لم تعد مساحيق
التجميل والرطانة البلاغية قادرة على إخفاء حالة القلق التي استبدت برئيس وزراء
دولة الإبادة بنيامين
نتنياهو، فمن أثينا إلى إسبرطة مرورا بأورشليم وروما؛ باتت
لعبة الكلمات والرموز الاستعمارية حول الحضارة والبربرية بالية وعاجزة عن طمس
التداعيات الجيوسياسية لزلزال "طوفان الأقصى"، فعقب عامين من حرب
الإبادة على
غزة والسعي لمحو اسم فلسطين وشعبها، فشلت المستعمرة الاستيطانية في
تحقيق الأهداف الخيالية بالنصر المطلق وتغيير الشرق الأوسط، وبدأت المستعمرة
اليهودية بتقبل وضعها كدولة معزولة ومنبوذة عالميا، وقد اعترف نتنياهو بأن ضع المستعمرة
اليهودية بات كـ"إسبرطة عظمى" عصرية، وذلك في خطاب ألقاه في 15 أيلول/ سبتمبر
الماضي في مؤتمر اقتصادي بالقدس.
تحققت نبوءة
نتنياهو حول "إسبرطة عظمى" معزولة بصورة مشهدية في مقر الجمعية العامة
للأمم المتحدة في 26 أيلول/ سبتمبر الماضي، فحين شرع رئيس دولة الإبادة بخطابه غادر
عشرات المندوبين مقر الجمعية العامة للأمم المتحدة احتجاجا على الإبادة الجماعية
في غزة. وخلت القاعة من الحضور، فلم تكن الرطانات المتعجرفة كافية لحجب حرب إبادة
مستمرة خلّفت حتى اللحظة أكثر من 231 ألف فلسطيني بين شهيد وجريح معظمهم أطفال
ونساء، وما يزيد على 11 ألف مفقود، إضافة إلى مئات آلاف النازحين ومجاعة أزهقت
أرواح كثيرين معظمهم أطفال، فضلا عن الدمار الشامل ومحو معظم مدن القطاع ومناطقه
من على الخريطة.
جاء رد حركة حماس على خطة ترامب- نتنياهو صادما وذكيا وأعاد نتنياهو إلى العزلة، حيث قالت "لا" للخطّة كما هي، لكن "نعم" للمفاوضات، وسرعان ما احتفى ترامب برد حماس وتبعه قادة دول العالم. وقد طالبت حماس بتعديلات جوهرية على الخطّة، تتضمن إعادة التركيز على حل شامل وعادل للقضية الفلسطينية، وأنها غير مستعدّة للموافقة على نزع سلاحها وتسليمه
بعد أقل من أسبوع
من ظهوره في الأمم المتحدة، راهن نتنياهو على شريكه في الإبادة الرئيس الأمريكي
دونالد ترامب لإنقاذه بالخروج من
العزلة، حيث أعلن ترامب عن خطة خيالية إمبريالية
استعمارية من عشرين نقطة ترسم مستقبل القطاع الذي تصوّره الجمل الافتتاحية كخطة سلام
بتحويل غزة إلى "منطقة خالية من التطرف" و"الإرهاب"، مصحوبة
بوعود غامضة بإعادة التطوير، ومزيج من الغطرسة الاستعمارية والبراغماتية الفجة،
ورطانات التقدم الرأسمالية، كما لو أن عقودا من الاحتلال وعمليات الضم وسرقة
الأراضي والإبادة الجماعية يمكن محوها ببساطة بخطابات فارغة وجرة قلم، في شرق أوسط
خيالي من صنع ترامب ونتنياهو يتمحور حول المال والأعمال، حيث يُستخدم مفهوم
"إعادة التطوير" في سياق رؤيته العقارية الاستثمارية كأداة تفاوضية بلاغية،
مليئة بالهراء والوعود الرأسمالية الدموية التي تتجاوز بداهات العدالة السياسية
وحق تقرير المصير والمسلمات الأخلاقية والحقيقة الإنسانية، حيث يُصوّر الدمار
كفرصة للاستثمار.
