يتناول هذا المقال ظاهرة اعتماد
العرب على العلاقات مع الولايات المتحدة ودول كبرى أخرى، بعيدا عن العمل على بناء
القوة الذاتية بأنواعها المختلفة، ولئن كانت بعض الدول العربية تصرف مبالغ طائلة على التسلّح لكنّها منضبطة بشروط البائع من جهة ومنزوعة الكفاءة القتالية من ناحية أخرى، كما أنّ اتفاقية الدفاع العربي المشترك مجمّدة منذ عقود طويلة، ولا تعمل في حماية أي بلد عربي من أي عدوان خارجي، ولئن كانت بعض مظاهر القوة قد تمثلت في قطع العرب للنفط عن الغرب عام 1973، وحشد الجيوش العربية على حدود
فلسطين عامي 1967 و1973، فإن الوضع القائم اليوم ينبئ بأن العرب بشكل جمعيّ قرروا الانكفاء القُطْري في موضوع الدفاع.
وقد كشفت حرب الإبادة التي شنتها
إسرائيل على قطاع غزة، وحرب التهجير والضمّ والتدمير في الضفة الغربية، منذ 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، العجز الفعليّ في اتخاذ القرار العربيّ، حيث إنه وبرغم اتخاذ القمم العربية قرارات نَصّية ربما معقولة، غير أنّ استبعاد القوة في مواجهة غطرسة إسرائيل واعتداءاتها على الشعب الفلسطيني، والدول العربية كذلك، إنما أغرى الجانب الإسرائيلي بالاستخفاف بهذه القرارات، بل إن الجانب الأمريكي في عهدي بايدن وترامب لا يكاد يُلقي بالا لأي قرارات أو مصالح عربية، خصوصا في مجال الصراع العربي- الإسرائيلي، وفي مواجهة العدوان الإسرائيلي.
وتتمثل مشكلة المقال في أنّ العرب لا يزالون يتجنّبون تحقيق عناصر القوة كقوة إقليمية ودولية، رغم أن عناصر القوة المختلفة تتوفر لدى الدول العربية عسكريا وأمنيا واقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، ناهيك عن الموارد البشرية والطبيعية، والموقع والعمق الاستراتيجي في قلب العالم، وبالتالي جيوسياسيا وجيواستراتيجيا، والسؤال المركزي للمقال: لماذا لا يتسلّح العرب بما يملكون من قوة لفرض توجّهاتهم ومصالحهم ومواقفهم وحماية بلادهم، بما في ذلك حماية الشعب الفلسطيني وإسناده ضد الاحتلال الإسرائيلي؟
الناظم الذي تفتقده هذه القوة هو الإرادة العربية، والتي تشكّل العامل الحاسم القادر على تفعيل هذه القوة واستخدامها لمصلحة الأمن القومي العربي وللدفاع عن العرب ومصالحهم أمام أيّ قوة خارجية معتدية، وهو يرتبط كذلك بآليات وسرعة اتخاذ القرار وتحمّل تبعاته واحتواء سلبياته
وبرغم أن الدراسات العربية على مدى الأعوام الستين الماضية كشفت مكنونات القوة في مقابل مخاطر المشروع الصهيوني وإسرائيل على الدول العربية وأمنها وجوديا، غير أنّ المقاربات لا زالت ترتبط بالخارج، أو بالغرب على وجه الخصوص، في حين أن هذا الغرب هو الذي يمدّ إسرائيل بالقوة والتسلّح والغطرسة حتى وهي تقتل الأطفال والنساء المدنيين العزّل، كما في غزة والضفة ولبنان وسوريا.
