اتفاق يتقدّم
خطوة.. ويتراجع خطوتين
بعد الإعلان
عن المرحلة الأولى من اتفاق وقف النار في
غزة، ظنّ البعض أننا أمام منعطف حقيقي نحو
السلام، لكن الحقيقة أنّ الاتفاق صُمّم بحيث يفتح نافذة صغيرة للتهدئة، ويترك الباب
واسعا لاستمرار الحرب.
المرحلة الثانية
كانت لحظة الحسم: انسحاب أوسع، وترتيبات حكم انتقالي، وتبادل أسرى أكبر. لكنّها توقفت
فورا؛ لأنّها ببساطة الجزء الوحيد من الخطة الذي يفرض على
إسرائيل تكلفة سياسية وعسكرية.
وهنا بدأ التعطيل.
هذا المقال
يرصد الخلفيات الحقيقية وراء توقف المرحلة الثانية، ولماذا لا تستطيع أمريكا ولا تريد
وقف القتل اليومي.. ولماذا يبدو ترامب مقتنعا بأن المجزرة المستمرة هي "الطريق"
لحل الصراع.
لماذا توقّفت
المرحلة الثانية من الأساس؟
المرحلة الثانية فتفرض لأول مرة: انسحابا أوسع، ودخولا لحكومة مدنية انتقالية، وتقليصا للسيطرة العسكرية. وهذا أمر يرفضه نتنياهو لأنه سيعني نهاية "حربه" التي يستخدمها للبقاء في السلطة، فتح ملفات التحقيق في فشل 7 أكتوبر، وبدء نقاش جدي حول من يحكم غزة. لذلك جمّد المرحلة الثانية تماما
1- لأنها المرة الأولى التي يجب أن تدفع فيها إسرائيل
ثمنا.. والمرحلة الأولى من الاتفاق كانت مريحة لإسرائيل: إطلاق بعض الأسرى، خفض نسبي
للقصف، لا التزامات سياسية، لا انسحاب حقيقيا. أما المرحلة الثانية فتفرض لأول مرة:
انسحابا أوسع، ودخولا لحكومة مدنية انتقالية، وتقليصا للسيطرة العسكرية. وهذا أمر يرفضه
نتنياهو لأنه سيعني نهاية "حربه" التي يستخدمها للبقاء في السلطة، فتح ملفات
التحقيق في فشل 7 أكتوبر، وبدء نقاش جدي حول من يحكم غزة. لذلك جمّد المرحلة الثانية
تماما.
2- لأن نتنياهو يعيش على حرب لا تنتهي؛ الحرب بالنسبة
لنتنياهو ليست معركة.. بل وسيلة للبقاء. إذا بدأت المرحلة الثانية ستبدأ لجان التحقيق،
وستظهر حقيقة أن "النصر الكامل" مجرد شعار، وسيُسأل: لماذا لم يتم إنقاذ
الرهائن؟ لماذا استمر القتل بلا هدف؟.. لذا يبقي نتنياهو الوضع بين: لا حرب شاملة،
ولا سلام حقيقيا، بل قتل يومي منخفض الإيقاع.
3- خلاف جذري بين مشروعين متناقضين.. حماس تريد وقفا
نهائيا للحرب، ورفع الحصار، وضمانات مكتوبة بعدم إعادة الاحتلال، وإسرائيل تريد تجريد
المقاومة من القوة، ووصاية أمنية دائمة، وحكما مدنيا ضعيفا لا يملك قرارا مستقلا. لذلك
تحوّل الاتفاق إلى صدام بين مشروعين لا يلتقيان.
لماذا تعجز
أمريكا عن فرض المرحلة الثانية أو وقف القتل؟
1- لأنها ليست وسيطا.. بل طرفا أصيلا، فالدعم الأمريكي
لإسرائيل هو الأعمق في تاريخ النزاعات الحديثة: غطاء سياسي كامل، وقنابل وصواريخ يومية، وتعطيل لأي
قرار إدانة في الأمم المتحدة. أمريكا لا تضغط على إسرائيل.. بل تحميها من الضغوط.
2- لأن كسر إسرائيل سياسيا يكلّف واشنطن أكثر من كسر
غزة إنسانيا؛ الرؤساء الأمريكيون -جمهوريون وديمقراطيون- يخشون نفوذ اللوبيات، والإعلام
المنحاز، والكتلة الانتخابية المسيحية- الصهيونية. لذلك يفضلون دعم الإبادة على خسارة
أصواتهم.
