مقالات مختارة

هل دخلت دولة إسرائيل في الشيخوخة؟

محمد سيد رصاص
الأناضول
الأناضول
قبيل قليل من الذكرى السبعين لقيام دولة إسرائيل، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو التصريح المفاجئ التالي: «سأجتهد لتبلغ إسرائيل عيد ميلادها المئة في عام 2048، إن مسألة وجودنا ليست مفهومة ضمناً وليست بديهية، فالتاريخ يعلمنا أنه لم تُعمِّر دولة للشعب اليهودي أكثر من 80 سنة»، وفي عام 2022 أطلق رئيس الوزراء آنذاك نفتالي بينيت تصريحا مماثلا بذكرى قيام دولة إسرائيل: «لم تصمد فوق هذه الأرض دولة يهودية سيادية وموحّدة لمدة تزيد عن 80 عاماً، وها نحن في العقد الثامن لدولة إسرائيل، الذي لم نعبره في الماضي قط، وهذه هي فرصة الشعب اليهودي الثالثة»، في إشارة إلى مملكة إسرائيل الموحّدة (1047 - 927 قبل الميلاد) ومملكة هاشمونيم (هاسمونيم) بين عامي 140 – 63 قبل الميلاد، حيث أصبحت مع السيطرة الرومانية على القدس كياناً تابعاً لروما، قبل أن تختفي من الوجود في عام 37 قبل الميلاد.

عند تولّي بينيت رئاسة الوزارة الإسرائيلية في أواسط عام 2021 كان قد ترك موقعه السياسي الأيديولوجي اليميني السابق وتحالف مع يائير لبيد، وقد عكس تصريحه قلقاً مشتركاً تجاه مستقبل دولة إسرائيل، بالتوازي مع تصريح نتنياهو المفاجئ، هو قلق عابر لمعسكرَي اليمين واليسار (وأيضاً الوسط «المركز» الذي أصبح ضعيفاً بالقياس إلى الماضي، عندما كان الليبراليون تلاميذ حاييم وايزمن، وقبله تيودور هرتزل، يحتلون هذا الموقع في الخمسينيات والستينيات قبل أن يتحدوا مع حزب حيروت ويشكلوا تكتل جاحال عام 1965 الذي خلفه الليكود عام 1973)، وكان هذا القلق معاكساً للشعور العام في المنطقة عن قوة دولة إسرائيل وتنامي هذه القوة.

الكثير من الكتّاب والمفكّرين في إسرائيل، عزوا التصريحين إلى الهوس المرضي عند اليهود تجاه الوجود، بعد معاناة طويلة في التاريخ، شهدت الاضطهادات وتجارب السبييْن البابلي والروماني، والإحساس بالحصار الذي يجعل الكثير من الإسرائيليين، وهم ورثة آباء وأجداد عاشوا في غيتوات مغلقة بالمدن الأوروبية، يمدون النزعة اليهودية الحصارية إلى أيام قلعة مسادا التي تحصّن فيها يهود هرباً من الرومان لأشهر في عام 73م، قبل أن يقوموا بالانتحار، وربما كان التعبير الأخير عنها هو «السور الواقي» الذي بناه أرييل شارون في فترة رئاسته للوزارة الإسرائيلية ما بين شباط 2001 وكانون الثاني 2006، الذي عنى إحساساً مسادياً لدولة «القلعة المحاصرة»، وهو شيء لم نكن نراه عند بن غوريون في حربَي 1948 و1956، ولا عند موشيه دايان في حرب 1967، ولا عند شارون في اجتياح 1982.

و«السور الواقي» يعني تناقضاً مع مفهوم «إسرائيل الكبرى» الذي عاد وكرّره نتنياهو أخيراً، وعلى الأرجح أن شعوره بالقوة الإسرائيلية المستجدّة، بعد حروب ما بعد «7 أكتوبر» الثلاثة في غزة ولبنان وإيران، هو الذي دفعه لإطلاق هذا التصريح.