وتبدو الخطة التي
وضعها ترامب مع فريقه العقاري الاستثماري من ويتكوف إلى كوشنر تقتصر على الأعمال
التجارية من خلال عقلية إمبريالية استعمارية، حيث تقترح الخطة إعادة إعمار من قِبل
المحتلين على نفس الأنقاض التي صنعوها بأنفسهم.
وقد سارع نتنياهو
الذي شارك في وضع خطة ترامب إلى الإشادة بشريكه في الإبادة الذي أنقذه من حالة
العزلة، وقال: "بدلا من أن تعزلنا حماس، قلبنا الأمور وعزلناها. والآن، يضغط
العالم أجمع، بما في ذلك العالم العربي والإسلامي، على حماس لقبول الشروط".
لقد جاء رد حركة
حماس على خطة ترامب- نتنياهو صادما وذكيا وأعاد نتنياهو إلى العزلة، حيث قالت "لا"
للخطّة كما هي، لكن "نعم" للمفاوضات، وسرعان ما احتفى ترامب برد حماس
وتبعه قادة دول العالم. وقد طالبت حماس بتعديلات جوهرية على الخطّة، تتضمن إعادة
التركيز على حل شامل وعادل للقضية الفلسطينية، وأنها غير مستعدّة للموافقة على نزع
سلاحها وتسليمه، وهو شرط أساسي في خطة ترامب، وأن ذلك رهن بتحقق دولة فلسطينية
تتولى حصرية السلاح. وقد عارضت نشر قوة دولية في غزة، باعتباره شكلا جديدا من
الاحتلال والاستعمار، كما عارضت مطلب تسليم جميع الرهائن دفعة واحدة.
وحسب الجنرال
الإسرائيلي إسحاق بريك فإن "العواقب المتوقعة على إسرائيل، الخاسر الأكبر من
عدم توقيع الاتفاق، وخيمة. فلن يعود المختطفون إلى ديارهم، وسيُقتل ويُجرح المزيد
من الجنود إذا استمر القتال، ولن تُهزَم حماس، بل ستحقّق أهدافها الاستراتيجية
التي لم تتخيّل يوما تحقيقها، وتتمثل في: عزل إسرائيل عن العالم، وقطع علاقاتها مع
الدول العربية التي وقّعت اتفاقيات سلام معها، وقطع الطريق أمام توقيع اتفاقات سلام
مع دول أخرى، واستمرار انهيار دولة إسرائيل في جميع المجالات: الأمن، والاقتصاد،
والأكاديميا، والعلوم، والعلاقات الدولية، والطب، والتعليم، وانهيار المجتمع".
في خطاب إسبرطة
العظمى؛ جادل نتنياهو بأن على إسرائيل قبول وضعها كدولة محاصرة معزولة بصورة دائمة،
وشدد على الاستعداد الدائم لشن حروب لا نهاية لها. وفي لحظة صدق من النبوءة التي
تحققت بذاتها، تقبّل نتنياهو واقع عزلة إسرائيل الدبلوماسية والتجارية العالمية
قائلا: "لا يوجد خيار؛ في السنوات القادمة، على الأقل، سيتعين علينا التعامل
مع هذه المحاولات لعزلنا".
وطلب تحويل
المزيد من الأموال من البنية التحتية إلى الحرب، ووصف هذا الخيار بأنه قدر لا مفر
منه، كما لو أن وضع إسرائيل المنبوذة ليس من صنعه، حيث ألقى نتنياهو باللوم على
الأجانب في عزلة إسرائيل المتزايدة، والتي وصفها بأنها حصارٌ تُدبّره بضع دول.
وقال: "إحداها الصين، والأخرى قطر، وهما تُنظّمان هجوما على شرعية إسرائيل في
وسائل التواصل الاجتماعي في العالم الغربي والولايات المتحدة". وأضاف أن
التهديد بالنسبة للغرب مختلف، ولكنه بنفس القدر من الخطورة. وصرح نتنياهو:
"في أوروبا الغربية أقليات إسلامية كبيرة. إنهم يُعبّرون عن آرائهم بصوت عالٍ،
كثير منهم ذوو دوافع سياسية. إنهم يتحالفون مع حماس، ويتحالفون مع إيران"، وقال: "إنهم يضغطون على حكومات أوروبا
الغربية، وكثير منها تتعامل بلطف مع إسرائيل، لكنها ترى أنها تتعرض لحملات من
الاحتجاج العنيف والترهيب المستمر"، في إشارة بشكل رئيس إلى المملكة المتحدة
وفرنسا.
