قضايا وآراء

"وما تُخفي صدورُهم أكبر"

عادل بن عبد الله
"الانحياز لهذه الحركة المتصدرة للمقاومة الآن-وهنا لن يكون إلا انحيازا مؤقتا وهشا وغير مبدئي"- عربي21
"الانحياز لهذه الحركة المتصدرة للمقاومة الآن-وهنا لن يكون إلا انحيازا مؤقتا وهشا وغير مبدئي"- عربي21
تصدير: "الشعوب لا تُهزم حين تقمع، وإنما حين تتوقف عن فهم الأدوات الصحيحة للصراع وإنتاجها، فالتاريخ ينصف الفكرة لا من خذلها" (المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي)

سواء آعتمدنا المعجم الديني فأسمينانهم "منافقين" أم اعتمدنا معجما أكثر علمانية فأسميناهم "خونة" و"عملاء" و"طابورا خامسا" للعدو، فإن خندق المقهورين والمستضعفين والمستعمرين لم يخلُ يوما من كائنات وظيفية تشتغل لفائدة خصومهم. ولعل أخطر هؤلاء ليسوا أولئك الذين يختارون العمالة/الخيانة القصدية، بل أولئك الذين يظنّون أنهم يعملون لحساب مشاريعهم السياسية الخاصة وهم مجرّد بيدق في مشاريع من يزايدون على الناس بعداوتهم. وقد جاء "الربيع العربي" ليؤكد أن أغلب النخب المهيمنة على السرديات "الحداثية" وما يُشتق منها من قضايا الديمقراطية والعدالة والتنمية والمساواة وحقوق الانسان الفردية والجماعية والتحرر والسيادة.. الخ؛ ليست إلا "ظواهر صوتية" وأجسام وظيفية في خدمة منظومات الاستعمار الجديد أو الاستعمار الداخلي للأقطار العربية.

إن الربيع العربي في أغلب السرديات "الحداثية" على اختلاف مرجعياتها الأيديولوجية هو "ربيع عبري"، مشبوه نشأةً ومآلا، والحركات الإسلامية التي قبلت العمل القانوني والشراكة مع العلمانيين ليست إلا صنيعة "الإمبريالية" و"الصهيونية" وتجسيدا أمثل للخيانة والفساد، والإرادة الشعبية التي بيّنت الوزن الشعبي الحقيقي للنخب لا قيمة لها لأنها متلاعب بها داخليا وخارجيا ولا تعكس وعيا مطابقا للواقع ولا تمثل مصالح المواطنين ماديا ورمزيا، والأقليات الجهوية والدينية والعسكرية هي الضمانة الوحيدة للحريات ولسيادة الدولة-الأمة.

هم يساندون "المقاومة الفلسطينية" ولكنهم لا يطعنون في شرعية سلطة التنسيق الأمني، وهم يساندون حماس لا لذاتها بل لأنها مكون من مكوّنات "محور المقاومة" بقيادة إيران، ويؤجّلون صراعهم ضدها إلى ما بعد التحرر من الكيان، وهم ينتقدون أعداء المقاومة دون الجرأة على تسميتهم وتعيينهم

ونحن لا نذكر في مدخل المقال بموقف أغلب الحداثيين من "الثورات العربية" ومن "الانتقال الديمقراطي" بقيادة الإسلاميين -أو حتى بمشاركتهم الهامشية- إلا لأنه يمثل المدخل الأمثل لفهم الموقف الحقيقي لتلك النخب من طوفان الأقصى بقيادة حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، بعيدا عن المزايدات الخطابية والشعارات الزائفة.