ويقدر خبراء الصراعات أنّ القوة تتشكل في الدول بعوامل القوة الجيوسياسية والقدرة الجيواستراتيجية، بما في ذلك القدرة على امتلاك القوة العسكرية والاقتصادية، والقوة الدبلوماسية والسياسية، والقوة الاجتماعية والثقافية والفكرية، والعلاقات الدولية، وتوفر البدائل لمختلف العلاقات والمصالح من ذوى المصالح في المنطقة. وفي الواقع، فإنّ كل هذه العوامل متوفرة، وبقوة ربما أكبر من بعض الدول الصناعية في العالم، لكنّ الناظم الذي تفتقده هذه القوة هو الإرادة العربية، والتي تشكّل العامل الحاسم القادر على تفعيل هذه القوة واستخدامها لمصلحة الأمن القومي العربي وللدفاع عن العرب ومصالحهم أمام أيّ قوة خارجية معتدية، وهو يرتبط كذلك بآليات وسرعة اتخاذ القرار وتحمّل تبعاته واحتواء سلبياته، حيث إن العمل العربي المشترك يوفر هذه المعطيات بشكل قويّ، لكنه لا زال بحاجة إلى إسناد كلّ قرار بإجراءات وقوة تقف خلفه لتنفيذه، وخصوصا عندما يتعلق الأمر بإسرائيل التي تعلن أنها تسعى لتحتل سبع دول عربية لإقامة إسرائيل الكبرى كما يقولون، ولا يأخذ العرب الأمر على محمل الجدّ بعد.
صحيح أن امتلاك القوة يقف في وجهه أحيانا عقبات وتحديات، وصحيح أنّ اتخاذ بعض القرارات والإجراءات ستكون له تبعات إيجابية وسلبية، غير أن القرار السياسي في التاريخ هو كذلك، وإن الأمم والقادة الذين يتطلّعون إلى المنَعة أمام العدوان الخارجي وحماية حقوقهم وأممهم وشعوبهم وحضاراتهم قدّموا لذلك ما يلزم من تضحيات، لكنها كانت تضحيات بناء وتقدم لهذه الحضارة. ولعل التجربة الحضارية الإسلامية التاريخية مثال واضح على ذلك، في مقابل محاولات فارسية وبيزنطية ومغولية كبرى أخرى.
ومن أبرز نماذج هذه الإشكالية وارتباطاتها الوثيقة ما يظهر عند دراسة حالة حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة (2023-2025) بوصفها حالة قائمة، فقد اتُّخذت قرارات عربية، بعضها كان مواربا في البدايات، لكن بعضها تقدّم بالنص والوضوح لاحقا. ولكن الدراسة لهذه القرارات تبين أنها تربط تنفيذها ونجاحها بالمجتمع الدولي وبالولايات المتحدة والأمم المتحدة، ولا تشير بأي شكل لأي إجراء عربيّ أو إسلامي، فردي أو جماعي، لوقف عدوان إسرائيل ومطامعها التوسعية في المنطقة، والتي تهدد كل الدول العربية وحكوماتها وأنظمتها بلا أدنى مواربة، وعلنا وبتكرار مستمرّ، وعلى أعلى المستويات. ولذلك فإن هذه القرارات شهدت على الدوام العجز عن التطبيق، وغياب الإرادة الذاتية العربية للفعل المباشر، سواء بإسناد النضال الفلسطيني بكل الوسائل، أو بمعاقبة إسرائيل ومحاصرتها بكل الوسائل أيضا، حيث غاب أي ارتباط بما قد يخيف إسرائيل أن تجعلها تعيد الحسابات، خاصة وأن هذه القرارات كانت لها صفات تفرغها من محتواها وتُضعف أي أثر لها على العدوان الإسرائيلي، وأهمها:
- استبعاد خيار القوة بكل أشكالها باستمرار التأكيد على أن خيار السلام هو خيار استراتيجي، مما أعطى الطمأنينة لإسرائيل على أمنها ووجودها.
- استبعاد المقاطعة ووقف التطبيع وسحب السفراء ووقف التنسيق الأمني من قبل أكثر من 17 دولة عربية وإسلامية في ظل أجواء الحرب التي ترتكب فيها إسرائيل جرائم بحق الشعب الفلسطيني.
- الابتعاد عن دعم مقاومة الاحتلال المشروعة وفق القانون الدولي، أو اعتبار هذه المقاومة دفاعا عن النفس، كما يفعل الغرب بانتظام في تغطية جرائم إسرائيل التي تخرق القوانين الدولية ذات الصلة.
- وضوح العجز عن التأثير في الأحداث واتجاهاتها، ما أدى إلى التوسّع بالاستخفاف الإسرائيلي والأمريكي بالعرب حتى يتم طرح احتلال أرض عربية جديدة، وطرح تهجير مليوني مواطن من غزة إلى دول أخرى.
