قضايا وآراء

الصحراء المغربية: الأمم المتحدة على محك الإجماع الدولي حول مبادرة الحكم الذاتي

نبيل شيخي
"العملية السياسية لم تحقق أي اختراق حاسم، مما زاد من تعقيد المهمة الأممية"- جيتي (أرشيفية)
"العملية السياسية لم تحقق أي اختراق حاسم، مما زاد من تعقيد المهمة الأممية"- جيتي (أرشيفية)
يشهد ملف الصحراء المغربية، أحد أطول النزاعات الإقليمية المدرجة على جدول أعمال الأمم المتحدة، تحولات دبلوماسية متسارعة قد ترسم ملامح مرحلة جديدة. فبعد خمسة عقود من الجمود، جاء التأكيد الأمريكي الصريح والمتجدد في نيسان/ أبريل 2025 لدعم مخطط الحكم الذاتي الذي اقترحه المغرب ليعيد خلط الأوراق على الساحة الدولية. هذا الموقف الأمريكي، وما تبعه من اصطفاف دولي متزايد، يطرح تساؤلا محوريا حول إمكانية أن يؤدي هذا الزخم إلى تحريك المياه الراكدة في العملية السياسية التي تقودها الأمم المتحدة، ودفعها نحو تبني مقاربة أكثر واقعية لإنهاء النزاع.

على مدى السنوات الماضية، بدت أروقة الأمم المتحدة مسرحا لتجاذب واضح بين مؤشرات إيجابية تدفع نحو الحل، واستمرار حالة من الجمود العملي. فعلى صعيد الخطاب، تبنى مجلس الأمن الدولي لغة أكثر براغماتية، حيث أصبحت قراراته المتعاقبة تشدد على ضرورة إيجاد "حل سياسي واقعي وعملي ومستدام ومقبول من الطرفين" قائم على التوافق. هذا التحول عكس طيلة هذه السنوات اعترافا ضمنيا بجدية ومصداقية مقترح الحكم الذاتي كقاعدة أساسية للتسوية. كما أن الدعم العلني الذي أبدته دول وازنة في المجلس، خاصة من أفريقيا ومنطقة الخليج، لسيادة المغرب على صحرائه ومبادرته للحكم الذاتي، شكّل تطورا لافتا كان من الصعب تخيله قبل سنوات، مما يشير إلى بداية تشكل إجماع أممي لصالح الرؤية المغربية.

التحول عكس طيلة هذه السنوات اعترافا ضمنيا بجدية ومصداقية مقترح الحكم الذاتي كقاعدة أساسية للتسوية. كما أن الدعم العلني الذي أبدته دول وازنة في المجلس، خاصة من أفريقيا ومنطقة الخليج، لسيادة المغرب على صحرائه ومبادرته للحكم الذاتي، شكّل تطورا لافتا كان من الصعب تخيله قبل سنوات، مما يشير إلى بداية تشكل إجماع أممي لصالح الرؤية المغربية

لكن على أرض الواقع، ظل التقدم الملموس والعملي بعيد المنال. فالعملية السياسية لم تحقق أي اختراق حاسم، مما زاد من تعقيد المهمة الأممية. ففي قلب هذا الجمود تقف بعثة "المينورسو" التي أنشئت عام 1991 لتنظيم استفتاء تقرير المصير، وهي المهمة التي لم تنجزها قط، بل تحولت مع مرور الزمن إلى أداة لتكريس الوضع القائم. وينظر الكثير من المراقبين إلى البعثة اليوم على أنها أصبحت "متقادمة وغير فعالة"، وعاجزة عن المساهمة في إيجاد مخرج سياسي للأزمة، رغم أنها تمنح الشرعية الدولية للعملية السياسية برمتها. يضاف إلى ذلك، الانقسامات داخل مجلس الأمن التي تعرقل اتخاذ خطوات حاسمة، فرغم أن غالبية الأعضاء يصوتون لصالح تمديد ولاية البعثة، إلا أن امتناع أعضاء بارزين مثل روسيا، إضافة إلى دول أفريقية قريبة من الطرح الجزائري، يعكس شرخا مستمرا بين أغلبية تميل للحل الواقعي الذي يمثله الحكم الذاتي، وأقلية لا تزال متشبثة بخيار الاستفتاء أو ترفض ممارسة ضغط حقيقي على جبهة البوليساريو. هذا المناخ أدى إلى تهميش دور المبعوث الشخصي للأمين العام ستافان ديمستورا، الذي لم يتمكن منذ تعيينه في 2021 من جمع الأطراف حول طاولة مفاوضات مباشرة، مما أفقده هامش المناورة وجعل مهمته شبه مستحيلة.