أثار خطاب
نتنياهو بتحويل إسرائيل إلى إسبرطة المزيد من القلق حول مستقبل المستعمرة اليهودية
ونبوءات العزلة، والتوجه نحو مجتمع أكثر عسكرة، واستقلال جزئي مع خيارات تجارية
محدودة، والاعتماد على الإنتاج المحلي، وجوبهت نظرية إسبرطة العظمى بردود فعل غاضبة
وعنيفة بين الإسرائيليين الذين يشعرون بقلق متزايد إزاء احتمال التحول إلى دولة
منبوذة. وسرعان ما انخفضت أسهم بورصة تل أبيب، وتراجع الشيكل مقابل الدولار
الأمريكي، ولاحظ المتداولون المطلعون على التاريخ القديم أن الإسبرطيين قاتلوا
بشراسة، لكنهم خسروا في النهاية.
وأعلن منتدى
الأعمال الإسرائيلي، الذي يمثل عمال 200 شركة كبرى، قائلا: "لسنا
إسبارطة"، محذرا من أن سياسات نتنياهو تقود البلاد "نحو هاوية سياسية
واقتصادية واجتماعية تُهدد وجودنا في إسرائيل". واحتج أرنون بار ديفيد، رئيس
نقابة الهستدروت، قائلا: "لا أريد أن أكون إسبارطة.. نحن نستحق السلام.
المجتمع الإسرائيلي منهك، ومكانتنا في العالم سيئة للغاية".
وطالب زعيم المعارضة يائير لابيد بمعرفة ما يعنيه نتنياهو بقوله إن إسرائيل
"أصبحت" معزولة. وقال لابيد في خطاب ألقاه في المعهد الدولي لمكافحة
الإرهاب: "هل كانت قوة عليا سببا في ذلك؟ أنتم سببتموه".
تعكس فكرة "إسبرطة العظمى" قراءة خاطئة للتاريخ وتوقعا مُقلقا لمستقبل إسرائيل على حد تعبيره. فهذا التشبيه ليس تشبيها يوحي بالقوة، بقدر ما هو تشبيه يعكس انعدام الأمن. وإذا أُخذ على محمل الجد، فإنه يُخاطر بتوجيه إسرائيل نحو نفس المصير الذي لاقته إسبرطة الأصلية
كانت مقاربة نتنياهو
لوضع إسرائيل المعزولة كارثية، ولفتت مقارنته الانتباه إلى إسبرطة، المدينة-الدولة
اليونانية القديمة المعروفة بعزلتها وعسكرتها. فالمؤرخون يحذرون من أن أوجه
التشابه ليست واضحة تماما، فقد كانت إسبرطة، الواقعة في بيلوبونيز جنوب اليونان،
إحدى أقوى القوى في العصور القديمة، واشتهرت بثقافتها العسكرية الصارمة ونمط
حياتها المتقشفن على عكس أثينا، بديمقراطيتها وتجارتها، فكانت إسبرطة تحت حكم ملوك
وشيوخ ومسؤولين أحكموا قبضتهم على المجتمع. وقال المؤرخ إيراد مالكين إن هذا
التشبيه بإسبرطة مُغرٍ لكنه في نفس الوقت بالغ الخطورة، حيث تعكس فكرة "إسبرطة
العظمى" قراءة خاطئة للتاريخ وتوقعا مُقلقا لمستقبل إسرائيل على حد تعبيره.
فهذا التشبيه ليس تشبيها يوحي بالقوة، بقدر ما هو تشبيه يعكس انعدام الأمن. وإذا
أُخذ على محمل الجد، فإنه يُخاطر بتوجيه إسرائيل نحو نفس المصير الذي لاقته إسبرطة
الأصلية: تآكل الدولة والمجتمع، وفي النهاية، الهزيمة العسكرية. ولم تفلح محاولات
نتنياهو في الرد على الانتقادات من إزالة القلق وإعادة الثقة وتحاوز العزلة.
