قضايا وآراء

الدين في الفضاء العام التونسي: مخاوف الأقليات الأيديولوجية وحقوق الأغلبية

عادل بن عبد الله
"النخب اللائكية حرصت على جعل علاقتها بممثلي الدين وبمؤسساته علاقة هيمنة في اتجاه واحد"- الأناضول
"النخب اللائكية حرصت على جعل علاقتها بممثلي الدين وبمؤسساته علاقة هيمنة في اتجاه واحد"- الأناضول
تصدير: "القانون لا ينصّ على أنّ الصلاة جزء من الشأن التربوي، ومن يريد الصلاة يمكنه الصلاة في الجامع.. لا يجب إقامة صلاة الجماعة داخل المعهد". (السيد رضا الزهروني، رئيس الجمعية التونسية للأولياء والتلاميذ)

منذ المرحلة التأسيسية، مثّل تقنين حركات سياسية ذوات مرجعية إسلامية نقطة تحوّل مركزية في آليات اشتغال الحقل السياسي التونسي. فمنذ الاستقلال الصوري عن فرنسا لم تقبل الدولة -حتى في فترة الانفتاح الديمقراطي الجزئي الذي أعقب انقلاب 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 1987- أن تقنّن وجود تلك الحركات بما فيها حركة النهضة رغم مشاركتها في الانتخابات التشريعية لسنة 1989 بقوائم "مستقلة". وقد حصلت النهضة في تلك الانتخابات على 17 في المائة من الأصوات حسب النتائج الرسمية، بينما أكّدت الحركة أنها حصلت على أكثر من 40 في المائة من أصوات الناخبين. وبصرف النظر عن حصول تزوير للنتائج من عدمه، فإن تلك الانتخابات قد جعلت النظام يشعر بخطر "وجودي" من العملية الديمقراطية التي تشمل الإسلاميين، وهو ما كان من أسباب تصحير الحياة السياسية بعد دخول النظام في صراع مفتوح ضد النهضة في أجهزة الدولة (الفرز الأمني، الطرد بشبهة الانتماء) وخارجها (استهداف الناشطين في المجتمع المدني والنقابات، التضييق على أصحاب المهن الحرة، منع مظاهر التدين، خاصة الحجاب الذي اعتبرته السلطة لباسا "طائفيا").

كيف يمكن تجفيف منابع "التطرف" و"الإرهاب" -أي منابع التدين الاحتجاجي الذي تجسّده حركات الإسلام السياسي- دون تجفيف منابع الدين ذاته؟ أو كيف يمكن الفصل واقعيا بين محاربة "الإسلاميين" وبين محاربة الإسلام في ذاته والتضييق المُمنهج على مظاهر التدين الفردي والجمعي في الفضاء العام؟

في جوهرها، كانت فترة الحكم التجمعية -أي فترة حكم المخلوع بن علي- مجرد امتداد لفترة الحكم الدستورية بقيادة الراحل الحبيب بورقيبة. فرغم وعود "صانع التغيير" بالخروج من منطق عبادة الزعيم والحزب الواحد وتوظيف الإدارة والقضاء لأغراض سياسية، فإنه قد أعاد إنتاج أمراض النظام الذي انقلب عليه، بل إنه دمّر ما في النظام البورقيبي من مكاسب اجتماعية واقتصادية بالخضوع لإملاءات الجهات المانحة -خاصة البنك الدولي- فيما يسمى ببرنامج "الإصلاح الهيكلي".

ومثل كل الأنظمة الدكتاتورية، كانت القرارات السيادية للدولة في المستوى الاقتصادي شبه منعدمة، أما في باقي المجالات، فإن هامش تدخل الدولة كان أيضا محكوما بإملاءات الجهات المانحة التي لا ينفصل فيها الاقتصادي عن الأيديولوجي أو الثقافي. ولا شك عندنا في أن التلازم بين الاقتصادي والثقافي، الأمر الذي يخدم استراتيجيات الهيمنة الغربية ويكرّس التبعية في الكيانات الوظيفية التي تُسمّى مجازا دولا وطنية، هو ما دفع الغرب إلى غض الطرف عن الانحرافات السلطوية تجاه المعارضة -خاصة إذا ما كانت بمرجعية إسلامية- وتبريرها أمام الرأي العام وأمام المجتمع المدني في الدول الأوروبية وفي أمريكا.