لفهم موقف أغلب مكوّنات "العائلة الديمقراطية" من المقاومة الإسلامية في فلسطين سيكون علينا استحضار بعض المعطيات الثابتة والمتحولة سواء في المستوى المحلّي أو في المستوى الإقليمي. فإذا كانت القضية الفلسطينية قضية ثابتة في السرديات الحداثية، بما فيها السردية الرسمية لنظام المخلوع وللنظام التونسي الحالي، فإنها لا تحضر إلا باعتبارها قضية تحرير وطني يسعى أغلب الحداثيين على التعاطي معها بمعجم "علماني" لا علاقة له بالمعجم الديني. كما يسعون إلى تهميش دور المقاومة الإسلامية في جميع مراحلها، بما في ذلك المرحلة التي أعقبت طوفان الأقصى. فهم يتحدثون عن "مقاومة فلسطينية" حتى يُخيل للجاهل أن حركة فتح التي لا يُشككون في شرعية تمثيلها للشعب الفلسطيني ما زالت جزءا من المقاومة، أو يُخيل له أن "حماس" و"الجهاد" ليستا إلا فصيلين صغيرين مقارنة بـ"الجبهة الشعبية" أو غيرها. ولمّا كان المحدد الجوهري للصراع هو محدد غير ديني، وكانت حماس حركة "إخوانية"، فإن الانحياز لهذه الحركة المتصدرة للمقاومة الآن-وهنا لن يكون إلا انحيازا مؤقتا وهشا وغير مبدئي، خاصة بعد سقوط نظام الأسد وتراجع دور "محور المقاومة" بقيادة إيران إلا في مستوى الدور اليمني.

رغم انحياز الخطاب الرسمي التونسي للمقاومة الفلسطينية بعد "تصحيح المسار"، ورغم قوة الأقليات الأيديولوجية في تونس -خاصة الأقليات اليسارية بقومييها وماركسييها- فإن هذه الأقليات لم تضغط يوما في اتجاه فتح مكتب لحركة حماس أو غيرها من حركات المقاومة في بلادنا، بل لا يذكر التاريخ أن هذه الأقليات قد عارضت الانقلاب الذي قامت به سلطة التنسيق الأمني ضد حركة حماس بعد فوزها في الانتخابات التشريعية سنة 2006. كما لا يذكر التاريخ أن هذه الأقليات -رغم سيطرتها على المجتمع المدني والحركة النقابية والإعلام- قد مارست أي ضغط على "كلاب الحراسة الأيديولوجية" الذين شوّهوا حركة حماس وحاولوا الزج بها في ملفات الإرهاب في إطار ضرب حركة النهضة "الإخوانية". لقد كان مطلب "تحييد" النهضة عند هؤلاء أهم من الحقيقة، بل أهم من أي تشويه مُمنهج لحركة حماس على ألسنة مرتزقة المنظومة القديمة وحلفائهم في اليسار الوظيفي.

إذا كانت نصرة القضية الفلسطينية -بعد علمنتها- ثابتا من ثوابت الخطابات "الحداثية"، فإنّ الثابت الثاني هو عدم الفصل بين الشأنين المحلي والإقليمي في التعامل مع حركة حماس وغيرها من "الحركات الإخوانية" خارج تونس. فأغلب الحداثيين الذين تحالفوا مع محور التطبيع والثورات المضادة، بعد شرعنة الانقلاب العسكري في مصر والانحياز للمشير حفتر في ليبيا والدعم المطلق للنظام البعثي الطائفي في سوريا، قد وجدوا أنفسهم في تناقض جذري مع أطروحاتهم الأصلية الرافضة للتطبيع مع الكيان. وقد حاولوا الخروج من هذا المأزق بخطابات سفسطائية مُؤدّاها الأكل مع الذئب والبكاء مع الراعي. فهم يساندون "المقاومة الفلسطينية" ولكنهم لا يطعنون في شرعية سلطة التنسيق الأمني، وهم يساندون حماس لا لذاتها بل لأنها مكون من مكوّنات "محور المقاومة" بقيادة إيران، ويؤجّلون صراعهم ضدها إلى ما بعد التحرر من الكيان، وهم ينتقدون أعداء المقاومة دون الجرأة على تسميتهم وتعيينهم، وهم يُثمّنون الخطاب الرسمي رغم امتناع زعيمه عن استقبال مبعوث حماس، ولا يرون في "ديبلوماسية الامتناع عن التصويت" وفي رفض تدويل قضية اغتيال الشهيد محمد الزواري ما يستحق النقد والمساءلة.

لا شك عندنا في أن هذه السرديات القائمة على بنية حجاجية متناقضة من جهة علاقتها بأطراف الصراع لا يمكن أن تنجح طويلا في إخفاء مواقفها العدائية تجاه "الإخوان" باعتبارهم الطرف الأضعف داخليا وإقليميا، وباعتبارهم العدو الوجودي للنخب "الحداثية" التونسية. ولو أردنا استعمال معجم نفسي لقلنا إن حماس لا تحضر في الخطابات "الحداثية" التونسية باعتبارها "الموضوع المقصود"، بل باعتبارها "الموضوع المتاح". فالمقصود الأساسي من نقد حماس، سواء في طوفان الأقصى ذاته أو في علاقتها بالنظام السوري السابق أو في قضية الإعدامات الميدانية للجواسيس واللصوص، ليس هو الحركة ذاتها، بل حركة النهضة التونسية بالقصد الأول، وبالقصد الثاني كل الحركات الإخوانية التي عاداها "الديمقراطيون التونسيون" وناصروا خصومها في ليبيا ومصر وغيرهما.

