تغيب الجيل السياسي الذي أطلق تصورات الشرق الأوسط الجديد بعد غزو العراق 2003، ومن تبقى منهم تحصل على تقاعد مريح، ويمكن أن تستضيفه بعض القنوات في خارج أوقات الذروة، أو يحظى بمقعد على طاولة مستديرة في معهد بحثي لصياغة توصيات لا تلقى أي صدى أو تجاوب، وبينهم كان
توني بلير يمثل ظاهرةً بحضوره على هامش الأحداث في المنطقة، ليقدم نفسه للغرب بوصفه الشخص الذي يفهم المنطقة وقادتها وشعوبها، والعكس كذلك.
السيرة الذاتية لبلير تجعله شخصية غير موثوقة لدى معظم الأطراف العربية، خاصة بعد اشتراكه في التحريض على غزو العراق، كما أن ادعاءاته بفهم المنطقة ومقارباته للسلام والاستقرار، لا تجد ما يعززها في الفشل الذريع في الأحداث والسياقات، التي أنتجها الغزو، وكانت بدايةً لحالة من الفوضى أدت إلى تفكيك بنية الدولة التقليدية والمستقرة في السودان واليمن وليبيا.
يعود بلير من جديد بعد لقائه
ترامب بحضور صهره جاريد كوشنير، لمناقشة
اليوم التالي للحرب في
غزة، أو التسمية المجازية لتحديد مستقبل القطاع، بعد أن يتحقق الشرط الأساسي وهو تفكيك وجود المقاومة الفلسطينية، ووضع برامج تهجير مختلفة لتفريغه من حمولة سكانية ستبقى ضغطا كبيرا على محاولات تسوية الأوضاع، وتحول غزة إلى فضاء يخدم المصالح الإسرائيلية والأمريكية بعد التخلص منها كعبء ومصدر قلق مزمن.
بدوره يظهر كوشنير من جديد، بعد أن خفت حضوره لإتاحة الظهور لدفعة جديدة من أنسباء الرئيس، الذي يمارس أقصى درجات المحاباة العائلية، ليبدو أن حرصه على إرضاء أفراد عائلته والحرص على أحوالهم النفسية والمعنوية، يمكن أن يصبح عاملا مؤثرا في قرارات سياسية يمكن أن تؤثر على العلاقات الدولية.
عمل بلير لسنوات مبعوثا للجنة الرباعية للشرق الأوسط، وركزت سياسته على تطويع الفلسطينيين لرؤية تركز على الجانب الاقتصادي في نقطة التقاء مع محتوى صفقة القرن، الذي كان كوشنير طرفا رئيسيا في تقديمها، أُثناء فترة رئاسة ترامب الأولى، ويبدو أن هذه الصفقة، أو نسخة أسوأ أو أفضل قليلا تعود من جديد، والمطلوب هو طرف فلسطيني يستطيع أن يتحمل تكلفة الشراكة في مشروع يستبقي الفلسطينيين بعيدا عن الحدود الدنيا من حقوقهم، ومن طموحاتهم الوطنية.
المتغير الذي يمكن أن يصنعه وجود بلير في هذه المرحلة هو التأثير على الأمريكيين، تجاه الانفتاح على مناقشة شكل لدولة فلسطينية تنطلق برعايتهم وضمن الحدود التي يرسمونها، والتأكيد على ضرورة استبدال السلطة الفلسطينية لإحداث القطيعة بين ما تمثله على الأقل رمزيا، وواقع فلسطيني جديد، بحيث يتم إضفاء الشرعية على مقترحات التسيير، التي تقدمها إسرائيل في غزة، مثل تقديم سمير حليلة القادم من خلفية اقتصادية وبيروقراطية لإدارة غزة بعد الحرب.
سيضطر ترامب إلى التخلي عن مقارباته الاستعراضية وأحاديث مثل ريفيرا غزة،
سيضطر ترامب إلى التخلي عن مقارباته الاستعراضية وأحاديث مثل ريفيرا غزة، ليبدأ عمليا في خطط على الأرض يضع خطوطها العريضة بلير، الذي يسوّق على أنه الأكثر دراية بما يمكن أن يقبله الفلسطينيون، وأن يكون مخرجا معقولًا للدولة العربية، في المقابل تبدو السلطة الفلسطينية غير قادرة على استعادة المبادرة على أي مستوى لمعايشتها لضغوط يومية متواصلة تظهر في الوجود الكثيف للقوات الإسرائيلية داخل المدن الفلسطينية، واستمرار الضغوطات الاقتصادية التي تقوض من قدرتها على استعادة الشعبية بين الفلسطينيين بما يمكنها من بناء وحدة وطنية فاعلة، في لحظة تاريخية حرجة تتهدد أسسها الوجودية.
