أثبت الصمود الفلسطيني في
غزة أن المقاومة، وليس غيرها، هي الرقم الصعب في أي محاولة لإعادة رسم خريطة النفوذ في الشرق الأوسط، أو إقامة «نظام» يقوم على الهيمنة الإسرائيلية مكان «اللانظام» الحالي. وربما يقود صمود غزة، وحالة الاستفاقة في الضفة الغربية إلى إعادة اكتشاف حقيقة أن القوة الفاعلة المستدامة هي «قوة المجتمع»، خصوصا في وقت «هشاشة الدولة».
لقد تمكنت إسرائيل في حروبها الأخيرة على الجبهات المختلفة من ضرب مفاصل الدولة بسهولة تامة في سوريا، مع مقاومة محدودة في لبنان، وردود قوية مؤلمة من جانب إيران. وفي كل الأحوال فإنها استطاعت إنهاء الحروب أو تعليقها في أيام. الاستثناء الوحيد هو غزة، التي تقاوم
الاحتلال، وترد عليه، وتحتفظ بأسراه داخل أقبية الإذلال. وتعبر المقاومة عن قوة المجتمع الفلسطيني وقدرته على الصمود، بعيدا عن هشاشة الدولة وضمور دورها. وتعلم إسرائيل أن المقاومة هي «حرب الشعب» وليست مجرد «حرب» يجري الاحتكام فيها إلى القوة المطلقة، وأن انتصارها لا يتحقق إلا عبر إبادة الشعب الفلسطيني بالقتل والتجويع والعزل والتهجير، حتى لا يكون للمقاومة منبع يغذيها بالقوة المتجددة.
لكن الفلسطيني عَلم منذ أكثر من 100عام أن هويته هي بندقيته، حتى يكون له وطن آمن، مستقل ذو سيادة، وأن طريقه إلى ذلك هو المقاومة، مهما كانت وحشية القتل والتجويع والعزل والتهجير. وفي هذا لب ما عجزت صفقة
نتنياهو –
ترامب عن إدراكه: إن المقاومة لا تستسلم، ولن تقبل بغير الانسحاب الإسرائيلي وإنهاء الحرب وتبادل الأسرى.
تداعيات الفرضية الخاطئة
بدأت صفقة نتنياهو – ترامب من فرضية خاطئة، وهي أن استسلام غزة أصبح أمرا مفروغا منه بعد حرب إيران، التي تدخلت فيها الولايات المتحدة بأقوى أسلحتها غير النووية، حتى لا تتحول إلى حرب استنزاف طويلة الأمد تقلب كل موازين القوى، وتضع مستقبل العالم كله على حافة الهاوية. كان الاعتقاد السائد هو أن الصراع في المنطقة تقوده إيران بأذرع أخطبوطية ممتدة، وأنه لن يتوقف إلا بقطع رأس الأخطبوط، ففي هذا تكون نهاية الصراع وإعادة رسم خريطة النفوذ الإقليمي، كما اعتقدوا، وكان تأييد ضربة قاصمة لإيران محل إجماع داخل إسرائيل.
وقد رأينا هذا الإجماع الاستثنائي خلال حرب الـ 12 يوما. وعندما سافر نتنياهو إلى واشنطن، فإنه اعتقد، كما اعتقد ترامب، أن استسلام غزة أصبح مسألة مفروغا منها، وأن استعادة المحتجزين أصبح أمرا في متناول اليد، وأن حماس ليس لديها ما تكسبه، ولن يكون أمامها إلا التوسل لضمان الخروج الآمن لقياداتها في الداخل، وعدم استهداف قياداتها في الخارج بالقتل.
ولهذا فقد جرى استدعاء المبعوث الأمريكي لحضور محادثات واشنطن بين ترامب ونتنياهو، وبحث ترتيبات ما بعد استسلام حماس. وحتى اليوم الأخير من الزيارة ظل ترامب ونتنياهو يبشران بالتوصل إلى اتفاق لإطلاق سراح المحتجزين خلال أيام. كان أهم ما في الصفقة بالنسبة لهم هو إطلاق سراح المحتجزين، وبعدها يكون لكل حادث حديث.
