قضايا وآراء

ليبيا.. الانتخابات ليست حلا

علي العسبلي
"الانتخابات ليست حلا سحريا، على الأقل ليست في ليبيا التي نعيش ظروفها الآن" - جيتي (أرشيفية)
"الانتخابات ليست حلا سحريا، على الأقل ليست في ليبيا التي نعيش ظروفها الآن" - جيتي (أرشيفية)
أذكر أنني كتبت مقالة بهذا العنوان في ساسة بوست قبل الانتخابات التي كانوا يخططون لإجرائها في ليبيا، في أيلول/ سبتمبر 2023. الموقع أُغلق الآن، وأتمنى ألا يحدث ذلك مع أي منصة ننشر فيها اليوم. الفكرة نفسها ما زالت قائمة: الناس لا زالوا يرون أن الانتخابات هي العصا السحرية، لكن الحقيقة مغايرة، لذلك قررت كتابة المقالة مجددا ولكن بأسلوب آخر.

الانتخابات هي أداة بسيطة لاختيار أشخاص يمثلون الناس في إدارة شؤونهم. فكرة تبدو بديهية، لكنها في الواقع تحتاج بيئة ناضجة حتى تنجح. أول انتخابات عرفها البشر تعود تقريبا إلى أكثر من ألفي عام، في التجربة اليونانية التي وضعت بذرة المشاركة السياسية. ثم تطورت الفكرة في العصور اللاحقة، مع نشوء وتشكّل مفهوم الدولة. منذ ذلك الوقت أصبحت الانتخابات وسيلة لمنع احتكار السلطة، وهي الصورة النظرية التي يتغنى بها الكثيرون. أما التطبيق الواقعي فأصعب وأشد تعقيدا.

الانتخابات ستظل خاضعة لنفوذ أصحاب القوة والمال وسلطة الأمر الواقع، وسيبقى الناس العاديون مثلي ومثلك هم الحلقة الأضعف. من المحتمل أن نرى برلمانا نصفه مرتبط بمليشيات والنصف الآخر برجال أعمال فاسدين

لو رجعنا لليبيا، سنجد أن عمر الدولة الليبية يزيد عن ستين عاما، ومع ذلك لم نجرب الانتخابات التشريعية إلا مرتين فقط منذ الاستقلال: انتخابات المؤتمر الوطني في 2012، وانتخابات البرلمان في 2014. ورغم كل ما رافقها، تبقى هذه التجارب مكسبا بسيطا وأفضل من دول أخرى لم تعرف انتخابات حقيقية منذ تأسيسها.

آخر انتخابات برلمانية في ليبيا كانت في 2014، نعرف جميعا ما الذي نتج عنها؛ برلمان من أعضائه من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، ولم يفكر أحد منهم في الاستقالة أو ترك المجال لمن بعده. قبل ذلك كان المؤتمر الوطني، الذي لم يغادر فعليا، بل غيّر اسمه إلى مجلس الدولة واستمر معنا من تبقى منهم على قيد الحياة منذ الثورة وحتى الآن. فكما تعرفون، المسؤولون عندنا لا يغادرون كراسيهم إلا إلى التوابيت.

بعيدا عن صراعات الشرعية ونزاهة وشفافية تلك الانتخابات، يظل المبدأ واضحا: الشعوب تتعلم بالتجربة، والديمقراطية لا تنضج إلا بالممارسة. لكن السؤال البسيط يبقى قائما: هل ستُحل مشاكل ليبيا إذا ذهبنا للانتخابات الآن؟ بالمعطيات التي نراها بالأمس واليوم، الإجابة بدون لف ودوران: لا.

لست أتحدث عن انتخابات المجالس البلديةن هذه بلا صلاحيات حقيقية ولا موارد تجعلها محور صراع. ومع ذلك، مؤخرا في هذه السنة ألغيت انتخابات أكثر من نصف البلديات في ليبيا بسبب تهديدات جهاز الأمن الداخلي، وهجمت مليشيات على مراكز اقتراع في الغرب وحرقتها، وصودرت بطاقات الانتخاب في بعض البلديات، وأُجبر بعض المرشحين على سحب ترشيحهم. كلنا نعرف كيف تُدار الأمور، وإذا كانت انتخابات البلديات تُعرقل بهذا الشكل، فكيف نتوقع انتخابات برلمانية أو رئاسية نزيهة؟

المعضلة الأكبر أن أحدا لا يعرف شكل نظام الحكم أصلا. تحت أي إطار دستوري سيتم إجراء تلك الانتخابات الموعودة؟ لا نعرف إن كنا ذاهبين لنظام رئاسي أو برلماني أو ملكي أو خليط مشوّه، هناك مشروع دستور منذ أكثر من عشر سنوات، وقد تم انتخاب هيئة صياغته هي الأخرى، حتى لا أنسى. وكذلك، وكما هو العرف عندنا، من لم يمت من الستين عضوا لا يزالون موجودين في مناصبهم ويتقاضون مرتباتهم مقابل اللا شيء. ربما سنحطم رقم غينيس كأطول عملية كتابة دستور في التاريخ! ولا أحد يعرف أين توقفت ومن يعطلها ولماذا. من يمسكون بالمقود الآن لا يريدون دستورا لأنه سيحد من وقت جلوسهم على الكراسي.