الخطط الموضوعة على الطاولة الأمريكية تبقى بحاجة إلى حافز يطلقها على الأرض، ويرتبط ذلك بالقرارات التي ستتخذها إسرائيل لتحقيق خططها بضم الضفة الغربية، أو معظمها، والتفاعلات التي ستحدث من الجانب الفلسطيني، ليتم خلق الفوضى، التي تتطلب التدخل للحل وتقديم حزم التنازلات على أنها وصفة للتهدئة وإعادة البناء.
يبدو المشروع الفلسطيني أمام بلير فرصة لتعويض مشاركته في التجربة العراقية، بكل ما أنتجته من اضطرابات وأزمات، فعوامل الجغرافيا والسكان في فلسطين تبقى أقل تعقيدا مما وجده في العراق، والسياق الضاغط إنسانيا والمحرج للأمريكيين ولجميع الأطراف، يمكن أن يجعله يستغل الظروف القائمة ليخرج بالتسوية القائمة على التفريغ من المعنى السياسي، للاستغراق في التفاصيل الإدارية واليومية، التي تعني عودة إسرائيل لتكون في وضعية الإملاء الكاملة على حياة الفلسطينيين، من خلال أذرع تنفيذية تتخذ صورة الدولة التي تقوم على أدوات تختارها إسرائيل وتحظى بثقتها، في الوقت الذي يراها الفلسطينيون مجرد وسيط ومنسق يحمل عن الإسرائيليين مسؤولية التفاصيل اليومية.
الوضع المعقد والجانب الإنساني الذي يضغط على الأمريكيين والأوروبيين، خاصة مع تصاعد الحملات المتعاطفة مع الفلسطينيين في قطاع غزة، يجعل تدخل بلير ضروريا للتفاوض مع الدول العربية، التي تحمل مواقف متباينة حول ما يمكن وصفه باليوم الأول بعد الحرب، والتصورات المستقبلية للدولة الفلسطينية التي يمكن أن تستوعب إزاحة كبيرة للقضية الفلسطينية تجاه التسوية، ولو حملت عمليا ملامح تصفية طويلة المدى، ويتدخل بلير في هذه المرحلة ليعيد ترتيب منطق الصفقة الأمريكي، تجاه التعامل مع مخاوف الأطراف العربية ورؤاها المتباينة، وضعا في الاعتبار الحاجة لوجود الشراكة العربية، تجاه جهود إعادة الإعمار وتفكيك البنية الفلسطينية القائمة حاليا، تجاه وضعية أكثر استجابة لمتطلبات تصور أمريكي يختصر جميع المشكلات القائمة في معالجات اقتصادية، ضمن رؤية متكاملة لمنطقة هادئة نسبيا لتمرير الخطط الكبرى المتعلقة بالتجارة الدولية، وبمناطق النفوذ الاستراتيجية، وبتقاسم المصالح بين القوى الإقليمية والدولية في المنطقة.
هل يمثل بلير الحل المناسب في هذه المرحلة، أم أنه يواصل الدور التقليدي لمستشاري الأعمال الذين يحضرون ليعيدوا إنتاج ما يعرفه الجميع؟ أو مثلما تقول النكتة الشهيرة إنهم يأخذون ساعتك ليخبروك بالوقت، وهذا ما يفعله بلير بتدخله في المرحلة، خاصة أنه لا يمتلك إنجازا يمكن البناء عليه سوى تدوير نظرياته القديمة، التي لا تبدو وكأنها تقدم جديدا خارج الرؤية الاستعمارية القديمة في نسختها البريطانية التي تحمل المغامرة نفسها والتعالي على السياقات الموجودة على الأرض وخلفياتها التاريخية.
عموما في وجود بلير، فرصة الحديث بالنسبة لرجلين على قدر من الضحالة السياسية تبقى محدودة نظريا، ولكن مع سيرته وتجربته بعد مغادرة الحكومة البريطانية، تتعزز فرضية استماعه للتصور الأمريكي وتسجيله على الورق ليقوم ببناء التصورات المطلوبة لتنفيذه، فالرجل في النهاية ليس المهاتما غاندي أو مانديلا، وعمله هو الآخر يتحرك بناء على مصالحه الشخصية، وقدرته على تنفيذ حصته من الصفقة بصورة أنيقة ومهنية، من غير أن يكون صاحب دور كبير في صياغتها، لتكون أكثر استدامة وواقعية وعدالة، فهذه أمور لا تقع في الشروط المرجعية التي حضر على أساسها في البيت الأبيض ليناقش مستقبل غزة في المرحلة الراهنة، وبقية فلسطين في مرحلة لاحقة.
القدس العربي