- العجز عن دعم صمود الشعب الفلسطيني والمقاومة في غزة والضفة، ولولا فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها عسكريا لكانت تملي اليوم الخريطة السياسية وشكل الحكم في العالم العربي بكل صفاقة.
العرب لا يفكرون من حيث المبدأ باستخدام القوة التي لديهم بمختلف أنواعها، باستثناء قوة دبلوماسية غير موحّدة وغير مدعومة بالقوة العملية، ولا تؤتي إلا أُكلا متواضعا، وتبين أن ثمة تخوفات وأوهاما كثيرة تحيط بالتفكير لدى العرب إزاء مواجهة إسرائيل، حيث نجحت الصهيونية ببناء قوة ضاغطة مهمة في الولايات المتحدة يحسب العرب لها حسابا
وبذلك، كشف التحليل أن العرب لا يفكرون من حيث المبدأ باستخدام القوة التي لديهم بمختلف أنواعها، باستثناء قوة دبلوماسية غير موحّدة وغير مدعومة بالقوة العملية، ولا تؤتي إلا أُكلا متواضعا، وتبين أن ثمة تخوفات وأوهاما كثيرة تحيط بالتفكير لدى العرب إزاء مواجهة إسرائيل، حيث نجحت الصهيونية ببناء قوة ضاغطة مهمة في الولايات المتحدة يحسب العرب لها حسابا في علاقاتهم مع الولايات المتحدة، ولا يضع العرب في حسبانهم أن أمريكا والغرب بحاجة ماسة للعلاقات مع العرب، وأن إسرائيل العدوانية إنما هي أداة تهديد وتخويف للعرب. كما أن النخب العربية تعتقد أن مصير الحكومات ومصالحها ترتبط بالعلاقات مع الولايات المتحدة والغرب أكثر من ارتباطها بامتلاك القوة.
لكنّ السؤال يبقى بحاجة إلى توقّف: ما دام العرب لا يفعّلون القوة المتاحة لديهم، ولا يفكّرون في استخدامها لحماية أنفسهم وأرضهم ودمائهم، فما قيمة هذه التخوّفات؟ خاصة وأنّ الواقع يشير إلى أن حال الدول العربية أنها دول منزوعة الأظافر أمام العدوان الإسرائيلي المدعوم علنا وبشكل كامل من قبل الولايات المتحدة والغرب، حتى مع ارتكاب جرائم حرب بحق العرب، الأمر الذي يشكّك في حقيقة هذه الأوهام التي يبيعها بعضهم لبعض، وتبيعها بعض الأدبيات الغربية الموجّهة لبعض النخب السياسية والنخب الحاكمة في العالم العربي، وهو ما يجعل الهيمنة والتحكّم في المصير العربي مرهونا بالإرادة الخارجية، وهو الأمر الذي يجب أن يفتح الباب للتفكير من جديد لدى النخب الحاكمة العربية، ولدى نخب المعارضة أو النخب المثقفة العربية، للتوجّه نحو صياغة مشروع قوميّ عربيّ يستند إلى القوة والمنعة لكل الدول العربية وشعوبها، ويوقف الصلف والإجرام الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني ويعيد له حقوقه المغصوبة، وينهي الاحتلال الإسرائيلي لأرضه، ويمنع إسرائيل من الهيمنة على المنطقة عسكريا وأمنيا واقتصاديا، وهو ما سيزيد من مثقال ميزان التوازن الدولي لصالح العرب، في ظل بدائل أخرى متاحة أمام العربي إقليميا ودوليا في القارات الست.
ورغم الحاجة إلى تعمّقٍ أكثر في أسباب ودوافع ومعوقات امتلاك القوة، غير أن ما قدّمه المقال يكفي لوضع العربة على السكة في التفكير والتخطيط العربي للعقد الحالي قبل فوات الأوان، وأهم ذلك ربط القرارات العربية بإجراءات فاعلة، خاصة في مواجهة المشروع الصهيوني والصلف الإسرائيلي المهدّد للعالم العربي، ولإنهاء خطره على الأمة، واسترجاع الحق الفلسطيني العربي المغصوب، وهو ما يمكن أن يُفرض على النظام الدولي في حال توفرت له أسباب الإرادة والعزيمة والبحث الجاد في الأمر.