ثمة
جرائم لا تُكتب؛ لا لأنها غامضة بل لأنها أكبر من قدرة الورق على الاحتمال، جرائم
تمتد كظلّ ثقيل فوق جيل كامل تبدأ من حضانة صغيرة في العبور وتزحف إلى زنازين ضيقة
لا يصلها نور، مرورا بمدرجات جامعية تُخطف فيها الأصوات قبل أن تكتمل الجملة. في
كل محطة الصورة واحدة: جسدٌ مُنتهك، وروحٌ مُداسة، ودولة لا تريد أن ترى.
في
مدرسة سيدز في منطقة العبور بمصر، حيث يُفترض أن يكون المكان بداية الحكاية بدأت
النهاية..
أطفال في الرابعة والخامسة من عمرهم لم تعرف أيديهم الصغيرة بعد كيف
تمسك بالقلم، لكن روحهم عرفت كيف يمسك بها الألم.. أطفال كان يجب أن يكون خوفهم
الأكبر من انكسار لعبة فإذا بهم يواجهون رعبا يفوق قلوبهم الصغيرة.
لم
تكن الجريمة حادثا عابرا بل صفحة جديدة في سجلّ اغتيال الطفولة، لكن ما زاد المشهد
ظلاما هو الغياب المريب لاسم واحد: من يملك هذه المدرسة؟ لا سجل تُمسك به ولا مجلس
إدارة، حالة فريدة من العدم لمنشأة تعليمية كاملة بلا صاحب بلا رأس، أو بمعنى أدق
أن الرأس محمي لأنه فوق القانون؛ من يظهر فقط المجرم الأخير وهو الحلقة الأقل قيمة،
فهل يمكن أن تكون هذه صدفة أم هو تصميم مسبق بجعل المسؤول غير مرئي ليواصل من خلف
الستار أعماله؟
ما
قاله الأطفال عن تكميم وتكتيف وقناع يرتديه أحد الجناة؛ يضعنا أمام احتمال أن ما
كان يحدث ليس جريمة
اغتصاب وانتهاك يقوم بها مجموعة من مرضى النفوس، بل هو عمل
منظم يدر أموالا وفيرة عبر الـ"دارك ويب".
هذا
المشهد المرعب الذي صدمنا به في مدرسة سيدز لم يكن بعيدا عن جريمة الطفل ياسين
الذي سُرقت فيه البراءة أولا، ثم سُرقت العدالة بعدها حين خفّف القضاء العقوبة على
الجاني في خطوة لا يمكن تفسيرها إلا كجزء من منظومة تُعيد إنتاج الوجع وتحمي
صانعيه وتدهس الضحية.
بتأمل
هذا المشهد الذي فاق في رعبه أفلام هوليود، تجدنا لا نقف أمام حوادث متفرقة بل
أمام نَسَق مجتمعي كامل، نسق يبدو كأنه مُصمَّم بدقة من
الحضانة إلى الجامعة إلى السجن، وجيل يُسلَب قبل أن يفهم ما سُلب منه.
اغتيال
يبدأ من لحظة التكوين
الأطفال
في الحضانات والمدارس الخاصة ليسوا مجرد أطفال، إنهم الجيل الذي سيحمل لغة المجتمع
أخلاقه تصوّراته إحساسه بنفسه مستقبله، وحين يتعرض هذا الجيل وبأعداد تزداد تدريجيا
لانتهاكات جسدية ومعنوية فإن هذا لا يصنع ضحايا فقط، بل يصنع تغييرا قسريا في
البنية العميقة للمجتمع كله.
وهنا
تبرز الحقيقة المخيفة، هل ما يحدث هو مجرد انهيار أخلاقي أم خطة لإعادة تشكيل
المجتمع بالقوة؟
لأعوام
حاولت جهات كثيرة عبر الدراما وبرامج التوك شو فرض أنماط سلوكية وثقافية جديدة على
مجتمع مسلم شرقي محافظ، لكن القوة الناعمة فشلت في ذلك، فالمجتمع قاوم، والوعي
انتبه، والشارع لم يتقبّل، وعندما تفشل الخطة الناعمة تُستدعى دائما الخطة القذرة،
خطة لا تعتمد على الإقناع بل على الصدمة والانكسار والتطبيع القسري مع كل ما كان
يوما محرّما ومخيفا.
أطفال
تُنتزع براءتهم في سنوات التكوين، فماذا يمكن أن يصبحوا حين يكبرون وهم أكثر هشاشة،
وأكثر تبددا، وأكثر قابلية للانكسار، وأحيانا أكثر قابلية لإعادة إنتاج ما تعرضوا
له.
هكذا
يتم صُنع بيادق من جيل كامل مُبلبل، مُنتهَك، مُفكَك الحدود النفسية، جيل لا يعرف
أين يبدأ الجسد وأين تنتهي الحماية، جيل يمكن تشكيله لا لأنه اختار بل لأنه كُسِر.
"الاغتصاب
الاجتماعي" السلاح الذي لا يُرى
نحن
كشعب نتعرض هنا لاغتيال لا يتم بالسلاح المادي المتعارف عليه، بل بسلاح معنوي أشد
فتكا اسمه انتزاع الكرامة بشكل ممنهج وتدريجي.. طفل تُنتهك براءته، فتاة تُهان في
الشارع، شاب يُكسر في المعتقل.. أب تُداس كرامته بين طوابير الخبز وهو عاجز عن سد
جوع صغاره.. أم تُهزم أمام مطلب بسيط لحماية طفلها.
تتراكم
الانتهاكات وتتحول إلى وحش جماعي يلتهم كل ما هو جميل، حتى يصبح المجتمع نفسه
مشروعا لمسخ مستسلِم للتغيير القسري، هشا وفاقدا المناعة. هذه ليست مصادفة وليست
خللا فرديا كما يرددون لنا، إنما هي بيئة مُصمَّمة بعناية ووفق خطة ممنهجة لتفريغ
الإنسان من إنسانيته.
الواقع
المرير
ما
حدث في مدرسة سيدز وما حدث لياسين وما يجري في الجامعات والزنازين والبيوت ليس
خطوطا متوازية، إنه خيط واحد حاد طويل يخترق الجسد
المصري من طفولته حتى كهولته..
أن يعيش الإنسان في وطنه بلا كرامة، بلا أمن، بلا براءة طفولته، بلا جسد مصان؛ هو
أمر يفوق كل أساليب التعذيب وحشية.
وفي
النهاية يبقى السؤال الجارح الذي لا يريد أحد أن يسمعه: كيف يصبح وطن كامل مسرحا
لانتهاك مواطنيه؟ ومن المستفيد من شعب يُقتل وهو حي؟ ومن سيحمي البراءة حين يصبح
القاتل غير معلن، والقاضي غير مستقل، والطفل بلا صوت؟