منذ
نكبة
عام 1948، لم تكن
المخيمات الفلسطينية مجرد مساحات مؤقتة لإيواء من شُردوا من
قراهم ومدنهم، بل تحولت إلى بنية مكانية واجتماعية وسياسية تحمل في طياتها جوهر
القضية الفلسطينية. إنها ليست مجرد تجمعات سكنية مكتظة بالبيوت الإسمنتية أو
الخيام التي اندثرت، بل شاهد حي على أطول مأساة لجوء في العصر الحديث، ومختبر يومي
لصمود الفلسطينيين في وجه محاولات محو الهوية والذاكرة.
اليوم،
يعيش نحو 6 ملايين لاجئ فلسطيني مسجل لدى وكالة
الأونروا، موزعين على مناطق اللجوء
الخمس: الضفة الغربية، وقطاع غزة، والأردن، ولبنان، وسوريا. لكن الأرقام وحدها لا
تكفي لفهم عمق الكارثة؛ إذ إن نحو 40 في المئة من هؤلاء اللاجئين لا يزالون يقيمون
في المخيمات، بينما انتقل الباقون إلى المدن أو القرى المجاورة بحثا عن فرص حياة
أفضل، دون أن يتنازلوا عن هويتهم كلاجئين وحقهم في العودة.
ظل المخيم محتفظا بوظيفته الرمزية الأهم: التذكير بحق العودة. فالمخيم لا يُنظر إليه كمكان إقامة دائم، بل كحالة انتظار طويلة للعودة إلى البيت الأصلي في حيفا ويافا وصفد واللد والرملة. هذه الرمزية هي ما يجعل إسرائيل ترى في المخيمات تهديدا وجوديا، لأنها تنسف رواية "النسيان"
جغرافيا
المخيمات: من المؤقت إلى الدائم
في الضفة
الغربية وحدها، يوجد 19 مخيما للاجئين، تتوزع على محافظات مثل نابلس، وطولكرم، وجنين،
ورام الله، وبيت لحم، والخليل. هذه المخيمات تأسست بين عامي 1948 و1950 لتؤوي
عشرات آلاف اللاجئين المطرودين من مناطق الساحل الفلسطيني والداخل المحتل. ومع
مرور العقود، تحولت هذه المخيمات إلى ما يشبه المدن الصغيرة المكتظة، لكن دون بنية
تحتية ملائمة، حيث بقيت محاصرة بالقيود الإسرائيلية وبغياب التنمية.
أما في
قطاع غزة، فالوضع أكثر تعقيدا. هناك 8 مخيمات رئيسية مثل الشاطئ، وجباليا، والنصيرات،
ورفح، ودير البلح. وتُعد غزة من أكثر مناطق العالم كثافة سكانية، حيث يعيش فيها
أكثر من 2.3 مليون نسمة، يشكل اللاجئون نحو 70 في المئة منهم، غالبيتهم في
المخيمات. هذه المخيمات ليست مجرد أماكن سكنية، بل بؤر للفقر والبطالة، وفي الوقت
ذاته مراكز للحياة السياسية والاجتماعية وللمقاومة، مما جعلها هدفا دائما للحصار
والعدوان الإسرائيلي.
خارج
فلسطين، يتوزع اللاجئون على الأردن الذي يستضيف العدد الأكبر (نحو 2.3 مليون لاجئ
مسجلين في الأونروا)، وسوريا حيث كان يقيم قبل الحرب نحو 560 ألف لاجئ، تضرر
غالبيتهم من النزاع السوري، إضافة إلى لبنان الذي يحتضن حوالي 480 ألف لاجئ يعيشون
في ظروف صعبة، محرومين من الحقوق المدنية الأساسية.
المخيم
كذاكرة وهوية
ليست
المخيمات مجرد مأوى للفقراء أو الضحايا، بل هي مختبر لإنتاج الهوية الفلسطينية. في
أزقتها الضيقة نشأت أجيال جديدة حملت مفاتيح البيوت المهدمة، وحفظت أسماء القرى
المدمرة، وحولت الجدران إلى لوحات تحكي قصة العودة. الطفل الذي يولد في مخيم بلاطة
أو عين بيت الماء أو جباليا، يكبر وهو يحمل وعيا مضاعفا: وعي الضياع ووعي المقاومة.
