قضايا وآراء

الإخوان المسلمون ما بعد غزة بين عبء التاريخ واستحقاقات المراجعة

إبراهيم محمد عكاري
لقد انتصرت غزة لأنها آمنت، وصبرت، وأعدّت. وستبقى كل حركة قادرة على النهوض ما دامت تؤمن بأن الإصلاح يبدأ من الذات، وأن المراجعة الصادقة هي أولى خطوات التجديد.
لقد انتصرت غزة لأنها آمنت، وصبرت، وأعدّت. وستبقى كل حركة قادرة على النهوض ما دامت تؤمن بأن الإصلاح يبدأ من الذات، وأن المراجعة الصادقة هي أولى خطوات التجديد.
توقفت الحرب على غزة، لكن دروسها لم تتوقف بعد. وغزة، التي كانت وما زالت عنوانًا للصمود والإيمان والثبات، لم تكن مجرد ساحة معركة، بل مرآة عكست وجوه الأمة كلها: الشعوب والحكّام والحركات والأنظمة والمفكرين وأصحاب الدعوة.

وفي قلب هذا المشهد، تبرز جماعة الإخوان المسلمين بوصفها أحد أقدم وأوسع الحركات الإسلامية انتشارًا، وصاحبة تاريخ طويل في الدفاع عن قضايا الأمة الكبرى، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.

غير أن تجربة الحرب الأخيرة كشفت ـ بوضوح لا لبس فيه ـ أن أداء الجماعة في تفاعلها مع الأحداث لم يكن بالمستوى الذي يوازي حجم التحدي، ولا عمق المسؤولية التاريخية التي طالما حملتها.

وهذا ليس انتقاصًا من تاريخها أو جحودًا لتضحياتها، بل دعوة صريحة إلى مراجعة ذاتية جادة، تليق بحركةٍ كانت ولا تزال مؤثرة في وعي ملايين المسلمين.

غزة.. مرآة تكشف وتعلّم

أثبتت غزة أن الإخلاص وحده لا يغني عن الإعداد، وأن الحماسة لا تعوّض غياب الرؤية والتنظيم. كما أظهرت أن في الأمة، وفي صفوف الإخوان تحديدًا، طاقاتٍ شابة مبدعة تمتلك روح المبادرة، لكنها غالبًا لم تُمنح المساحة الكافية للمشاركة والتأثير.

تبدو جماعة الإخوان المسلمين اليوم أمام منعطفٍ تاريخيٍّ يتطلب وقفة صادقة مع الذات: كيف تعيد ترتيب صفوفها؟ كيف تجدد خطابها؟ وكيف تتعامل مع الأنظمة والمجتمعات من دون أن تفقد رسالتها أو هويتها؟
وفي المقابل، كشفت الحرب عن أزمة فكرية وهيكلية في العمل الإسلامي عموماً، تتعلق بقدرة هذه الحركات على قراءة التحولات الإقليمية والدولية واستيعابها.

أما تراجع التأثير الإسلامي في الساحة السياسية والإعلامية، فلا يمكن عزله عن هذا الخلل البنيوي، ولا عن ضعف الفعل المنظّم القادر على تحويل التعاطف الشعبي إلى مشروعٍ سياسيّ فاعل ومستدام.

حاجة مُلحة إلى مراجعة عميقة

تبدو جماعة الإخوان المسلمين اليوم أمام منعطفٍ تاريخيٍّ يتطلب وقفة صادقة مع الذات: كيف تعيد ترتيب صفوفها؟ كيف تجدد خطابها؟ وكيف تتعامل مع الأنظمة والمجتمعات من دون أن تفقد رسالتها أو هويتها؟

ليس كل صدام بطولة، ولا كل مهادنة ضعفًا. الحكمة هي في تحقيق التوازن بين الثبات على المبادئ والمرونة في الوسائل. لقد آن الأوان لتجاوز منطق “رد الفعل” نحو “صناعة الفعل”، عبر مراجعة فكرية وتنظيمية تجعل الحركة أكثر واقعية وقدرة على التفاعل مع تحديات العصر.

التاريخ يشهد بأن الإخوان المسلمين قدّموا نماذج عالية في التضحية والإخلاص، لكن الزمن تغيّر، والعالم تغيّر، ومعه تغيرت أدوات التأثير والتواصل والإقناع.

المرحلة القادمة تتطلب جيلًا جديدًا من القادة يجمع بين الإيمان العميق والفهم الواقعي، بين العقيدة الراسخة والوعي العصري. تمكين الشباب لم يعد خيارًا تنظيميًا بل ضرورة وجودية لبقاء الحركة وتجددها.

فإذا لم تُفتح أمامهم مساحات القيادة والمبادرة، فإن خطر التراجع والانكماش سيبقى قائمًا، مهما كان الإرث التاريخي كبيرًا.

أحداث غزة ذكّرت الأمة بأن الوحدة ليست شعارًا خطابيًا بل شرط بقاء. فقد تراجعت في العقود الأخيرة معاني التضامن الإسلامي لحساب الانقسامات القُطرية والمصلحية، حتى غدت فلسطين في نظر بعضهم قضية خارج الحدود.

ليس كل صدام بطولة، ولا كل مهادنة ضعفًا. الحكمة هي في تحقيق التوازن بين الثبات على المبادئ والمرونة في الوسائل. لقد آن الأوان لتجاوز منطق “رد الفعل” نحو “صناعة الفعل”، عبر مراجعة فكرية وتنظيمية تجعل الحركة أكثر واقعية وقدرة على التفاعل مع تحديات العصر.
على الحركات الإسلامية، وفي مقدمتها الإخوان المسلمون، أن تُعيد إحياء هذا الوعي لا بالخطابة، بل بالمشروعات العملية المشتركة في الفكر، والإعلام، والاقتصاد، والعمل الإنساني، بما يعيد للأمة مفهومها الأصيل: أمة تتشارك الهم والمصير.

ما بعد غزة ليس كما قبلها

ما بعد غزة ليس زمن الشعارات ولا زمن المزايدات، بل زمن المراجعة والتجديد والعمل المنظم.

إن جماعة الإخوان المسلمين، بتاريخها وامتدادها وتجربتها، تملك من الرصيد ما يؤهلها لاستعادة دورها إذا استطاعت أن تواجه نفسها بشجاعة، وتتحرر من الجمود التنظيمي، وتنفتح على الجيل الجديد برؤيةٍ أكثر انفتاحًا ووعيًا بمتغيرات الواقع.

لقد انتصرت غزة لأنها آمنت، وصبرت، وأعدّت. وستبقى كل حركة قادرة على النهوض ما دامت تؤمن بأن الإصلاح يبدأ من الذات، وأن المراجعة الصادقة هي أولى خطوات التجديد.
التعليقات (0)

خبر عاجل