قضايا وآراء

دماء على يد صاحب الفخامة

حمزة زوبع
مجزرة رابعة- جيتي
مجزرة رابعة- جيتي
"نحن نتعامل مع الأصوليين والمتطرفين الذين تسببوا في الأضرار وقتلوا الناس وخربوا خلال السنوات الأخيرة، ولا أستطيع أن أطلب من المصريين أن ينسوا حقوقهم ولا الشرطة والمدنيين الذين ماتوا" (السيسي ردا على سؤال مقدم برنامج ستون دقيقة عن ما يقوله منتقدو السيسي في الأمم المتحدة من أن يديك ملطختان بدماء المصريين - 6 كانون الثاني/ يناير 2019).

"ما تقلقوش بفضل الله تعالى، طب ليه: حاجتين أنا معملتهمش، إيدي لا اتعاصت بدم حد ولا إيدي خدت مال حد" (تصريح السيسي في 16 كانون الأول/ ديسمبر 2024).

"لو المسئول عنكم إيده ملوثة بدم الناس خافوا على بلدكم، ولو إيده تأخذ أموال الناس خافوا على بلدكم والحمد لله مفيش حاجة من دي موجودة" (تصريح السيسي أثناء مشاركته نصارى مصر باحتفال عيد الميلاد في 6 كانون الثاني/ يناير 2025، أي بعد ثلاثة أسابيع من تصريحه السابق).

" فأيدينا بفضل الله تعالى لا هي ملطخة بدماء أحد ولا بأموال أحد ولا بالتآمر على أحد" (السيسي في خطابه لطلبة الأكاديمية العسكرية-  7 آب/ أغسطس 2025).

لماذا ينفي السيسي مسئوليته عن الدماء التي سالت في مصر على يديه وباعترافه هو شخصيا وبأوامر منه؛ حين وقف في احتفال الشرطة 2015 وأشار بيديه كمن يمسك بمسدسه قائلا للضباط والجنود: "لن أكبل أيديكم عن الثأر"، وكأنه زعيم عصابة مسلحة وليس على رأس السلطة في بلد عظيم وكبير بحجم مصر؟

لماذا يستحضر السيسي هذا الموضوع ويتحدث عنه في مناسبات عدة خصوصا أمام الضباط والجنود وينفي مسئوليته عن وقوعه؟

وقبل الإجابة على هذا السؤال ثمة سؤال آخر وهو: لماذا يستحضر السيسي هذا الموضوع ويتحدث عنه في مناسبات عدة خصوصا أمام الضباط والجنود وينفي مسئوليته عن وقوعه؟

الإجابة ببساطة هي أن المجرم أو القاتل عادة ومن شدة قلقه وخوفه من انكشاف أمره وافتضاح سره؛ يحوم حول مكان الجريمة وعادة ما يسقط حول المكان، ومشكلتنا مع الجنرال السيسي أن مسرح بل مسارح جرائمه متعدة ومتشعبة ومتناثرة على خريطة الوطن من مجزرة "بين السرايات" في الجيزة إلى مجزرة المنطقة الشمالية العسكرية في الإسكندرية، ثم مجزرة ماسبيرو الثانية في القاهرة، ومجزرة الحرس الجمهوري الأولى ثم الثانية في مدينة نصر، ثم مجزرة رمسيس الأولى في قلب القاهرة، ومجزرة البحر الأعظم في الجيزة، ثم مجزرة المنصورة في قلب الدلتا، ثم مجزرة مسجد الاستقامة في ميدان الجيزة، ومسجد القائد إبراهيم في الإسكندرية، ومجزرة المنصة في مدينة نصر، ثم أم المجازر والمذابح في رابعة العدوية حيث قتل الآلاف في فض اعتصام سلمي ضم الرجال والنساء والشيوخ، وتلتها مجزرة ميدان مصطفى محمود في قلب الجيزة، ثم مجزرة رمسيس الثانية، ومجزرة سموحة في الإسكندرية، ومجزرة قسم العرب في محافظة بورسعيد (إحدى محافظات القنال)، ثم مجزرة ميدان الأربعين في محافظة السويس (وهي الأخرى أشهر محافظات خط القنال والتي انطلقت منها شرارة ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011)، ثم مجزرة المطافئ في العريش شمال سيناء، ثم مجزرة دمياط على البحر المتوسط، ومجزرة سيارة الترحيلات التي أحرقت وفيها 37 معتقلا راحوا ضحية إطلاق قنبلة غاز داخل السيارة محكمة الغلق من ضابط الترحيلة؛ الذي توسط رئيس المخابرات المصرية حينئذ عباس كامل من أجل إنقاذه من العقوبة، لأن أباه رجل عسكري مسكين كان قلبه يتقطع على ولده الذي قتل الناس أحياء جهارا نهارا ومر بعقوبة خففت لتصبح أشبه باللا عقوبة!