رغم ما حصل خلال "محرقة الإسلاميين" منذ أوائل التسعينات من انتهاكات لأبسط حقوق الانسان على أساس الهوية الأيديولوجية، بل على أساس الهوية "المرئية" كالحجاب واللحية حتى عندما لا يعكسان أي انتماء حزبي أو معارضة نشطة، فإن النظام قد نجح في شرعن سياساته داخليا وخارجيا باعتبارها حربا ضد التطرف والإرهاب ودفاعا عن الحداثة والمكاسب الفردية والجماعية للتونسيين، خاصة مكاسب المرأة. ولم يكن النظام لينجح في ذلك لولا أنه قد حصّن نفسه -داخل الحزب الحاكم وخارجه- بتحالفات استراتيجية مع أغلب النخب "الحداثية" على اختلاف مرجعياتها الأيديولوجية. وهي نخب يجمعها مشترك "لائكي" دفع بتناقضاتها البينية وبتناقضها مع النظام إلى الخلفية أمام التناقض الجوهري مع الإسلام السياسي. ولكنّ الإشكال الذي واجه تلك النخب الوظيفية -ومن ورائها الدولة- هو التالي: كيف يمكن تجفيف منابع "التطرف" و"الإرهاب" -أي منابع التدين الاحتجاجي الذي تجسّده حركات الإسلام السياسي- دون تجفيف منابع الدين ذاته؟ أو كيف يمكن الفصل واقعيا بين محاربة "الإسلاميين" وبين محاربة الإسلام في ذاته والتضييق المُمنهج على مظاهر التدين الفردي والجمعي في الفضاء العام؟

لعل السؤال الأهم الذي لم تنجح النخب "الحداثية" في الإجابة عنه منذ عهد المخلوع مرورا بـ"عشرية الانتقال الديمقراطي" ووصولا إلى "تصحيح المسار" هو التالي: كيف يمكن للدين -على الأقل في المستوى القيمي- أن يساهم في إدارة الشأن العام وفي بناء المشترك المواطني؛ دون أن يتحول صراع التأويلات إلى صراع دموي وحرب وجودية بين مختلف الفاعلين الجماعيين، وتحديدا بين الإسلاميين واللائكيين؟ وهو سؤال مركزي ينفتح على أسئلة مشتقة لعل أهمها: هل يمكن بناء حقل سياسي "طبيعي" دون الإسلاميين الذين ارتضوا العمل القانوني تحت سقف الدستوري؟ هل ينبغي على "الحداثي" أن يسجن نفسه في النموذج العلماني "اللائكي" الذي مثّل القاعدة الصلبة لدولة الاستعمار الجديد وسقف التفكير في دولة التبعية والتخلف الخاضعة لمنظومة الاستعمار الداخلي، أم يمكن التفكير في بناء المشترك المواطني وفي العلاقة بالدين وبالإسلاميين؛ باعتماد نماذج علمانية أخرى -مثل النموذج الأنغلوساكسوني- بعد "تونستها" في إطار سجال عمومي حر وبعيد عن منطق الاستعلاء والإقصاء والاستقواء بأجهزة الدولة وبالدعم الغربي وبدعم محور الثورات المضادة والتطبيع؟

في تصريحه الوارد طي تصدير هذا المقال، يعكس رئيس الجمعية التونسية للأولياء والتلاميذ موقف الأغلب الأعم من النخب "اللائكية" التونسية بعد أحداث أحد المعاهد في مدينة الحمّامات. فبعد رفض الإدارة تمكين التلاميذ من مصلّي، قام بعضهم بالصلاة جماعة -خلال فترة الاستراحة- داخل المعهد. وهو ما رفضته مديرة المعهد، ليتحول "الحدث" إلى قضية رأي عام. وباستقراء مواقف "النخب اللائكية" التونسية، فإننا نستطيع أن نجزم بأنها كانت جميعا متماهية في جوهرها مع موقف رئيس جمعية الأولياء والتلاميذ، مع توسع أغلبها في الاحتجاج لموقفها الرافض للمصليات في المدارس بأسباب سياسية.

وإذا كان رئيس الجمعية يعتبر عدم تنصيص المشرّع على الصلاة في الدور التربوي للمؤسسات التعليمية مساويا للمنع -وهو منطق متهافت قانونيا لأن صمت المشرع محمول على الإباحة لا على المنع الذي يكون بنص- فإن أغلب النخب "اللائكية" تعتبر أن الصلاة شأن "خاص" لا علاقة له بالمؤسسات العمومية، كما تعتبر أنه يهدد بـ"تسييس" تلك المؤسسات -ومن بينها المؤسسات التعليمية- بل يهدد النمط المجتمعي التونسي برمته، أي أيديولوجيا دولة الاستقلال "الصوري" عن فرنسا وما يؤسسها من أساطير "حداثوية" كالتنوير وغيره.