في هذه اللحظة تحديدا، سألني صديقي الوهمي إن كنت سأشارك في أي انتخابات مقبلة. قلت له: هذه مشكلة أخرى، فأنا أعيش في المنفى الإجباري ولا يحق لي المشاركة أو الترشح. ولست وحدي، هناك آلاف مثلي محرومون من هذا الحق وصوتهم مغيب بلا ذنب إلا أنهم اضطروا إلى مغادرة البلاد. ابتسم صديقي وهز رأسه وقال: "ملا فكه منكم". ضحكنا في ذات الوقت، لأنه هو الآخر منفي، زيادة عن أنه وهمي.

دعنا نفترض الآن، كتمرين ذهني، أن الانتخابات تُجرى غدا في كل ربوع ليبيا الحبيبة، لا السلاح في الشرق يتدخل لفرض حفتر أو أحد أبنائه، ولا المليشيات في الغرب تجر الناس إلى صناديق معدّة مسبقا، لنفترض أن العملية شفافة بالكامل؛ المجتمع المدني يراقب، والأحزاب تتنافس، والأمم المتحدة حاضرة، وصراع على أشده بين المترشحين، كل يقدم مشروعه، والناس تخلّت فجأة عن العصبية المناطقية والقبلية.. حتى في هذا السيناريو المثالي الذي يشبه أحلام اليقظة، من يضمن أن الطرف الخاسر سيسلّم السلطة؟
هذه الرسالة بالذات يجب أن تصل إلى بعثة الأمم المتحدة في ليبيا، التي همها منذ عشر سنوات أن تقيم انتخابات معتقدة أنها ستحل الأزمة
ومن يضمن أن المنافسة ستكون متكافئة في بيئة يقودها المال السياسي والانقسام والسلاح وإعلام يقتات على التحشيد والصراع؟ كل هذا المشهد السيريالي من دمى خشبية تحركها أيادٍ من وراء الحدود والبحار.

الانتخابات ستظل خاضعة لنفوذ أصحاب القوة والمال وسلطة الأمر الواقع، وسيبقى الناس العاديون مثلي ومثلك هم الحلقة الأضعف. من المحتمل أن نرى برلمانا نصفه مرتبط بمليشيات والنصف الآخر برجال أعمال فاسدين؛ ليس مبالغة، بل سيناريو واقعي جدا، ومن المحتمل أن يجلس متهم بجرائم حرب على كرسي الرئاسة؛ ليس خيالا، بل نتيجة طبيعية لبلد تسوده ثقافة الإفلات من العقاب.

غياب المحاسبة والعدالة قبل أي عملية انتخابية ليس مجرد خلل، بل هو عبث يعطي الشرعية لوجوه ملوثة بدماء الضحايا ويضع البلاد على طريق أسوأ، يحصل فيه المجرمون على شرعية الصناديق. بدون تفكيك مراكز القوة من أمراء الحروب ورؤوس الفساد ستصبح الانتخابات كعملية تجميل فاشلة تزيد القبح قبحا. هذه الرسالة بالذات يجب أن تصل إلى بعثة الأمم المتحدة في ليبيا، التي همها منذ عشر سنوات أن تقيم انتخابات معتقدة أنها ستحل الأزمة.

نحتاج أولا إلى دولة بالمفهوم الحقيقي، تستطيع حماية العملية الانتخابية.. نحتاج دستورا، وقضاء مستقلا، وبيئة آمنة، ومجتمعا مدنيا مستقلا يراقب، ونخبة سياسية تقبل الخسارة قبل أن تطلب الفوز. غير ذلك، ستكون انتخابات صورية، انتخابات معدة مسبقا، وسنعيد تدوير الأزمة وسنعيد إنتاج الفضلات البشرية، والمحصلة مثل تلك التي رأيناها في تونس ومصر وهما ليستا ببعيد عنا.

الانتخابات ليست حلا سحريا، على الأقل ليست في ليبيا التي نعيش ظروفها الآن. الحل يبدأ بتمهيد الأرض قبل البناء، والأرض اليوم مليئة بالألغام، حرفيا ومجازيا.
التعليقات (0)