من القاهرة إلى الجيزة، ومن السويس إلى المنصورة، ومن بورسعيد إلى دمياط، ومن العريش إلى الإسكندرية، ومن اقتحام البيوت وقتل الآمنين إلى قتل الطلاب في حرم الجامعات، ومن الموت البطيء في السجون إلى القتل العمد في أقسام الشرطة تحت التعذيب.. لم يعد هناك ثمة مكان في خريطة مصر لم تصله يد القتل والبغي كما لم يعد هناك زمن محدد أو مناسبة للقتل والتصفية الجسدية، دم الشعب المستباح موجود ومتاح ثم يخرج هذا القاتل المعتوه لينفي جرائمه وكأنه بذلك استطاع غسل يديه من دماء المصريين وهو الذي اعترف بقتلهم غير مرة.

يحاول السيسي التخلص من الوسواس القهري الذي لازمه منذ أن أطلق رصاصته الأولى بعد أن طلب من الشعب المسكين تفويضا وأمرا بالقتل لمواجهة الإرهاب الذي سماه حينئذ (2013) إرهابا محتملا، ثم صار إرهابا حكوميا معتمدا ومدبرا ومحكما بلا حساب ولا عتاب.

تصريحات السيسي بنفيه تلطخ يديه بدماء المصريين، نجد أنها جاءت بعد زوال ملك بشار الأسد ونهاية حكمه على يد الشعب المسلح أو طائفة منه، ونجد أن الإعلام ركز على سجون النظام وأشهرها سجن صيدنايا، مما أثار الرعب في قلب السيسي بسبب ما يجري بعلمه وبأوامر منه من انتهاكات واغتيالات في معتقلاته وسجونه المنتشرة في ربوع الوطن

إذا عدنا لتصريحات السيسي بنفيه تلطخ يديه بدماء المصريين، نجد أنها جاءت بعد زوال ملك بشار الأسد ونهاية حكمه على يد الشعب المسلح أو طائفة منه، ونجد أن الإعلام ركز على سجون النظام وأشهرها سجن صيدنايا، مما أثار الرعب في قلب السيسي بسبب ما يجري بعلمه وبأوامر منه من انتهاكات واغتيالات في معتقلاته وسجونه المنتشرة في ربوع الوطن؛ وتضم في زنازينها مئات الألوف من خيرة أنباء الوطن من علماء ومفكرين ودعاة وساسة وأطباء ومهندسين ونقابيين ومعلمين ومبدعين ورجال ونساء، وحتى أطفال دخلوا السجن وصاروا شبابا وهم لا يزالون رهن الاعتقال بلا محاكمة.

في ذكرى مجزرة رابعة أتذكر كل من مررت عليه في خيمته ممسكا بمصحفه أو قائما يصلي الضحى أو يتهجد من الليل نافلة، أو مستلقيا على حصيرة وهو يمسك بكتاب يقرأه أو يجلس ضمن جمع يستمع لمحاضرة من شيخ أو عالم يرقق القلوب ويثبت الأفئدة.

المناسبة الثانية التي تؤرق السيسي وتجعله يشعر بالألم ويحاول جاهدا نفي تورطه في الدم؛ هي الحرب على غزة والحصار القاتل الذي يشارك فيه بوعي وعلم ومعرفة وسبق الإصرار والترصد، وكلما اشتد الخناق حول رقبة السيسي ومسئوليته عن الدماء التي تسيل في غزة يعاود الكرة معلنا أن يديه نظيفتان وطاهرتان، وأن سجله خال من جرائم قتل الفلسطينيين حصارا وتجويعا أو مشاركة في دعم العدوان، كما فعل بتمديد عقد استيراد الغاز الطبيعي من الكيان الصهيوني حتى عام 2040 بصفقة وصلت قيمتها إلى 35 مليار دولار؛ كفيلة بدعم ومساندة اقتصاد الكيان الصهيوني الذي يعاني بسبب الحرب على غزة، وبدلا من أن يعاقب المحتل على احتلاله إذا بالسيسي يقوم بعملية إسناد سياسي واقتصادي غير مسبوقة وغير مألوفة في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، وفي الوقت التي تحاول بعض الدول الأوروبية الضغط اقتصاديا على الكيان الغاصب، إذا بالسيسي ينحاز لبني جلدته ويقدم لهم العون على مرأى ومسمع من العالم ثم يخرج لينفي تورطه في الدم.. أين حمرة الخجل؟

في ذكرى مجزرة رابعة أتذكر الرجال الذين صمدوا في الميدان والذين استشهدوا دفاعا عن الثورة وشرف الأمة وحقها في أن تفرض كلمتها وتسترد إرادتها التي سُلبت بفعل تآمر ضابط باع نفسه من أجل أن يصل إلى السلطة، وهو الذي أقسم أن لن يترشح ثم نقض العهد -كما سحب بيعته للرئيس محمد مرسي- وترشح، ثم وعد بأن تكون فترة ثم كانت فترتين ثم عدل الدستور لكي يبقى في السلطة لحين انتهاء العدو الصهيوني من تصفية قضية فلسطين تحت سمعه وبصره ودعمه وإسناده أو لحين القضاء عليه؛ أيما الأجلين قضى.
التعليقات (0)