قضايا وآراء

النخب الحداثية التونسية وسرديّة "الاستبدال العظيم"

"طرح لم يستطع "طوفان الأقصى" ومركزية "حماس" فيها أن يعدّله"- عربي21
قبل طوفان الأقصى، كان تعبير "الاستبدال العظيم" (Le Grand remplacement) يرتبط بالسرديات اليمينية المتطرفة في الغرب بدءا من فرنسا بلد "الأنوار" و"الاستعمار". والاستبداد العظيم عند القائلين به يعني وجود مؤامرة لاستبدال السكان البيض المنتمين إلى التراث اليهو-مسيحي بسكّان جدد ينتمون أساسا إلى الدول العربية والإسلامية (أفارقة جنوب الصحراء)، الأمر الذي يهدد وجوديا "القيم الغربية" أو ما يسمى بـ"النمط المجتمعي الغربي".

ولذلك، عرف الغرب -سواء في الفضاء اللائكي الفرنسي أو في غيره من الفضاءات العلمانية- تضييقات كبيرة استهدفت المسلمين على أساس الهوية. وهي تضييقات ازدادت حدةً بعد الطوفان الذي أظهر قوة الارتباط الاستراتيجي بين أغلب الدول الغربية والكيان الصهيوني، خاصة في مستوى النخب اليمينية الحاكمة. وقد جاء طوفان الأقصى حاملا معه مفهوما جديدا للاستبدال العظيم، وهو مفهوم أظهر زيف الأساطير الصهيو-إمبريالية المُعولمة/المعرّبة، بدءا من القانون الدولي وحل الدولتين، مرورا بـ"الجيش الأكثر أخلاقية في الشرق"، وانتهاءً بسرديات الأنظمة العربية ونخبها الوظيفية المحتكرة للقضايا "القومية" الكبرى.

رغم اختلاف السياسات الغربية تجاه الأقليات الدينية والعرقية، ورغم اختلاف نماذج العلمنة وهامش الحريات الفردية والجماعية الممنوحة للمسلمين، يبدو أن طوفان الأقصى قد أوجد استقطابا ثنائيا حادا في سياسات الدول الغربية. فمن جهة أولى يمكننا أن نتحدث عن أَوْربة أو أمركة النموذج اللائكي الفرنسي بالتضييقات المُمنهجة على المسلمين، خاصة منها أولئك الذين يجهرون بمناصرة المقاومة الفلسطينية أو برفض أن تُمحى هوياتهم الدينية بدعوى رفض الانفصالية وتهديد السلم الاجتماعي والقيم الغربية، ومن جهة ثانية نشهد تمردا شعبيا ورسميا (مثلما هو الشأن في إسبانيا وغيرها) على السردية الصهيونية وسائر السرديات المشتقة منها أو المتحالفة معها. فالطوفان -كما يظهر في عمليات سبر الآراء الموثوقة- قد حرّر جزءا كبيرا من الرأي العام الغربي من السردية الأحادية للصهيونية (شعب بلا أرض لأرض بلا شعب) وأثبت للغربيين بالصورة والصوت أن الكيان الصهيوني ليس إلا شكلا استعماريا لا يختلف في تصرفاته اللا إنسانية عن الاستعمار الغربي، بل هو يتفنن في التفوق عليه دون حسيب أو رقيب من الهيئات الأممية والقوى العظمى.

الأغلب الأعم من النخب "الحداثية" لم يستطيعوا التحرر من قبضة اليمين الغربي ومن "العنصرية الثقافية" أو "العنصرية التفاضلية" التي تحكم خطاباته في مستوى تعامله مع "الإسلام السياسي"