لكن ما الذي يقلق عموم الإسرائيليين ويدفعهم إلى عدم اليقين الوجودي، كما يُلمس من تصريحَي نتنياهو وبينيت؟ وهو أمر عبّر عنه نتنياهو ثانية في البيت الأبيض في تموز 2024، عندما شبّه هجوم «7 أكتوبر» بـ«بيرل هاربور» عام 1941 الذي هزّ عزلة قرنين من الزمن عند الأميركيين، إثر الهجوم الياباني على قيادة البحرية الأميركية في المحيط الهادئ، ودفعهم إلى الاشتراك بالحرب العالمية، وبالحرب الباردة، وإلى الانخراط الكثيف في المشاكل العالمية فيما هزمت النزعة الانعزالية الأميركية تدخلية الرئيس وودرو ويلسون بعيد نهاية الحرب العالمية الأولى.

وهنا يمكن السؤال أيضا، إن كانت هجومية نتنياهو بعد «7 أكتوبر» هي هجومية اندفاعية ذات استراتيجية محدّدة، وهو ما يشكك بوجودها سياسيون مثل بينيت، ورؤساء سابقون لهيئة الأركان، مثل بيني غانتس وغادي أيزنكوت، أم أنها هجوم المذعور الذي يضرب ويدمّر ذات اليمين والشمال لإثبات أنه غير ضعيف، مستغلاً امتلاكه القوة العسكرية والتفوّق التكنولوجي؟

إذا وضعنا هذا المُقتبس من دافيد بن غوريون، مؤسّس دولة إسرائيل عن حرب 1948، فإننا نجد نفس اللايقينية الوجودية، التي نجدها بعد سبعة عقود عند نتنياهو وبينيت، يقول بن غوريون: «الانكسار بالنسبة إلينا دمار ونهاية لقوميتنا، أما بالنسبة إلى الجيوش العربية فإن الفشل لا يعني ضياع بلدانهم ولا نهاية وجودهم» (تهاني هلسه: «دافيد بن غوريون»، مركز الأبحاث في منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت 1968، ص85)، وعلى الأرجح أن هذه اللايقينية الوجودية الإسرائيلية هي ما دفعت بن غوريون للتفكير، كما يروي موشيه شاريت في يومياته، في استخدام «مُكوِّنات» في المحيط العربي، حيث في فترة استقالته من رئاسة الوزارة، بين عامي 1953 و1955، في 27 شباط 1954 بعث بن غوريون من معتزله في النقب برسالة إلى رئيس الوزراء شاريت يحدد فيها تصوراته عن لبنان: «لبنان هو الحلقة الأضعف في الجامعة العربية... المسيحيون في لبنان ليسوا مثل أقباط مصر.

هم أغلبية في لبنان التاريخي. الخطأ الأسوأ الذي ارتكبته فرنسا هو عندما وسّعت حدود لبنان. إنّ خلق دولة مسيحية هو بالنتيجة عمل طبيعي. في الظروف العادية سيبدو هذا مستحيلاً، لكن في ظروف الاضطراب، أو الثورة أو الحرب الأهلية، الأمور تأخذ منحىً آخرَ. ربما الآن هو الوقت المناسب من أجل العمل على خلق دولة مسيحية بجوارنا. بدون مبادرتنا ومساعدتنا لن يحصل هذا. إن هذا يتراءى لي أنه هو الواجب المركزي لسياستنا الخارجية، إن لم يكن على الأقل واحداً منها». طوّر رئيس الأركان دايان اقتراح أستاذه في اجتماع لكبار مسؤولي الوزارات المختصّة في الخارجية والأمن (16 أيار 1954) عندما طرح «أن نجد ضابطاً لبنانياً، ولو كان مجرد رائد، نكسب قلبه أو نشتريه، يقبل أن يعلن نفسه مخلّصاً للموارنة.

