قد نحتاج اليوم إلى طرح هادئ في قراءة المشهد
الفلسطيني،
فالأحداث المتسارعة والمتداخلة، وحراك القوى الكبرى والإقليمية إزاءها، لا تأتي
عبثا، بل وفق منهج وخطط مدروسة.
فما يجري الإعداد له في
غزة ليس حدثا منفصلا عن ذاكرة
أوسلو الأولى، بل ربما هو امتداد لتجربة حققت نجاحا في ضبط الضفة قدر الإمكان وفق
الرؤية "الإسرائيلية"، ووفقا لتلك الآلية السياسية، قد يكون هناك مخطط
لتطبيقها على غزة.
بعد الانتفاضة الأولى التي أرّقت "إسرائيل"
وهزت صورتها أمام العالم وأعادتها إلى سؤالها الوجودي، جاءت فكرة مؤتمر مدريد،
ومنه كانت اتفاقية أوسلو تُطبخ على نار هادئة، بقيادة ياسر عرفات الذي لم يكن أحد
سواه قادرا على إنجازها.
من عرّف ترامب بالبرغوثي؟ وهل سقط عليه وحي من السماء يخبره عنه؟ أم أن خطة متكاملة رُسمت، ترى في الرجل مدخلا لتسوية جديدة، فُقدمت لترامب وأعجبته؟
فالرجل الذي حمل البندقية وغصن الزيتون معا، استطاع أن
يمنح الاتفاق شرعية وطنية لم تكن متاحة لغيره. وحين اصطدمت المخططات برؤية أخرى
لعرفات وأصبح وجوده عقبة أمام استكمال
المشروع الاستيطاني، جرى التخلص منه، وكان
البديل جاهزا ليكمل الطريق كما أُريدَ له، والذي انتهى بسلطة بائسة تعمل على ضبط
الضفة وتنسق أمنيا مع "إسرائيل" بما يخدم الأخيرة.
بعد السابع من أكتوبر، واهتزاز صورة "إسرائيل"
عالميا بشكل واضح، ومع عودة السؤال الوجودي ذاته، عاد التفكير في إنتاج مشروع
سياسي يُطبق على قطاع غزة كنسخة جديدة من أوسلو، ما يعني البحث عن وجه يمتلك شرعية
النضال والقبول الشعبي.
في هذا السياق، يطل اسم
مروان البرغوثي، الأسير الذي تحول
إلى رمز وحدوي يجتمع حوله الفلسطينيون رغم انقسامهم. فمنذ أكثر من عقدين خلف
القضبان، حافظ الرجل على مكانته في وجدان الناس، وبات الاسم الممكن الذي يراهن
عليه كثيرون لإخراج الساحة الفلسطينية من انسدادها.
كان اسم مروان البرغوثي على رأس قائمة الأسرى التي
أدرجتها المقاومة في صفقة التبادل، لكن تدخلا من السلطة الفلسطينية وبعض الدول
العربية حال دون الإفراج عنه، حتى لا يُسجل ذلك إنجازا للمقاومة، وهو ما حدث
بالفعل حين رفضت "إسرائيل" إخراجه.
خلال الأيام الماضية صدرت عن
ترامب عدة تصريحات بشأن
البرغوثي، وطالب بإطلاق سراحه! فمن عرّف ترامب بالبرغوثي؟ وهل سقط عليه وحي من
السماء يخبره عنه؟ أم أن خطة متكاملة رُسمت، ترى في الرجل مدخلا لتسوية جديدة،
فُقدمت لترامب وأعجبته؟
إن أُفرج عنه بأوامر من ترامب فلن يكون ذلك لدواع إنسانية أو كقائد ومناضل وطني.. بل ربما يُعاد إدخاله إلى المشهد كعرفات جديد لتمرير "أوسلو 2".. هذه المرة على أرض غزة
هنا لا نجزم بانخراط البرغوثي في الترتيبات المتوقعة،
بقدر ما هي محاولة استشفاف لما يمكن أن يحدث. فالذين يقرأون التاريخ يدركون أن
القوى الكبرى لا تراهن على الرموز إلا بقدر ما تخدم مصالحها، وأن كل مشروع يحتاج
إلى وجه مقبول في بدايته، ثم إلى ضحية عندما يُنجز ما أُريدَ له أن يُنجزه.
مروان اليوم هو أكثر شخصية فلسطينية تحظى بقبول واسع في
الشارع الفلسطيني، لكن هذا القبول لا يضمن له الحصانة من الاستغلال، ولا يحول دون
تحويله إلى أداة في معادلة أكبر منه. فإن أُفرج عنه بأوامر من ترامب فلن يكون ذلك
لدواع إنسانية أو كقائد ومناضل وطني.. بل ربما يُعاد إدخاله إلى المشهد كعرفات
جديد لتمرير "أوسلو 2".. هذه المرة على أرض غزة.
يبقى الأمل أن يُدرك المناضل البرغوثي أن حسن النوايا من
جانبه لا يحميه من الغرب المخادع، وأن التاريخ لا يرحم مَن أُعيد استخدامهم. ونأمل
أن ما لدى البرغوثي من وعي سياسي وقرب من نبض الشارع قد يجعلان من خروجه فرصة
لتصحيح المسار، لا لتكرار الخطأ ذاته.
فما نراه اليوم ليس نبوءة متشائمة، بل قراءة واقعية لمشهد
تتغير فيه الوجوه وتبقى الفكرة، إذ إن مشاريع ما يُسمى "السلام" لا بد
أن تبدأ برمز وطني كبير، وتنتهي برماد الحلم الذي بدأه.