وقد ساهمت
هذه البيئة في تشكيل قادة وفاعلين سياسيين وعسكريين وأدباء ومثقفين، أصبحوا
أيقونات وطنية. المخيم هنا ليس مجرد جغرافيا، بل "ذاكرة جماعية" ومجتمع
متماسك رغم الفقر والحصار.
الإحصاء
كدليل على عمق المأساة
التوثيق
العددي يكشف حجم الكارثة:
- 6 ملايين لاجئ فلسطيني مسجلين لدى الأونروا
حتى عام 2024.
- 1.7 مليون لاجئ في قطاع غزة، أكثر من مليون
منهم في المخيمات.
- 900 ألف لاجئ في الضفة الغربية، يعيش نحو
ربعهم في المخيمات الـ19.
- 2.3 مليون لاجئ في الأردن، يعيش 18 في المئة
منهم داخل المخيمات الرسمية.
- 480 ألف لاجئ في لبنان، يعيش معظمهم في 12
مخيما.
- 560 ألف لاجئ في سوريا قبل الحرب، تراجعت
أعدادهم بعد النزاع إلى أقل من 400 ألف.
هذه
الأرقام ليست مجرد إحصاءات جامدة، بل تعكس واقعا مركبا: حرمان من الحقوق، وبطالة
مرتفعة، ونسب فقر تتجاوز 70 في المئة في غزة، ومعدلات هجرة قسرية داخلية وخارجية.
بين
الاستهداف والرمزية
لم تكن
المخيمات بمنأى عن الاستهداف الإسرائيلي. على العكس، كانت مسرحا لعمليات عسكرية
متكررة، من حصار مخيم جنين عام 2002، إلى الهجمات المتواصلة على جباليا والشاطئ في
غزة. الاحتلال يدرك أن المخيم ليس مجرد حي فقير، بل رمز وطني يختزن طاقة المقاومة،
لذلك يسعى لتفكيكه عبر التدمير الممنهج، أو عبر الضغط الاقتصادي والاجتماعي لدفع
سكانه للهجرة.
المخيم
بين السياسة والحقوق الدولية
من
الناحية القانونية، يظل اللاجئون الفلسطينيون حالة استثنائية في النظام الدولي.
فهم اللاجئون الوحيدون الذين تُعنى بهم وكالة خاصة هي "الأونروا"، فيما
بقية لاجئي العالم يتبعون للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين. هذا الوضع الخاص يعكس
اعتراف المجتمع الدولي بخصوصية القضية الفلسطينية، لكنه في الوقت ذاته جعل
اللاجئين عرضة للتجاذبات السياسية، حيث تُستخدم خدمات الأونروا ورقة ضغط من قبل
الدول المانحة وإسرائيل.
المخيم
كرمز للعودة
المخيمات الفلسطينية اليوم هي الوجه الآخر للنكبة المستمرة، لكنها في الوقت ذاته مرآة للقدرة الهائلة على البقاء
رغم كل
الأزمات، ظل المخيم محتفظا بوظيفته الرمزية الأهم: التذكير بحق العودة. فالمخيم لا
يُنظر إليه كمكان إقامة دائم، بل كحالة انتظار طويلة للعودة إلى البيت الأصلي في
حيفا ويافا وصفد واللد والرملة. هذه الرمزية هي ما يجعل إسرائيل ترى في المخيمات
تهديدا وجوديا، لأنها تنسف رواية "النسيان" التي حاولت ترسيخها منذ 1948.
وفي
الختام: من الركام يولد الوعي
المخيمات
الفلسطينية اليوم هي الوجه الآخر للنكبة المستمرة، لكنها في الوقت ذاته مرآة
للقدرة الهائلة على البقاء. ففي الوقت الذي تُهدم فيه البيوت بالجرافات وتُحوّل
الأحياء إلى ركام، يظل المخيم قادرا على إعادة إنتاج ذاته كفضاء للصمود والمقاومة.
إن الحديث
عن المخيمات ليس مجرد وصف لمكان جغرافي أو تعداد إحصائي، بل هو قراءة في روح
الفلسطيني التي تأبى الانكسار. فالمخيم، بكل بؤسه وضيق أزقته، اصبحت مدرسة وطنية
كبرى تعلّم الأجيال أن اللجوء ليس نهاية، بل محطة مؤقتة في رحلة العودة.