إننا أمام سرديات "حداثوية" قوامها "تأنيث الدين"؛ بجعله محصورا في الفضاء المنزلي وإبعاده عن الفضاء العام وعن أي دور في التشريع للمشترك "الوطني" خارج وصاية الدولة وفهم نخبها الوظيفية للعقيدة الصحيحة والسلوك القويم. وهو فهم يقوم على مخاوف تلك النخب من "أسلمة" المجتمع" أو "أخونته"، مع ما يعنيه ذلك من توسيع للقاعدة الاجتماعية للإسلاميين، وبالتالي ما مثله من تهديد لمصالح "الوظيفيين" المادية والرمزية. ورغم أن ذلك الفهم يتعارض جزئيا مع الوعي الديني الجمعي، فإنه يتعارض جذريا مع فهم "الإسلاميين" للدين ولدوره في الفضاء العام وفي العملية التشريعية.

زمن الصراعات الهوياتية لم ينقض، ولا يوجد ما يُبشّر بتجاوزه، كما جاء ليثبت أن المحدد الأساسي للصراع -أو نقطة الانقسام المركزية بين النخب- هو الموقف من دور الدين في هندسة المجال العمومي وفي إدارة الشأن العام، وكذلك الموقف من أشكال التدين الفردي والجمعي التي لا تتطابق مع فهم النخب ومع أنماط عيشهم

فالنخب "اللائكية" قد سعت منذ عهد الراحل بورقيبة ومن بعده المخلوع إلى التصالح مع الإسلام الشعبي -خاصة التصوف المتحول إلى تظاهرات فولكلورية- وعملت على جعل الخطاب الديني "الرسمي" هو خطابها ذاته بعد "تنميقه" بالمعجم الديني، وحرصت على جعل علاقتها بممثلي الدين وبمؤسساته علاقة هيمنة في اتجاه واحد: يحق للائكي التدخل في الشأن الديني، ولا يحق لأي متدين من داخل المؤسسات الرسمية أو من خارجها أن يتدخل في الشأن العام إلا لتثمين الخطاب الرسمي وتكريس خياراتها وشرعنتها أمام عموم المتدينين. وهي وضعية لم يكن من الممكن أن تتواصل بعد الثورة ودخول الإسلاميين فاعلا قانونيا -وذا شرعية شعبية- في الحقل السياسي القانوني، وكذلك بعد توق طائفة واسعة من المواطنين إلى استثمار مناخ الحريات والتعبير عن قناعاتهم الدينية "العفوية" -أي غير المؤدلجة بالضرورة أو المعادية لما يسمى بـ"النمط المجتمعي التونسي"- دون الخوف من أجهزة القمع الأيديولوجية والأمنية.

لقد جاء "حدث" الحمامات ليؤكد أن زمن الصراعات الهوياتية لم ينقض، ولا يوجد ما يُبشّر بتجاوزه، كما جاء ليثبت أن المحدد الأساسي للصراع -أو نقطة الانقسام المركزية بين النخب- هو الموقف من دور الدين في هندسة المجال العمومي وفي إدارة الشأن العام، وكذلك الموقف من أشكال التدين الفردي والجمعي التي لا تتطابق مع فهم النخب ومع أنماط عيشهم.

ولذلك، فإن من يريد الوقوف على الاصطفاف/التقاطع الصلب الذي يحكم الفاعلين الجماعيين قبل الثورة وبعدها -بصرف النظر عن تقاطعاتهم/ صراعاتهم المؤقتة والمتغيرة سياقيا- فعليه ألا يبحث عنه في موقف "النخب اللائكية" من الحرية/الحقوق السياسية (أي موقف النخب أو الأقليات الأيديولوجية من السلطة الحالية ومن غيرها في تونس وخارجها)، بل عليه أن يبحث عنه في الحرية الدينية للأغلبية التي تحاول أن تتجلى أو تجد من يعبر عنه بعيدا عن وصاية النخب "اللائكية" وأشكال التدين "الرسمي" التي فرضتها أيديولوجيا دولة الاستعمار الجديد (أي موقف النخب أو الأقليات الأيديولوجية من أشكال التدين الجمعي وموقفها من دور الدين في التشريع ومكانه/ مكانته في المجال العمومي وفي بناء المشترك المواطني).

ونحن على يقين من أنّ عدم الوصول إلى توافقات جماعية مبدئية -أي توافقات غير براغماتية ولا مؤقتة ومحكومة بموازين القوى المتغيرة- هو أحد أسباب الأزمة البنيوية التي عانى منها الانتقال الديمقراطي وتسبب في فشله، وستظل تونس تعاني منها حتى تصل النخب كلها إلى "كلمة سواء" في هذه القضية.

x.com/adel_arabi21
التعليقات (0)