الالتقاء الموضوعي بين أغلب الحداثيين التونسيين وبين الكيان ومحور التطبيع لم يكن يوما محل مراجعة حتى بعد طوفان الأقصى، ولا يبدو أنه سيكون محل نقد ذاتي على الأقل في المدى المنظور بحكم هيمنة الرهانات الداخلية على آليات إنتاج المعنى داخل السرديات الكبرى

فـ"الحداثيون" عندنا يرون أن انتصار حماس وتقديمها لنموذج أخلاقي وسياسي جاذب هو أمر قد تستفيد منه باقي الحركات الإخوانية بما فيها حركة النهضة، وهو ما يعني استعادة الحركة لجزء من شعبيتها، مع ما يعنيه ذلك من إمكانية مشاركتها في أي عملية لإعادة هندسة المشهد التونسي. ولذلك تداعى الكثير من "الحداثيين" إلى التشكيك في صوابية الطوفان ذاته، وكذلك في "أخلاقية" الإعدامات الميدانية، وفي حقيقة انتصار الحركة بعد اتفاق شرم الشيخ. كما لم ينس الكثير من هؤلاء أن يربطوا الثقافة السياسية لحماس بـ"داعش" باعتبار داعش -حسب أطروحاتهم- هي النموذج المثالي لحركات الإسلام السياسي السُّني كلها، بما فيها "حركة النهضة".

إن المواقف التي تتربص بحماس الدوائر وتتحين الفرص لمهاجمتها؛ ليست تعبيرا عن قراءة مختلفة للمشهد الفلسطيني بقدر ما هي قراءة "مؤدلجة" للصراع الفلسطيني من منظور الرهانات السياسية التونسية. كما أن ما يحدد تلك المواقف ليس "الحقيقة" أو الانحياز للمقهورين، بل هي إعادة تدوير الفرضيات الأساسية للسرديات الحداثية، أي تلك الفرضيات التي تقوم على مقولة الاستثناء الإسلامي من جهة أولى، وعلى الطبيعة الرجعية لأي أطروحة سياسية ذات مرجعية دينية من جهة ثانية.

ولا شك عندنا في أن الطوفان قد فشل في خلخلة هذه السرديات، بل قد جعلها تلتقي موضوعيا مع خصومها "نظريا". وآية ذلك أنّ الحملة على الحركات الإخوانية ليست في جوهرها إلا خدمة مجانية للكيان الذي سيوظفها لنزع الشرعية من حركة حماس. فإذا كان العرب أنفسهم بأنظمتهم ونخبهم يعتبرون الإخوان إرهابيين، فمن حق إسرائيل أن تعتبر حماس "الإخوانية حركة "إرهابية"، كما أن شيطنة الإخوان وتبرير استهدافهم والانقلاب على الإرادة الشعبية التي دفعت بهم إلى مركز الحقل السياسي؛ لم يستفد منها واقعيا إلا أكثر الأنظمة تطبيعا مع العدو الصهيوني ومعاداةٍ للإرادة الشعبية (خاصة النظام العسكري المصري ومن بعده النظام الأردني وكذلك نظام المشير حفتر في شرق ليبيا).

ولكنّ هذا الالتقاء الموضوعي بين أغلب الحداثيين التونسيين وبين الكيان ومحور التطبيع لم يكن يوما محل مراجعة حتى بعد طوفان الأقصى، ولا يبدو أنه سيكون محل نقد ذاتي على الأقل في المدى المنظور بحكم هيمنة الرهانات الداخلية على آليات إنتاج المعنى داخل السرديات الكبرى، وكذلك بحكم الهوة البنيوية الشاسعة بين المواقف الخطابية والانحيازات الواقعية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية وغيرها من القضايا المحلية والإقليمية.

x.com/adel_arabi21
التعليقات (0)

خبر عاجل