لا تقتصر عزلة
إسرائيل بسبب حرب الإبادة على مجرد انسحاب معظم وفود الدول من قاعة الأمم المتحدة أثناء
خطابه النرجسي الاستعلائي، فقد حذّر رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت، من
عواقب وخيمة، وعبّر لصحيفة بوليتيكو عن أسفه قائلا: "لقد أصبحنا دولة
منبوذة". وانضمت أصوات إسرائيلية إلى الانتقادات، وصرح زعيم المعارضة يائير
لابيد لصحيفة وول ستريت جورنال بأن الخطاب كان مُفتعلا وخاليا من أي مقترحات جادة
لإنهاء الحرب. وبدلا من وقف ما أسماه "التسونامي الدبلوماسي" الذي
تواجهه إسرائيل، حذّر لابيد من أن نتنياهو ربما يكون قد زاد الأمر سوءا. وأكد
مراسل صحيفة نيويورك تايمز في القدس أن تصريحات نتنياهو العدوانية، التي أعقبت
سلسلة من الاعترافات بالدولة الفلسطينية، سلّطت الضوء على "عمق عزلة إسرائيل
الدولية".
ثمة قناعة واسعة بعد
مرور أكثر من عامين على بدء حرب الإبادة في قطاع غزة؛ بأن بنيامين نتنياهو، يعارض خطط
وقف إطلاق النار لأسبابه الشخصية والسياسية، للتهرب من مسؤوليته حول الإخفاقات
التي أدت إلى السابع من أكتوبر، وتورطه في العديد من قضايا الفساد والتجاوزات
المالية. فاستمرار الحرب تسمح لنتنياهو بتهميش إجراءات هذه القضايا القضائية،
وإطالة أمد بقائه السياسي قدر الإمكان. ومن الاعتبارات المهمة؛ الحفاظ على
الائتلاف اليميني المتطرف، فنتنياهو مُجبر على مجاراة هذه التيارات السياسية الأيديولوجية
للحفاظ على بقاء واستمرار حكومته الهشة.
عندما ألقى
نتنياهو خطابه في قاعة شبه فارغة في الجمعية العامة للأمم المتحدة احتجاجا على
الإبادة الجماعية في غزة، كانت الاحتجاجات خارج مقر الأمم المتحدة تملأ شوارع
نيويورك. وتجمّع الآلاف في ساحة تايمز سكوير، رافعين أعلام فلسطين ومرددين هتافات
"إبادة جماعية"، وهي صفة باتت تلازم الكيان الإسرائيلي، فقد صدرت اتهامات
بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة،
ومنظمة العفو الدولية، ومنظمة بتسيلم الإسرائيلية، والرابطة الدولية لعلماء
الإبادة الجماعية. وأصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات توقيف بحق نتنياهو
ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت بتهم تشمل التجويع كأسلوب حرب، وارتكاب جرائم ضد
الإنسانية. وفي الوقت نفسه، تُجري محكمة العدل الدولية مداولات بشأن قضية الإبادة
الجماعية المرفوعة من جنوب أفريقيا ضد إسرائيل.
إن تحول
المستعمرة اليهودية إلى دولة منبوذة بعد حرب الإبادة في غزة، تعمقت مع الغطرسة
الاستعلائية والأوهام الاستعمارية بإعادة تشكيل الشرق الأوسط والحديث عن إسرائيل
الكبرى وفرض السلام بالقوة، حيث زادت العمليات العسكرية الإسرائيلية في الخارج من
عزلتها. فقد أثارت الضربة العسكرية في الدوحة إدانة من قطر، وجامعة الدول العربية،
ومنظمة التعاون الإسلامي ومعظم دول العالم. وأثار هجوم سابق داخل إيران غضبا في
جميع أنحاء العالم الإسلامي، وأدانته منظمة شنغهاي للتعاون. ولقيت الهجمات
العسكرية على سوريا إدانة واسعة.