وقد علم الناس داخل إسرائيل وخارجها في الأيام الأخيرة، أن هدنة الـ60 يوما ليست إلا بابا لاسترداد المحتجزين، وبعدها يتم استئناف الحرب بكل قوة لاستكمال تدمير قطاع غزة بمن فيه، حسب وعد نتنياهو لكل من بن غفير وسموتريتش، كما كشف الإعلام الإسرائيلي. لقد اعتقد نتنياهو وترامب أن وقف حرب إيران هو الإشارة الخضراء لانطلاق صفقة إعادة رسم خريطة النفوذ في الشرق الأوسط، لكن غزة أثبتت أن تلك كانت إشارة كاذبة، وأنها هي التي ستقرر شكل الشرق الأوسط.
حماس (واعلم أن المقاومة هي حماس وأن حماس هي المقاومة) أثبتت كذب الفرضية، وأسقطت وهم الاستسلام. هي لم تكتف بذلك فقط، وإنما انتقلت بسرعة إلى ما نسميه «الصمود الإيجابي»، وهو الصمود الاشتباكي العملياتي الديناميكي، الذي تستثمر فيه المقاومة قدرتها على السيطرة في ما تحت الأرض، من أجل تحقيق مكاسب عسكرية عملياتية فوق الأرض.
وقد شهدنا خلال الأسابيع الأخيرة طفرة في نوعية عمليات المقاومة، وقفزة في أعداد قتلى وجرحى جنود العدو وخسائر آلياته. ما انتقلت إليه المقاومة من تكتيكات يجدد صيحة الشاعر المصري المناضل كمال عبد الحليم في حرب السويس التي قال فيها: «دع سمائي فسمائي محرقة.. دع مياهي فمياهي مغرقة.. واحذر الأرض فأرضي صاعقة».
الآن يجري تفخيخ الأرض والبنايات المهدمة في غزة بالعبوات الناسفة، ويبرز المقاتلون من تحت الأرض بأسلحة الموت لقوات الاحتلال، ثم يختفون في لمح البصر بعد الفوز. الجديد أيضا انهم يحاولون خطف بعض جنود العدو أسرى لديهم. وفي زيادة أعداد المحتجزين من قوات جيش الاحتلال، مذلة أكبر للجيش الإسرائيلي وقيادته السياسية والعسكرية.
ولدى المقاومة فيض من الإرادة، وفيض من الإقدام على التضحية. الأمر أيضا كذلك لدى كل الفلسطينيين، بعد أن علموا أن إسرائيل تعتبر بقاءهم نفيا لوجودها، وأن حياتهم تساوي موتها. وقد سجلت الأيام الأخيرة زيادة كبيرة في وتيرة العمليات العسكرية الوحشية الإسرائيلية، التي أدت لارتفاع أعداد الشهداء إلى أكثر من 57 ألف شهيد، قليل جدا منهم كانوا يحملون السلاح، وأكثريتهم الساحقة من الأطفال والنساء.
ووجهت المقاومة ضربات مؤلمة لجيش الاحتلال أسفرت عن زيادة كبيرة في أعداد القتلى والجرحى وخسائر المعدات. ولهذا توقفت إسرائيل عن تحديث بيانات القتلى والمصابين منذ 8 من الشهر الجاري (حتى كتابة هذه السطور). كما تضمنت تداعيات الصمود الإيجابي للمقاومة إصابة إسرائيل وحلفائها والمتواطئين معها بحالة من الفزع الممزوج بالهياج، ما يفسر حملات الإعلاميين المرتزقة المأجورين، والإعلاميين المخبرين، والإعلاميين الجواسيس، التي تهدف إلى اغتيال حماس معنويا.