عندها سيدخل الجيش إلى لبنان ويحتل الأراضي الضرورية، ويخلق نظاماً مسيحياً سوف يتحالف مع إسرائيل. الأراضي جنوب الليطاني سوف تُضم إلى إسرائيل» (من مقال: «يوميات شاريت: هكذا ترى إسرائيل الجوار»، جريدة «الأخبار»، 8\10\2013)، وهو ما حاوله شارون في لبنان عام 1982، عبر تصعيد بشير الجميل إلى الرئاسة اللبنانية في قصر بعبدا، كنتيجة سياسية للاجتياح الإسرائيلي العسكري للبنان في صيف 1982، لكنه فشل.

وعلى الأرجح أن من يراقب بن غوريون في رئاستيْه للوزارة الإسرائيلية (1948 – 1953) و(1955 – 1963) يرى أنه لم يكن يؤمن بالسلام مع الجيران، ولا بإمكانية فرض السلام عليهم حتى ولو هُزموا عسكرياً، وقد استمر شعوره هذا حتى بعد الانتصار الإسرائيلي في حرب 1967، التي اعتبر أنها ليست نهاية الحروب، وحذّر الإسرائيليين من أن «لا يدير النصر المذهل الذي أحرزوه رؤوسهم» (هلسه: «المصدر نفسه»، ص 199) ويبدو أن اللعب بجغرافيا المحيط وتغييرها كان هو الحل لهذه المعضلة الوجودية عند المؤسّس لدولة إسرائيل، أو بفرض واقع عسكري يقود إلى «اللاحرب واللاسلم لفترة طويلة».

هنا، عندما تمّ عرض مشروع موضوعات المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي) على الأستاذ الياس مرقص في شهر آذار 1978، وكان فيها اتجاه، يرى أن زيارة السادات للقدس (تشرين الثاني1977) ستقود في «المخطط الإسرائيلي إلى إجبار العرب على السير بالسلام مع إسرائيل بعد توقيع أكبر دولة عربية لاتفاقية الصلح والتطبيع مع إسرائيل»، فإن الأستاذ الياس كتب هذه العبارة التي فيها الكثير من الاستشراف النبوئي السياسي: «إسرائيل تريد، عبر عزل رأس العرب عن الجسم، جعل هذا الجسم يتعفّن ويتداعى، ولن تقوم بالصلح والتطبيع معه».

وفعلاً بعد زيارة السادات بأربعة أشهر، قامت إسرائيل بالاجتياح الأول لجنوب لبنان، وبعد اكتمال الانسحاب الإسرائيلي من سيناء، في 25 نيسان 1982، قامت بعد ستة أسابيع باجتياح 1982 للبنان، ويبدو أن تفكير وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك شارون، ورئيس الوزراء حينها مناحيم بيغن، كان وفق ما تلمّسه الأستاذ الياس مرقص.

أما عندما انحرف رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين (1992 – 1995)، ووزير خارجيته شيمون بيريز عن هذا المسار بالتفكير، بالذهاب نحو التطبيع مع العرب والفلسطينيين، في انطلاق من أن الضعف الديموغرافي السكاني لليهود في دولة إسرائيل لا يتيح لهم السيطرة الجغرافية بأوسع من حجمهم السكاني على الفلسطينيين بين البحر والنهر، وأن إسرائيل لا تستطيع التهجير- الترانسفير، ولا على التوسع الجغرافي في المحيط، وأن الأفضل مقايضة أراضي 1967 بالسلام، فقُتل رابين بيد يميني إسرائيلي، ثم عام 1996 تمّت هزيمة بيريز على يد نتنياهو في الانتخابات، ولم يستطع إيهود باراك (1999 – 2001) ولا إيهود أولمرت (2006 – 2009) السير في اتجاه رابين وبيريز.

