قضايا وآراء

قمة العشرين بجنوب أفريقيا بغياب واشنطن: حل معضلة الديون أولا

محمد موسى
تعقد القمة في غياب أمريكي- جيتي
تعقد القمة في غياب أمريكي- جيتي
في 22 و23 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025، تستضيف مدينة جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا قمة مجموعة العشرين، في محطة تاريخية ليست فقط لأنها أول قمة من نوعها تُعقد في أرض أفريقية، وإنما لأنها تأتي في وقت تتداخل فيه أزمات اقتصادية عميقة مع توترات جيوسياسية، مما يعكس تناقضات العالم اليوم. القمة تحمل شعارا واضحا من رئاسة جنوب أفريقيا: "التضامن والمساواة والاستدامة". هذا الشعار ليس زينة بروتوكولية فحسب، بل يعكس طموحا حقيقيا لدى الدولة المضيفة لتوجيه أجندة القمة نحو أولويات أفريقيا والدول النامية.

من بين هذا الطموح ملفان بارزان: إدارة الديون وتحقيق تمويل يتسم بالعدالة والتوازن، خاصة في ظل تكاليف كبيرة لتحويل الطاقة والتزامات المناخ. فمنذ أشهر، أطلقت حكومة جنوب أفريقيا لجنة خبراء أفارقة مهمّة لمعالجة أزمة الديون التي تعصف بعدد من الدول الأفريقية. هذه اللجنة، التي يرأسها سياسيون واقتصاديون معروفون من القارة، وضعت حلولا مثل إعادة تمويل الدين عبر مبادلات مخصصة، وشراء الديون الأكثر تكلفة بشروط ميسّرة.

قبل انطلاق القمة، عُقد حوار رفيع المستوى بين دول مجموعة العشرين والاتحاد الأفريقي، تحت عنوان "استدامة الديون، تكلفة رأس المال، وإصلاح التمويل". هذا اللقاء لم يكن شكليا فقط، بل منصة لعرض مطالب دول أفريقيا من النظام المالي الدولي، حيث تم التأكيد على أن تكلفة الاقتراض (الفائدة، التصنيف الائتماني، المخاطر) لا تزال عبئا كبيرا يضغط على الاقتصادات الأفريقية، مانعا لها من استثمار طاقتها في التنمية والبنية التحتية.

الإحصائيات المعلنة من الاتحاد الأفريقي تكشف حجم المشكلة: بحلول نهاية 2024 بلغت ديون الدول الأفريقية ما يقارب 1.815 تريليون دولار، فيما دفعت ما يقارب 163 مليار دولار كخدمة دين سنوية. والأدهى أن كثيرا من الدول تنفق على خدمة الدين بما يفوق ما تصرفه على الصحة أو التعليم، مما يفاقم من هشاشة المجتمعات ويقوّض قدرة الدول على إطلاق تنمية حقيقية. في هذا السياق، يدعو القادة الأفارقة إلى إعادة هندسة النظام المالي العالمي، بحيث لا تُقاس الاستدامة بالمعايير الضيقة التي تفرضها مؤسسات الدائنين فقط، بل بحجم التنمية التي يمكن للدول تحقيقها والمردود على الشعوب. كما أنهم يطالبون بإصلاح تصنيف الائتمان، لأن التصنيفات الحالية في بعض الحالات تفرض عقوبات تمويلية على الدول، مما يجعل دخولها إلى أسواق التمويل أصعب وأكثر تكلفة.

إلى جانب ذلك، تحاول القمة تسليط الضوء أيضا على المعادن الحيوية في أفريقيا، مثل الليثيوم والكوبالت، التي أصبحت محورية في التحول نحو الطاقة النظيفة. هذه الموارد تمنح أفريقيا فرصة استراتيجية لإعادة ترتيب مكانتها في الاقتصاد العالمي: لا تقتصر على كونها مصدرا خاما فقط، بل يمكنها أن تشارك في سلاسل القيمة، سواء عبر التصنيع أو من خلال شراكات للاستثمار والمنافع المشتركة.

لكن التحديات القائمة ليست بسيطة؛ أولها هو ارتفاع تكلفة الدين بحد ذاته، خصوصا أن بعض الدول المدينة تدفع أسعار فائدة مرتفعة عند إعادة التمويل أو الاقتراض الجديد. ثانيا، هناك مخاطرة أن تكتفي القمة بالإعلانات والتعهدات الرمزية دون تحويلها إلى آليات تنفيذ واضحة: صرفات استثمار، وصفقات مبادلة ديون، أو إنشاء صناديق تمويل موجهة للتنمية. من جهة عملية، المقترحات التي طرحها الخبراء الأفارقة تضمنت استخدام حقوق السحب الخاصة من صندوق النقد الدولي كمورد لإعادة تمويل الديون، أو استخدام آليات مبادلة ديون بشرط ربطها بمشروعات تنموية أو مناخية. هؤلاء الخبراء يدعون إلى تمويل الديون المكلفة بديون أقل تكلفة، أو بتحويلها إلى استثمارات تنموية، بدلا من جدولتها فقط. هذا النوع من الحلول يمكن أن يشكل طريقا نحو تحرير الموارد المالية للبلدان المديونة لتوجيهها نحو البنية التحتية، والصحة، والتعليم، والطاقة النظيفة.

لكن حتى مع كل هذه المبادرات، يبقى السؤال الأصعب: هل هناك إرادة سياسية قوية من جميع الأطراف -الدائنين والدائنين معا- لوضع التنفيذ فوق منصة الشعارات؟ هل سيتم إنشاء آليات مراقبة وشفافية لضمان أن الأموال الناتجة عن إعادة التمويل أو مبادلات الديون لن تُستخدم في نفقات استهلاكية فقط، بل تُوجَّه نحو التنمية الحقيقية؟ هل هناك نية لدى دول مجموعة العشرين لإصلاح نظام تصنيف الائتمان الدولي بحيث يصبح أكثر عدالة للدول النامية؟ قد تكون النتائج قصيرة الأجل للقمة داعمة لبعض قطاعات مثل الضيافة والسياحة في جنوب أفريقيا، لكن الأثر الحقيقي والأهم هو ما إذا كانت الدول الأفريقية المتعبة من وطأة الديون ستحصل على فرصة لتحويل عبئها إلى رافعة تنموية. هذا يتطلب تنفيذا لا كلاما فقط.

في النهاية، العبرة في هذه القمة هي التنفيذ للنتائج لا حبر على ورق ووعود سريالية في الهواء والريح! لا يكفي أن تُطرح مقترحات عظيمة أو طموحات جميلة حول المساواة والاستدامة؛ يجب تحويلها إلى استثمارات ملموسة، وبرامج تمويل، وإصلاحات فعلية في النظام المالي العالمي. النجاح الحقيقي سيكون عندما يشعر المواطن في دولة مديونة أن قدرته على البناء والتطوير لم تعد مكبّلة بدين ضخم، حينما تُخفّض تكلفة الاقتراض ليتم توجيه الأموال إلى المدارس والمستشفيات والطاقة المستدامة، وليس إلى دفعات فوائد تُثقل كاهل الأجيال. إذا نجحت القمة في ذلك، فإنها ستكون لحظة فارقة لصالح الدول المتعبة من الدين، لصالح أفريقيا، لصالح العدالة العالمية. وإذا فشلت، فستكون مجرد ذكرى رمزية؛ منصة كلمات أكثر منها أفعال ومن سخرية القدر انها كانت في أفريقيا المتعبة.
التعليقات (0)

خبر عاجل