نتنياهو إلى نقطة الصفر
الصمود الفلسطيني أعاد نتنياهو إلى نقطة الصفر إقليميا، فمشروع توسيع التطبيع توقف تقريبا، باستثناء ما يجري في سوريا. لقد وضعت السعودية مبدأ «غزة أولا» مفتاحا لأي تقدم على طريق التطبيع، ما يعني أنها تلقي بكل ثقلها وراء غزة.
أما على المستوى الداخلي فقد عاد نتنياهو من واشنطن ليواجه احتجاجات أوسع نطاقا تتهمه بالمسؤولية عن تأخير استرداد المحتجزين، والتسبب في سقوط مزيد من القتلى في صفوف جيش الاحتلال. وتشير أحدث استطلاعات الرأي العام إلى أن 74% من الناخبين يؤيدون استعادة المحتجزين وإنهاء الحرب، ما يعني رفض سياسة نتنياهو باستمرار الحرب، حتى التخلص من حماس.
كما يواجه نتنياهو خلافا مع رئيس الأركان إيال زامير، حول جدوى بقاء جيش الاحتلال في غزة، وحدود الدور الذي يمكن أن يقوم به، وهو الخلاف الذي أطاح بوزير الدفاع ورئيس الأركان السابقين.
كما يمتد هذا الخلاف إلى مشروع معسكر الاعتقال النازي، الذي يتبناه نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس تحت مسمى «مدينة الإغاثة الإنسانية»! وتتضمن عناصر المشروع تهجير مئات الآلاف من سكان غزة إلى معسكر في جنوب القطاع تصل مساحته إلى حوالي 50 كم مربع، يحاصره الجيش، ويتحكم في إدخال الإمدادات الغذائية والحياتية اليومية إليه، وتنتشر فيه جماعات المجرمين والخونة العملاء، لجعل الحياة فيه مستحيلة، ما يصنع برميل بارود متفجر على حافة الحدود مع مصر.
زامير أعلن رفضه للمشروع، فطلب منه نتنياهو تقديم مشروع بديل «أرخص تكلفة وممكن التنفيذ في وقت أقل»، ما يعني أن الخلاف بينهما عملياتي وليس استراتيجيا. ومن المثير للسخرية أن موجة المعارضة لهذه الفكر تنتشر في العالم كله، بما في ذلك إسرائيل، في حين تتم التغطية عليها وتجاهلها في عواصم القرار العربية، باستثناء مصر. إيهود أولمرت، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، اعتبر صراحة أن هذه الفكرة تعيد إنتاج معسكرات الاعتقال النازي في عهد هتلر.
إن «صفقة نتنياهو – ترامب» سقطت في الاختبار الأول في غزة، ولن تقوم لها قائمة طالما استمر «الصمود الإيجابي» للشعب الفلسطيني. هذا الصمود قادر على كسر الاحتلال، وإعادة رسم خريطة موازين القوى في المنطقة. حماس ليست دولة، أو سلطة تعيش بحسابات الهلع من السقوط، لكنها إرادة مقاومة، تعبر عن «مجتمع صلب»، رغم جراحه العميقة، يقاوم خطر الإبادة بالصمود.
ولا تستطيع حكومة نتنياهو في مواجهة ذلك، إلا تكرار ما تفعله كل يوم من التوسع في استخدام أسلحة حرب الإبادة، القتل والتدمير والتجويع والعزل والتهجير، وهو ما يضعفها داخليا ويكشف حقيقتها النازية أمام العالم، ويعجل بسقوطها. ومن أجل إطالة أمد الصمود فإن المقاومة تحتاج منا كل تأييد، بكل ما نستطيع، فهي الظاهرة الوحيدة في واقعنا الحالي التي تبعث على التفاؤل، فكونوا معها. كونوا معها بكل ما استطعتم. طوبى للمقاتلين من أجل الحرية.
القدس العربي