إنّ ما يعنينا في هذا المقال ليس الرأي العام الغربي ولا موقف النخب الغربية، بل يعنينا أن نكشف البنية العميقة لوعي أغلب النخب الحداثية بمختلف مرجعياتها وسردياتها الكبرى (السرديات الوطنية الليبرالية والقومية والماركسية) انطلاقا من علاقاتها الخفية بسردية الاستبدال العظيم بالمعنى اليميني المتطرف. فمبلغ علمنا أنه لا أحد من الدارسين قد اعتبر مواقف النخب الحداثية المشككة في الثورات العربية والرافضة للإسلام السياسي -خاصة في شكله الإخواني- والمتحالفة موضوعيا مع محور الثورات المضادة لوأد "الانتقال الديمقراطي"؛ مجرد مواقف مشتقة من سردية الاستبدال العظيم الغربية، أو بصورة أوضح مجرد "تعريب" لمنطق تلك السردية. ولا نعلم أيضا أن هناك من ربط بين نظرية الاستبدال العظيم عند اليمينيين في الغرب -بدءا من فرنسا- بالسردية الصهيونية القائلة بأن مطلب الفلسطينيين -والعرب عموما- حتى بعد قمة بيروت سنة 2002 (أي القمة العربية التي تبنت خيار التطبيع، أو الأرض مقابل السلام كما اقترح ولي العهد السعودي آنذاك عبد الله بن عبد العزيز) هو "رمي اليهود في البحر"؛ وليس إقامة دولة مستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس (وهو ما قبلت به حماس ذاتها ولكنها ظلت تصنّف حركة إرهابية في الكيان وفي العديد من الدول الغربية).

بمعنى ما، فإن الأطروحات اليمينية في الغرب هي "تهويد" للوعي السياسي، وهو ما يفسر جزئيا انتقال عداء اليمين إلى المسلمين حصريا بعد أن كان في بداياته متهما بـ"معاداة السامية". وإذا كانت أسطورة "التراث اليهو-مسيحي" -مضافا إليها سردية الحداثة المشتركة للغرب وإسرائيل في مقابل العرب- قد سمحت لليمين بتعديل مواقفه السلبية من "اليهود" والانخراط الفاعل في الدفاع عن المشروع الصهيوني باستهداف كل الأصوات المناهضة له من المسلمين وغيرهم، فإن الأمر يختلف إذا ما أردنا فهم مواقف أغلب النخب الحداثية من جهة تقاطعها موضوعيا مع سردية الاستبدال العظيم -بشكليها الصهيوني والغربي- وتنكّبها عن الإمكانات التحررية الهائلة التي فتحها "الطوفان العظيم" للعقل قبل الأرض.

وإذا كان العديد من رموز النخب الحداثية في تونس قد أخذوا مسافة نقدية من سردية "الاستبدال العظيم" القائمة على "العنصرية العرقية" والمرتبطة بهجرة الأفارقة من جنوب الصحراء إلى تونس ورفضوا الانخراط في الخطابات الشعبوية -بما في ذلك خطاب سلطة "تصحيح المسار"- المحرّضة على الأفارقة بدعوى حماية التركيبة الديموغرافية للبلاد، فإنّ الأغلب الأعم من النخب "الحداثية" لم يستطيعوا التحرر من قبضة اليمين الغربي ومن "العنصرية الثقافية" أو "العنصرية التفاضلية" التي تحكم خطاباته في مستوى تعامله مع "الإسلام السياسي"، خاصة في شكله الإخواني.

إذا كانت العنصرية الثقافية في مجالها التداولي الأصلي لا تنفصل عن العنصرية العرقية ولكنها تحاول إدارتها بمفردات "ثقافية" أساسها التمايز الجوهري بين الحضارات أو الثقافات، فإن تلك العنصرية في الخطابات "الحداثية" التونسية لا ترتبط باختلاف العرقيات وتفاضلها، بل ترتبط باختلاف السرديات ووجود علاقة تراتبية نهائية وغير قابلة للمراجعة بينها. ولكنّ غياب المحدد العرقي لا يعني انفصال أغلب الخطابات الحداثية التونسية عن مرجعيتها الغربية الاستعلائية والإقصائية، بل يعني فقط تضخم المحدد "الثقافوي" واحتلاله موقع المحدد الأبرز للصراعات الاجتماعية في مختلف المجالات.

فـ"الإسلامي" -خاصة الإخواني- هو النقيض الموضوعي للحداثي، وليس شريكه أو نظيره، وهو الخطر الوجودي الأهم على "النمط المجتمعي التونسي" وعلى مكاسب المواطنين/المواطنات وحرياتهم الفردية والجماعية. وهو طرح لم يستطع "طوفان الأقصى" ومركزية "حماس" فيها أن يعدّله في مستوى العلاقة بحركة النهضة أو في مستوى مراجعة الموقف الداعم لانقلاب السيسي وللأنظمة القمعية التي تدعي "الممانعة"، أو في مستوى التحالف الموضوعي مع محور التطبيع والثورات المضادة.