هذه الخيارات عند رابين وبيريز، يؤمن نتنياهو بعكسها، أي الضم لأراضي ما بين البحر والنهر، والترانسفير، والتوسع في المحيط الجغرافي، ويؤمن أيضاً كما صرّح أخيراً وأكثر من مرة بأنه قادر على «تشكيل الشرق الأوسط من جديد»، من دون إدراك عنده بأن الضم من دون «الترانسفير» سيقضي على الطابع اليهودي لدولة إسرائيل، وسينتج أغلبية سكانية فلسطينية لدولة إسرائيل، و«الترانسفير» هو لا يستطيع القيام به، لأن هذا يعني اغتيال اتفاقيات «كامب دافيد» مع مصر، واتفاقية «وادي عربة» مع الأردن، ما دام «ترانسفير» الغزاويين سيكون إلى سيناء، و«ترانسفير» أهل الضفة سيكون إلى الأردن.

كذلك تجربة بشير الجميل في لبنان، لا يستطيع حكمت الهجري تكرارها، وواشنطن لا تريد هذا التكرار ولا الأردن. والاتفاق الثلاثي الأخير حول السويداء يشي بذلك، ونتنياهو بالتأكيد قد قرأ مقابلة زبيغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأميركي السابق (1977-1981)، مع مجلة «ناشيونال انترست» (25 حزيران 2013)، لكنه لم يستوعب عباراته التالية: «نظرة اليمين الإسرائيلي بأن وجود جوار مضطرب وضعيف هو لمصلحة إسرائيل. هذا كارثة على إسرائيل في المدى البعيد، لأن هذا سيقود إلى إزاحة النفوذ الأميركي في المنطقة وترك إسرائيل وحدها... على المدى القصير هذا سيقوّي قلعة إسرائيل ويجعلها أكثر قوة لأنها لن تجد أحداً في طريقها، ولكن على المدى البعيد هذا سيخلق منطقة لا يمكن ضبطها حتى من إسرائيل نووية ولكن ليس لديها أكثر من ستة ملايين من السكان. هذا حلم».

كتكثيف: أعطت دولة إسرائيل الكثير من الساسة الأذكياء، مثل بن غوريون وتلميذه شيمون بيريز الذي هندس اتفاق حرب 1956 مع لندن وباريس، وقايض مع الفرنسيين اشتراك تل أبيب في الحرب بـ «مفاعل ديمونا». منذ عام 1996 كانت هزيمة بيريز على يدي نتنياهو إعلاناً مبكراً، على الأرجح، عن دخول إسرائيل في خريفها الشيخوخي، إلا إذا استطاع الشيخ استعادة صباه، لأسباب على الأرجح لا تتعلق به، بل بغيره، هذا «الشيخ» الذي يملك أقوى جيش في المنطقة، وهو ضمن الدول الأكثر تقدّماً في «الهاي - تك»، ولكنه كما صرّح بيني غانتس عنه أخيراً: «إسرائيل على حافة حرب أهلية» (موقع «تايمز أوف اسرائيل»، 18 أيلول 2025)، حيث هناك ثلاثة بيوت مغلقة فيها، هي بعضها ضد بعض: 1. اليمين القومي - الصهيونية الدينية، 2. الحريديم المتدينون، 3. معسكر الوسط واليمين المعتدل واليسار.

وإسرائيل لا تستطيع ترجمة قوتها العسكرية - التكنولوجية إلى السياسة، ونتنياهو يتجه إلى تدمير اتفاقيات عقدها مناحيم بيغن وإسحق رابين مع مصر والأردن والفلسطينيين، ويغلق باب التطبيع بوجه مرشحين كانوا قبل سنتين يندفعون باتجاهه وأولهم السعودية التي لجأت بعد مغامرته الأخيرة في الدوحة إلى الحضن النووي الباكستاني (وليس الأميركي)، بعد أن كانت الغارة الإسرائيلية على قطر على بعد كيلومترات من أكبر قاعدة أميركية بالمنطقة كانت تتفرج عليها، وفي الوقت نفسه لا يستطيع «تشكيل الشرق الأوسط من جديد» لأن المصالح الأميركية كما قال بريجنسكي ليست مع الفوضى الشرق أوسطية.

الأخبار اللبنانية
التعليقات (0)