في مقابل هذا الجمود الأممي، شهدت الساحة الدبلوماسية الدولية حراكا واسع النطاق خارج قبة الأمم المتحدة، كان فيه الموقف الأمريكي المحفز الأبرز. فقد أطلق الدعم الأمريكي المتجدد ما يسمى "تأثير الدومينو"، حيث سارعت قوى دولية فاعلة، مثل إسبانيا وفرنسا، ثم بريطانيا، إلى اعتبار مبادرة الحكم الذاتي الأساس الوحيد أو الأكثر جدية ومصداقية لإنهاء النزاع. ولم يقتصر الأمر على القوى الغربية، بل امتد ليشمل طيفا دوليا واسعا. ففي العالم العربي، تقدمت دول الخليج، وفي مقدمتها الإمارات العربية المتحدة التي كانت أول دولة تفتتح قنصلية في الصحراء المغربية، لدعم الموقف المغربي بشكل لا لبس فيه. وفي أفريقيا وأمريكا اللاتينية، تزايد عدد الدول التي سحبت اعترافها بـما يسمى "الجمهورية الصحراوية"، حتى بات أكثر من 85 في المئة من أعضاء الأمم المتحدة لا يعترفون بهذا الكيان الانفصالي. هذا التحول النوعي يعكس تآكلا شبه كامل للغطاء الدولي الذي كان يتمتع به مشروع الانفصال.

وفي خضم هذه الدينامية الدولية، يبدو المشهد الدبلوماسي أكثر سيولة من أي وقت مضى. فالأنظار تتجه حاليا إلى الحركية المكثفة التي تسبق صدور قرار مجلس الأمن نهاية شهر تشرين الأول/ أكتوبر الجاري. ويؤطر هذه الحركية اتجاهان متناقضان: الأول، يدفع به المغرب، ويهدف إلى طي الملف بشكل نهائي عبر تسوية سياسية، وهو توجه عززته مؤشرات سابقة كتلويح المبعوث الشخصي للأمين العام بإمكانية إعلان الأمم المتحدة فشلها في إدارة النزاع. أما الاتجاه الثاني، الذي تعول عليه الجزائر، فيراهن على إبقاء الوضع على ما هو عليه واستمرار الجمود.

خلال الأشهر القليلة الماضية، سجل المغرب تقدما لافتا بتأكيد واشنطن ثبات موقفها، وتحقيق اختراق دبلوماسي مهم لدى أعضاء فاعلين في مجلس الأمن؛ فإلى جانب الدعم الفرنسي، برز تحول في الموقف البريطاني نحو دعم الحكم الذاتي، والأهم من ذلك، تطور ملحوظ في الموقف الروسي الذي بات يرى في الحكم الذاتي أحد أشكال تقرير المصير الممكنة في حال توافق الأطراف، وهو ما تسعى الدبلوماسية المغربية لتثبيته وتطويره باعتباره رهانا مركزيا خلال هذه المرحلة.

هذا الإجماع الدولي المتنامي يخلق فرصة تاريخية لتحويل هذا الدعم إلى قوة دفع جماعية داخل الأمم المتحدة. فالضغط السياسي الناجم عن هذا الالتفاف الواسع حول المقترح المغربي يجعل من الصعب على المنظمة الدولية الاستمرار في طرح خيار "الدولة المستقلة" في الصحراء كبديل مكافئ للحكم الذاتي، حيث من المنطقي والمطلوب أن تعكس القرارات المستقبلية لمجلس الأمن هذا الواقع الجديد، بحيث لا تكتفي بالإشارة إلى المقترح المغربي، بل تعتبره المرجعية المحورية لأي عملية تفاوضية مستقبلية.

