تثير ظاهرة
توظيف الأنظمة
القمعية لشخصيات ووجوه عامة منبوذة شعبيا، أو مثيرة للجدل، في مناصب
إعلامية وسياسية واجتماعية، والإغداق عليها بالمزايا المالية والاجتماعية والطبية؛
تساؤلات عميقة حول الاستراتيجيات الكامنة وراء هذه الاختيارات، التي تبدو للوهلة الأولى
غير منطقية. فعلى الرغم من أن الهدف الأساسي لأي نظام هو كسب القبول والدعم الجماهيري،
إلا أن هذه الأنظمة تلجأ إلى تكتيكات مغايرة، تحقق لها أهدافا سياسية وسيكولوجية معينة.
وتمثل
مصر،
في سياق تجربتها الحديثة مع الأنظمة التي تعتمد على القمع والتحكم، نموذجا بارزا لدراسة
هذه الظاهرة؛ لا سيما مع التزايد الملحوظ في الإغداق بالمزايا في ظل قضايا
الفساد المالي،
والفضائح الأخلاقية، المرتبطة بالمسؤولين والحاشية المقربة من النظام.
الأسباب السياسية
لتوظيف المنبوذين
الاختيار المتعمد
للوجوه المنبوذة ليس خطأ، إنه جزء من منظومة حكم، تهدف إلى تحقيق السيطرة المطلقة،
وتفكيك أي تجمعات مستقبلية للمعارضة أو القوة المستقلة، ويتحقق بعدة أسباب:
الاختيار المتعمد للوجوه المنبوذة ليس خطأ، إنه جزء من منظومة حكم، تهدف إلى تحقيق السيطرة المطلقة، وتفكيك أي تجمعات مستقبلية للمعارضة أو القوة المستقلة
السبب الأول:
ليس لهم ظهير إلا النظام: تُعدّ الشخصيات المنبوذة اجتماعيا، أو تلك التي لا تمتلك
قاعدة شعبية حقيقية، أكثر ولاء للنظام. فهي تدرك أن بقاءها وقوتها مستمدان بشكل كلي
ومباشر من رضا رأس النظام فقط، وليس من الشارع أو صناديق الاقتراع. هذا يضمن عدم قدرتها
على بناء نفوذ مستقل يمكن أن يشكل تحديا مستقبليا.
السبب الثاني:
توجيه غضب الجمهور وتحويل الانتباه: إن توظيف هذه الوجوه يساعد في استخدامها ككبش فداء،
أو حائط صد لاستيعاب الغضب الشعبي. فعندما يفشل قرار أو تحدث أزمة، يمكن للنظام التضحية
بسهولة بهذه الشخصيات وإلقاء اللوم عليها، بدون الخوف من رد فعلها، أو دفاعها عن نفسها.
هذا يوفر صمام أمان للنظام ويحميه من المساءلة المباشرة، كما أن تركيز الإعلام والشارع
على فضيحة أو تصريح مثير للجدل لشخصية تابعة؛ يشتت الانتباه عن القضايا الهيكلية الأعمق.
السبب الثالث:
تهميش النخبة التقليدية والمؤسسات: لإضعاف المؤسسات التقليدية (مثل الأحزاب، البرلمانات،
أو حتى النقابات) ولتقويض النخبة المثقفة والمحترمة، يعمل النظام على إدخال تلك العناصر
المنبوذة في قلب هذه المؤسسات. هذا يقلل من جاذبيتها في نظر الجمهور، ويجعلها تبدو
كامتداد للسلطة، وليست ممثلا حقيقيا للشعب.
السبب الرابع:
ضمان الطاعة العمياء في الأجهزة الإعلامية: في المجال الإعلامي تحديدا، يتم اختيار
وجوه تتسم بالجهل الواضح، وتميل إلى التحريض الفج، والاستقطاب الساذج، وتقديم أسوأ
أشكال الدعاية. هذا يضمن أن الإعلام لن يشكل أي رقابة، بل سيكون أداة طيّعة لتجميل
صورة النظام، وتشويه المعارضين، دون أي تردد أخلاقي أو مهني.
