقية، وهو حي لم يكن يوما حكرا على اليهود، إذ لم تتجاوز ملكيتهم فيه قبل عام 1948 نسبة 20 في المئة، اقتصرت ممتلكاتهم على ثلاثة معابد يهودية وما يحيط بها من أسوار. في عام 1948، فرّ سكان الحي اليهودي البالغ عددهم 2000 نسمة إلى الجانب الصهيوني عندما أنقذ الجيش الأردني القدس الشرقية من النهب والاحتلال الصهيوني. شكّل المسلمون والمسيحيون، ما قبل عام 1948، غالبية سكان "الحي اليهودي" الذي تبلغ مساحته خمسة أفدنة، وكان معظم اليهود الذين سكنوا هناك يستأجرون ممتلكاتهم منهم أو من أوقاف مسيحية وإسلامية.

وقد احتفظ حارس أملاك الغائبين الأردني بجميع الممتلكات اليهودية باسم أصحابها الأصليين ولم يصادرها. وقد أُعيدت الممتلكات اليهودية في القدس الشرقية إلى أصحابها اليهود الإسرائيليين بعد عام 1967، بينما صادرت الحكومة الإسرائيلية جميع الممتلكات الفلسطينية في الحي. أما الممتلكات الفلسطينية في القدس الغربية التي صادرها الإسرائيليون عام 1948، فلم تُعد قط إلى فلسطينيي القدس الشرقية، الذين أصبحوا الآن يعيشون تحت الاحتلال الإسرائيلي، ويطالبون بها.

في 29 حزيران/ يونيو 1967، وضعت إسرائيل القدس الشرقية المحتلة لسيطرة بلدية القدس الغربية الموسعة وأقالت ثم رحّلت رئيس بلديتها الفلسطيني-الأردني، كما قامت بحلّ مجلسها البلدي، وتهويد إدارة المدينة بأكملها. وفور اجتياحها واحتلالها، أُعلنت المدينة "موقعا أثريا"، مما يعني حظر البناء فيها. وسرعان ما بدأ الإسرائيليون أعمال حفر أثرية تحت المقدسات الإسلامية في بحث يائس عن الهيكل اليهودي، مما أدى إلى تدمير العديد من المعالم الفلسطينية التاريخية، من بينها الزاوية الفخرية والمدرسة التنكيزية اللتان تعودان إلى القرن الرابع عشر. وفي عام 1980، ضم الإسرائيليون المدينة رسميا وهي خطوة أعلنها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة "باطلة ولاغية".

ليس من المُستغرب إذا أن يُوظّف مُؤيّدو إسرائيل الغربيون هذا الإرثَ ليس فقط بعد هجماتها الأخيرة على إيران، بل طوال حرب الإبادة الجماعية في غزة وعدوانها الإقليمي الأوسع، من الضفة الغربية إلى لبنان وسوريا وما وراءهما. فمن وجهة نظرهم، لا تُدافع إسرائيل عن نفسها فحسب، بل تعمل أيضا كوكيلٍ للغرب

استمرت أعمال الحفر والتنقيب تحت الأماكن الإسلامية المقدسة وبجوارها بوتيرة متسارعة منذ ذلك الحين، بحثا عن "الهيكل اليهودي الأول" الذي لم يُعثر عليه قط، بافتراض أنه وُجد أصلا. فبينما يقر بعض علماء الآثار بوجود ما يُعرف بـ"الهيكل الثاني" في العصور القديمة، فإن الغالبية تبدي شكوكا جدّيّة بوجود الهيكل الأول (أو "هيكل سليمان" المزعوم). بالتوازي بدأت سياسة تهجير المقدسيين الفلسطينيين تأخذ مسارا منتظما. وقد فُرض حظر التجول والعقوبات الجماعية على سكان جميع الأراضي المحتلة بشكل دوري. وفي محاولة لإعادة إنتاج الجغرافيا على صورة الأسطورة، أخذ الإسرائيليون يطلقون تسميات توراتية على المناطق والمدن والبلدات الفلسطينية، فأصبح اسم الضفة الغربية "يهودا والسامرة"، كما أطلقت على المدن والشوارع في الأراضي المحتلة أسماء مستوحاة من مخيالهم التوراتي.

كل ما سبق -وأكثر- كان تمهيدا منهجيا للإبادة الجماعية الحالية، ولطالما قوبل بإشادة أو بلامبالاة من مؤيدي إسرائيل ومموليها في الغرب، بل إن دعم إسرائيل هناك يبدو وكأنه يتناسب طرديا مع شراسة بطشها وضراوتها تجاه ضحاياها، فكلما ازدادت وحشيتها، تعاظم الإعجاب بها. النكبة التي نفّذتها عام 1948، ونظام الفصل العنصري الذي فرضته لاحقا على الفلسطينيين الذين لم تنجح في اقتلاعهم ما بين 1948 و1967، قُدّما في الغرب كإنجازين ملحميين "للضحايا اليهود" ضد الشعب الذي سُرقت أرضه وقُوضت حياته.

لكن إذا كان استخدام كلمة "مقاومة" لوصف رد الفلسطينيين على المحتل والجلّاد الصهيوني يُعد جريمة أخلاقية في العُرف السياسي الغربي، فإن مؤسس الدولة الإسرائيلية ديفيد بن غوريون لم يكن يشاطر الغرب هذا الرأي في عام 1938، إذ قال آنذاك عن الثورة الفلسطينية: "إنها مقاومة نشطة من قبل الفلسطينيين ضد ما يعتبرونه اغتصابا لوطنهم من قِبل اليهود، ولهذا يقاتلون. تقف خلف الإرهابيين حركة، وإن كانت بدائية، إلا أنها لا تخلو من المثالية والتضحية بالنفس... نحن المعتدون، وهم يدافعون عن أنفسهم. البلد بلدهم لأنهم يسكنونه، بينما نحن نريد أن نأتي للاستقرار فيه، ومن وجهة نظرهم نريد أن ننتزع منهم بلدهم، ونحن ما زلنا في الخارج".

لقد كانت "القدرات الدفاعية" الإسرائيلية، الشبيهة بقدرة الإله التدميريّة عام 1967، هي التي كرّست في الغرب فكرة أن إسرائيل "حضارية"، ومتفوقة أخلاقيا. وقد أصبحت تلك الحرب النموذجَ الدائمَ لما يُسمى حملات إسرائيل "الاستباقية"، وهي حروبٌ تُوسّع نطاقَها الاستعماري وتُتيح لها التظاهرَ بأنها ضحيةُ لضحاياها.

ليس من المُستغرب إذا أن يُوظّف مُؤيّدو إسرائيل الغربيون هذا الإرثَ ليس فقط بعد هجماتها الأخيرة على إيران، بل طوال حرب الإبادة الجماعية في غزة وعدوانها الإقليمي الأوسع، من الضفة الغربية إلى لبنان وسوريا وما وراءهما. فمن وجهة نظرهم، لا تُدافع إسرائيل عن نفسها فحسب، بل تعمل أيضا كوكيلٍ للغرب.

وهكذا، فإن الإبادة الجماعية الجارية اليوم ليست خروجا عن هذا السياق، بل تتويجا له، فهي برهان جديد ومضاعف على ما يحق لـ"الضحايا الغربيين" أن يفعلوه عندما يهزمون ضحاياهم غير الغربيّين.
التعليقات (0)

خبر عاجل