كنا في مقال سابق (الحرب على غزة أو الاستبدال العظيم) قد بيّنا ما نعنيه بهذا التعبير (كسر السياج الطائفي بين السنة والشيعة، خلق جماعات ضغط مؤيدة للحق الفلسطيني في الغرب، نسف الأساطير المؤسسة للعولمة في لحظتها المتصهينة، كشف الطابع الوظيفي لما يسمى بالدول الوطنية ونخبها الدينية والعلمانية على حد سواء، نزع القداسة الزائفة عن محتكري القضايا الكبرى، مساءلة تراث سايكس بيكو وفضح عملائه من "أصحاب القضايا الصغرى".. الخ). وقد أثبتت مسارات الطوفان أن التعويل عليه لخلخلة الوعي السياسي عند أغلب النخب العربية -بإسلامييها وعلمانييها- هو رهان خاسر.

بصرف النظر عن المزايدات الكلامية، فإن النخب العربية بمختلف أيديولوجياتها قد خذلت الطوفان ونأت بسردياتها عن أن تكون جزءا من القوى المشكلة للاستبدال العظيم

فإذا كان الغرب ونخبه الثقافية والفنية والسياسية يتغير بصورة لا تخفى، فإن الأمر يتخلف عند نخبنا وأنظمتنا. فأغلب الإسلاميين ما زالوا أسرى التسييجات الطائفية التراثية، كما أنهم -في أطروحاتهم السياسية- ما زالوا يفكرون بمنطق مذهبي يتزيّا -بدرجات مختلفة من النجاح- بمفردات العقل السياسي الحديث وبرهانات الوعي الديكولونيالي الذي يخرجهم من دور "البدل" الإسلامي لـ"مبدل منه" علماني؛ باعتباره سقف تحركهم في إطار منظومات الاستعمار الداخلي. أمّا "الحداثيون" فإن أغلبهم ما زال يعيش وهم "التفكير الحر"، وهم في الحقيقة مجرد أصداء لأصوات صهيو-إمبريالية تحدد لهم قضاياهم وحلول تلك القضايا، بل تحدد لهم التناقض الرئيس والتناقض الهامشي واقعيا لا خطابيا، أي تجعلهم مجرد متاريس لعرقلة أي مشروع تحرري مواطني جامع.

بصرف النظر عن المزايدات الكلامية، فإن النخب العربية بمختلف أيديولوجياتها قد خذلت الطوفان ونأت بسردياتها عن أن تكون جزءا من القوى المشكلة للاستبدال العظيم. وإذا ما أردنا استعمال المجاز الذي لا يضادد الحقيقة، فإننا سنقول إن تلك النخب لم تر في أريكة السنوار حصانَ نابليون الذي يبشّر بعالم جديد لا مكان فيه، ولم تر في السنوار ذاته "روح العالم.. متمركزا على نقطة واحدة.. لكي يمتد على العالم كله ويهيمن عليه" (من رسالة هيغل إلى صديقه نيتامير، ونحن ننقلها من مقال هاشم صالح الصادر في موقع الأوان بعنوان: من هيغل ونابليون إلى هابرماس وبوش).

ونحن نزعم أن جذر الاختلاف النوعي بين الوعي الغربي ووعي نخبنا العربية يتموضع في هذه النقطة الرمزية بالذات: لقد رأى الكثير من الغربيين في المقاومة ورموزها مشروعا إنسانيا يضادد العولمة المتصهينة، ولم يروا فيها مقاومة إخوانية، بينما نظر العرب -بإسلامييهم وعلمانييهم- إلى المقاومة انطلاقا من سردياتهم الكبرى المفوّتة، فلم يروا إلا ظلها وعجزوا عن نفعها بشيء يتجاوز سقف المزايدات الخطابية والادعاءات الذاتية الموجهة للاستهلاك الداخلي ولتحسين شروط التفاوض مع السلطات، أو لاسترضاء الرأي العام أو القوى الإقليمية والدولية انتظارا لأية ترتيبات سياسية جديدة تعيد هندسة ميراث سايكس-بيكو. وهو ما نجزم بأنه سيجعل من الأغلب الأعم من النخب الحالية جزءا من المبدل منه لا من "البدل" العظيم المنذور لنسف المرحلة الإمبريالية المتصهينة.. ولو بعد حين.

x.com/adel_arabi21