3- لأن خطة ترامب- نتنياهو تقوم على "سلام ما بعد
الإبادة"؛ المرحلة الثانية ليست وقفا للقتل.. بل إعادة ترتيب غزة بعد إنهاكها.
الفكرة الأمريكية هي: "لنبدأ السلام.. بعد أن تنتهي المقاومة، وبعد أن تفقد غزة
قدرتها على الحياة". أي سلام فوق الركام.
لماذا تستمر
إسرائيل في القتل اليومي رغم وجود هدنة؟
1- لأن القتل هو جزء من عقيدة "النصر الكامل"؛
نتنياهو أعلن مرارا أن هدفه هو "القضاء على حماس"، ولأن المقاومة لم تُهزم،
فإن إسرائيل تستخدم القتل المنهجي، والاغتيالات، والتجويع، وهدم البنية المدنية. وهذا
كله يُقدَّم للرأي العام بوصفه "استمرارا للمهمة".
2- لأن مشروع الاحتلال يحتاج ضغطا مستمرا؛ خلف عمليات
الجيش توجد خطة أعمق: دفع الغزيين للهجرة، وتدمير المجتمع، وفرض واقع ديمغرافي جديد،
وإدماج غزة في مشروع اقتصادي إقليمي يخدم تل أبيب. وهذا المشروع يحتاج نارا مشتعلة..
ولو منخفضة.
3- لأن "اليوم التالي" مرعب لإسرائيل، فإن
توقف القتل،فستُسأل إسرائيل: من سيحكم
غزة؟ هل ستنسحب؟ هل ستقبل بدولة فلسطينية؟ وهل كانت الحرب مبررة أصلا؟ وهي أسئلة تريد
إسرائيل الهروب منها.
السؤال الأهم:
هل ترامب مقتنع فعلا بخطة نتنياهو؟
1- نعم.. ترامب يرى أن الحل عسكري بالدرجة الأولى،
وقد صرح علنا بأن "على إسرائيل إنهاء المشكلة في غزة".. "التخلص من
حماس ضرورة".. "حماس هي العائق الوحيد أمام الصفقة".. وهذه لغة تؤيد
الحرب لا توقفها.
2- يدعو لوقف مؤقت -ليس رحمة- بل مناورة: عندما يطلب
ترامب "تهدئة" يكون الهدف إقناع حماس بالخضوع، أو تحميلها مسؤولية الفشل.
فلا علاقة للإنسانية بالأمر.
ترامب ونتنياهو يشتركان في رؤية واحدة، كلاهما يؤمن بأن الحسم العسكري أولا، وإعادة هندسة غزة ثانيا، ثم فرض حل سياسي بالقوة. لذلك يتصرف ترامب كـ"مهندس اتفاق" يخدم إسرائيل، لا كوسيط بين طرفين
3- ترامب ونتنياهو يشتركان في رؤية واحدة، كلاهما يؤمن
بأن الحسم العسكري أولا، وإعادة هندسة غزة ثانيا، ثم فرض حل سياسي بالقوة. لذلك يتصرف
ترامب كـ"مهندس اتفاق" يخدم إسرائيل، لا كوسيط بين طرفين.
خاتمة استراتيجية:
ما الذي يعنيه ذلك للمقاومة والأمة؟
1- المرحلة الثانية ليست متعثرة.. بل متوقفة عمدا، لأنها
لحظة تفرض على إسرائيل مسؤولية، وهذا ما لا يريده نتنياهو.
2- أمريكا ليست عاجزة.. بل غير راغبة، لأنها شريك مباشر
في الحرب، وليست ضامنا للسلام.
3- القتل اليومي ليس خللا.. بل جزء من الخطة لتركيع
غزة، وإعادة صياغة واقعها السياسي والديمغرافي، وتفكيك مقاومتها.
4- المعركة اليوم ليست بين اتفاق أو اتفاق، بل بين مشروعين:
مشروع إبادة وإعادة هندسة المنطقة، ومشروع صمود تحوّل إلى نموذج عالمي.
5- واجب الأمة واضح.. دعم غزة سياسيا وقانونيا وإعلاميا،
وعزل إسرائيل دوليا، وفضح الدور الأمريكي، وبناء مشروع نهضوي مقاوم طويل النفس.
إن المرحلة
الثانية لم تتوقف لأسباب فنية.. بل لأن الحرب لم تنتهِ بعد في عقل نتنياهو ولا في عقل
ترامب، وما يجري الآن ليس "تعثر سلام" بل محاولة فرض سلامٍ فوق المقابر.