الآليات السيكولوجية
والاجتماعية لاستخدام المنبوذين
لا تقتصر مسألة
توظيف المنبوذين على السياسة فقط، بل تمتد إلى آليات نفسية عميقة تدعو النظام القمعي
لاستخدامهم في إدارة العلاقة بينه وبين
المجتمع، أهمها:
1- كسر الإرادة العامة وتطبيع القبح: الاستمرار في فرض
وجوه مكروهة، أو غير مقبولة مجتمعيا، هو شكل من أشكال الإخضاع السيكولوجي، فعندما يرى
المواطن أن النظام يفرض عليه ما يكره علنا ولا يستطيع أن يفعل شيئا حيال ذلك، يبدأ
الإحساس بالعجز واليأس. يهدف هذا إلى إيصال رسالة مفادها: لا صوت لكم؛ وقبولكم أو رفضكم
لا يغير شيئا، مما يؤدي تدريجيا إلى تطبيع وجود الفساد أو السلوكيات غير الأخلاقية.
2- تجميل النظام بخلق المقارنة الأدنى: قد يوظف النظام
هذه الوجوه المنبوذة، لكي تبدو صورته هو نفسه أفضل نسبيا. أي أنه يخلق مقابلا قبيحا
جدا؛ ليظهر نفسه بمظهر البديل الأقل سوءا، أو الحامي من هذه النماذج السلبية.
3- الإدارة عبر الفساد والابتزاز: غالبا ما تكون هذه
الشخصيات المنبوذة متورطة في فساد، أو تجاوزات أخلاقية معلومة للنظام الحاكم، تجعلها
رهينة في يده. معرفة النظام لنقاط ضعف الشخصيات، أو ملفاتها الحساسة، تضمن ولاءها التام،
وتجعلها عرضة للابتزاز والتحكم في أي وقت؛ إنها ضمانة قوية للأنظمة القمعية.
الأبعاد الثقافية
والجيوسياسية لتوظيف المنبوذين
رغم دقة التحليل
السياسي والنفسي في فهم ظاهرة الوجوه المنبوذة، فإن السياق المصري -كنموذج- لا يمكن
فهمه بمعزل عن خلفيته الثقافية، والدينية، والجيوسياسية العميقة، وذلك من عدة أبعاد:
البعد الأول:
المنظومة القيمية مقابل القمع: في مجتمعات تحمل هوية دينية قوية كمصر، لا يقتصر مفهوم
القبول الشعبي على الكفاءة أو الشعبية فقط، بل يرتبط أيضا بمفاهيم الأخلاق والشرف والالتزام
الديني. ومن هنا، فإن توظيف شخصيات تُخالف هذه المعايير -سواء في سلوكها العام، خطابها،
أو سيرتها وتاريخها- لا يُعدّ فقط استفزازا للعقل الجمعي، بل هو انتهاكٌ متعمد لحدود
الحلال والحرام من وجهة نظر المجتمع، وفي ظل عدم القدرة على معارضة النظام؛ تتغير تدريجيا
المنظومة القيمية للمجتمع من مرجعية دينية وأخلاقية إلى مرجعية القمع.
البعد الثاني:
تشويش الخطاب الديني: يستخدم النظام في كثيرٍ من الأحيان أدوات التجميل الديني لتغليف
هذه الوجوه. فنرى شخصيات مثيرة للجدل تظهر فجأة في سياقات دينية (مثل برامج دينية أو
مشاريع خيرية مصورة) في محاولة لبناء غطاء أخلاقي يضفي عليها شرعية زائفة. هذه الممارسة
ثنائية الهدف، فمن ناحية تزيد من اللغط حول هؤلاء المنبوذين لتغذية نار الإلهاء المستمرة،
ومن ناحية أخرى تُشوّش الخطاب الديني نفسه، وتحوله من مصدر لهداية المجتمع والرقابة
على النظام إلى أداة مشوهة في خدمة السلطة.
البعد الثالث:
توظيف الاستفزاز الاجتماعي: بعض الوجوه التي يُوظفها النظام لا تُرفض فقط لفسادها أو
سلوكها، بل لأنها تنتمي إلى طبقات اجتماعية معيّنة، يُنظر إليها بازدراء، ضمن هيكل
اجتماعي محافظ (مثل تكريم راقصة كأم مثالية، أو تعيين طبال كعضو مجلس نيابي). في هذه
الحالة، يصبح التوظيف أداة لكسر المجتمع المحافظ وإذلاله، تحت غطاء الانفتاح أو الشعبوية،
خاصة عندما يُقصى في المقابل من يحظون بالاحترام والتقدير العلمي والثقافي داخل المجتمع.