إن الرسالة التي يبعث بها هذا الحشد الدولي واضحة: لقد حان الوقت لتجاوز مواقف الماضي العقيمة، وتبني حل براغماتي ينسجم مع وحدة المغرب الترابية ويضمن الاستقرار الإقليمي ومصالح شعوب المنطقة. وهو ما يتطلب تبني عقيدة أممية جديدة تقوم على مبادئ الواقعية، وترتكز على إعادة توجيه عملية التفاوض بشكل صريح نحو مخطط الحكم الذاتي باعتباره الحل الوحيد والواقعي القابل للتطبيق، مع الإقرار بأن خيار الاستفتاء قد تجاوزه الزمن.

مصداقية المقترح ترتبط عضويا بمدى متانة النموذج السياسي والتنموي المغربي وقدرته على ترسيخ الإجماع الوطني، وهو ما يمر حتما عبر تعزيز البناء الديمقراطي، وتوسيع فضاء الحريات، وتحقيق عدالة مجالية حقيقية، ومن ذلك أيضا التفاعل المطلوب مع مطالب الإصلاح الشبابية

لقد أثبت المغرب، من خلال مبادرته للحكم الذاتي واستثماراته التنموية في أقاليمه الجنوبية، جديته في البحث عن حل سلمي. وفي هذا السياق وجب التأكيد انه مهما كان زخم الجهود الخارجية، لا بد للمغرب من استحضار الجبهة الداخلية التي بات يُنظر إليها بشكل متزايد باعتبارها السلاح الحاسم في معركة السيادة. فجزء أساسي من إقناع العالم بجدوى ومشروعية الحكم الذاتي يجب أن يأتي من خلال النموذج الذي يقدمه المغرب على مستوى تجربته السياسية والديمقراطية والحقوقية على امتداد الوطن.

إن مصداقية المقترح ترتبط عضويا بمدى متانة النموذج السياسي والتنموي المغربي وقدرته على ترسيخ الإجماع الوطني، وهو ما يمر حتما عبر تعزيز البناء الديمقراطي، وتوسيع فضاء الحريات، وتحقيق عدالة مجالية حقيقية، ومن ذلك أيضا التفاعل المطلوب مع مطالب الإصلاح الشبابية وتجاوز عدد من الاختلالات المشوشة ومنها خصوصا ما وقع بمناسبة انتخابات سنة 2021.  فالقوة الحقيقية في مواجهة المناورات الخارجية تكمن في بناء جبهة داخلية متراصة، يشعر فيها كل مواطن بأن انخراطه في الدفاع عن الوحدة الترابية هو جزء لا يتجزأ من مشروع وطني ديمقراطي أوسع. وبهذا المعنى أيضا، فإن الشرعية الدولية التي يسعى إليها المغرب لا يمكن أن تكتمل دون شرعية ديمقراطية داخلية قوية ومتماسكة؛ تبعث بإشارات واضحة تسهم في ترسيخ الثقة والقناعة بجدية ومصداقية مقترح الحكم الذاتي على أسس من الديمقراطية واحترام الحقوق والحريات ومستلزمات العدل والكرامة والتنمية.

إن حل النزاع وفق مقترح مبادرة الحكم الذاتي المغربية لن يعود بالنفع على المغرب وحده، بل سيحرر طاقات التعاون والتكامل في منطقة المغرب العربي وغرب إفريقيا بأكملها، كما سيساهم بفاعلية في حفظ الاستقرار والأمن. إن التفاعل الواقعي للأمم المتحدة أصبح اليوم، وأكثر من اي وقت مضى، على المحك في هذا الملف، والفرصة متاحة اليوم لتثبت قدرتها على التكيف مع مستجدات المواقف الدولية من جهة والحقائق على الأرض من جهة أخرى، والاستجابة لتطلعات شعوب المنطقة نحو مستقبل أفضل، بعيدا عن منطق الصراع والتجزئة الذي عفا عليه الزمن.
التعليقات (0)

خبر عاجل