توظيف الأنظمة القمعية للوجوه المنبوذة -مصر نموذجا- هو أحد تكتيكات الحكم القمعي الخبيثة والفعالة في ذات الوقت. إنه ليس دليلا على سوء التقدير، بل هو دليل على إتقان فن السيطرة القذرة، من خلال ضمان الولاء المطلق، وتفكيك القوة الشعبية، وكسر الإرادة العامة للشعب، عبر الاستنزاف السيكولوجي، وتغيير المنظومة القيمية للمجتمع
البعد الرابع:
الاستعراض لتوجيه الأولويات: يستخدم النظام بعض الشخصيات النسائية -خاصة من الطبقة
الفنية المؤدلجة أو الإعلام النسوي الراديكالي- كأيقونات لحقوق المرأة. الهدف هو تفكيك
مطالب النساء الحقيقيّة بحقوقهنّ السياسية والاجتماعية العادلة، كالحاجة إلى السكن
الآمن والرعاية الصحية، وتحويلها إلى سلوك استعراضي يخدم أجندات إعلامية وسياسية أكثر
مما يخدم العدالة.
البعد الخامس:
التوظيف لأسباب خارجية: بالإضافة إلى الأهداف الداخلية، يلعب توظيف الوجوه المنبوذة
دورا جيوسياسيا. فبعض هذه الشخصيات، لا سيما الإعلامية منها أو تلك التي تدير ملفات
اقتصادية، يتم توظيفها بتفاهمات خارجية، لأنها تنفذ أجندات عابرة للحدود أو تطبع مع
قضايا إقليمية حساسة ومرفوضة مجتمعيا، وذلك إرضاء لحلفاء النظام الخارجيين، الذين يمنحونه
غطاء الاستقرار أمام المؤسسات الدولية المانحة، ويحمونه من المساءلة، ويثقلون كفته
في مقابل أجهزة الدولة العميقة، حتى لو أدى ذلك إلى زيادة الاحتقان الداخلي. فالاستقرار
في نظر القوى الكبرى يصبح مرادفا لعدم وجود معارضة مؤثرة، ويضمنه هؤلاء الموالون المطيعون
الذين لا يملكون أي مشروعية مستقلة.
بين التخطيط
المسبق والمصالح البحتة
لا ينبغي تجاهل
أن ليس كل تعيين لشخصية مثيرة للجدل دليلا على تخطيط قمعي مركزي مسبق. فبعض هذه التعيينات
قد تكون ناتجة عن شبكات
مصالح بحتة، أو تعدد ولاءات، أو صراعات داخلية بين أجنحة الدولة
العميقة، أو حتى نتاج اقتصاد الوجه الذي تفرضه منصات التواصل الاجتماعي، حيث يُكافأ
الاستقطاب على حساب الكفاءة والكفاية.
ومع ذلك، فإنّ
قدرة النظام على امتصاص هذه الشخصيات واستثمارها هي التي تكشف عن طبيعته التسلطية.
فالنظام الوطني الحقيقي يُصلِح أو يستبدل عندما يُخطئ التمثيل؛ أما النظام القمعي،
فيُحوّل الخطأ إلى أداة.
والخلاصة،
إن توظيف الأنظمة القمعية للوجوه المنبوذة -مصر نموذجا- هو أحد تكتيكات الحكم القمعي
الخبيثة والفعالة في ذات الوقت. إنه ليس دليلا على سوء التقدير، بل هو دليل على إتقان
فن السيطرة القذرة، من خلال ضمان الولاء المطلق، وتفكيك القوة الشعبية، وكسر الإرادة
العامة للشعب، عبر الاستنزاف السيكولوجي، وتغيير المنظومة القيمية للمجتمع. ومع ذلك،
يظل هذا التكتيك سيفا ذا حدين؛ ففي حين يضمن للنظام الطاعة الآنية، فإنه يقوّض شرعيته
الأساسية ويراكم غضبا مكتوما، ويحوّل النظام نفسه تدريجيا إلى كيان منبوذ، ومعزول عن
أي قاعدة شعبية حقيقية.