وإلى جانب
العمليات العسكرية الاستعراضية، تتآكل شراكات إسرائيل التكنولوجية: فقد أفادت
تقارير بأن مايكروسوفت أوقفت خدماتها عن الوحدة 8200، وهي وحدة الاستخبارات
الإلكترونية النخبوية الإسرائيلية، بسبب مخاوف تتعلق بالمراقبة مرتبطة بالحرب.
لعل أخطر مظاهر
العزلة الإسرائيلية جاءت من الدول الأوروبية التي طالما ساندت ودعمت المستعمرة
اليهودية. ففي الثامن من آب/ أغسطس، أعلن المستشار الألماني فريدريش ميرتس أنه لن
تتم الموافقة على أي صادرات عسكرية صالحة للاستخدام في غزة. وفرضت دول أوروبية
أخرى -منها فرنسا وإسبانيا وإيطاليا وهولندا والمملكة المتحدة- قيودا على مبيعات
الأسلحة إلى إسرائيل، وألغت إسبانيا صفقة بقيمة 700 مليون يورو تقريبا لشراء
قاذفات صواريخ من شركة إلبيت سيستمز، أكبر شركة دفاع إسرائيلية خاصة.
وتنامى الاعتراف
بدولة فلسطين بشكل كبير، حيث باتت أكثر من 150 دولة تعترف الآن بالدولة
الفلسطينية، مع إعلانات حديثة من أستراليا وكندا وفرنسا والمملكة المتحدة
والبرتغال. وشكّل الإعلان الفرنسي السعودي في الأمم المتحدة، الداعي إلى وقف إطلاق
النار والاعتراف بفلسطين، تحديا مباشرا لاحتكار واشنطن طويل الأمد للوساطة. وسرعان
ما أطلق ناشطون "أسطول الصمود العالمي"
بمشاركة 40 دولة لكسر حصار غزة بحرا، وعمّقت موجة المظاهرات في عدد كبير من مدن
العالم للاحتجاج على طريقة تعامل قوات الاحتلال مع أسطول الصمود؛ من عزلة إسرائيل.
الزلزال الجيوسياسي الذي أحدثه "طوفان الأقصى" أطاح بكل الأساطير والخرافات المؤسسة للدولة الاستعمارية الصهيونية، وجرد المستعمرة اليهودية من كافة الاكسسوارات الزائفة وباتت عارية وحائرة ومنبوذة؛ تبحث عن أسطورة بائدة كإسبرطة العظمى التي كانت نهايتها وخيمة
رغم كل الخطابات
البلاغية التي لا تكف آلة خبير الكذب نتنياهو عن بثها، فإن حقيقة وجود كيان
استيطاني استعماري عنصري يرتكب حرب إبادة بحق الشعب الفلسطيني لا يمكن طمسها،
فالإصرار على أن "العالم يحتقرنا منذ ألفي عام، وأن الكراهية لن تزول"،
وخطاب حرب الحضارة ضد البربرية والتطرف والإرهاب، لم يعد مقنعا، والأهم أن إسرائيل
تقوض نفسها بنفسها بخسارة رعاتها الإمبرياليين، فلم تعد سردية الضحية المطلقة
فاعلة، ولا الملاذ الآمن، ولا الاستثمار في الإسلاموفوبيا، وحصرية الإرهاب
الإسلامي، ولا المتاجرة باستغلال معاداة السامية، فقد تكشفت حقيقة إسرائيل كدولة
تابعة لا يمكن أن تستمر دون دعم الولايات المتحدة والدول الأوروبية. فالاقتصاد الإسرائيلي
لا يمكنه الصمود بدون الرأس المال الأجنبي، وتعتمد ترسانة إسرائيل على الدعم
الأمريكي، وتعتمد مكانتها الدبلوماسية على القوى الغربية. ولا جدال في أن دولة
إسرائيل هي نموذج غير قابل للحياة دون دعم عالمي متواصل على صعيد رأس المال والسلاح
والتكنولوجيا والشرعية، وهو ما سيتعرض لخطر الانهيار بمجرد انقطاع الدعم وتوقف
تدفقه.
خلاصة القول أن
إسرائيل بعد عامين من حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة أصبحت دولة
منبوذة ومعزولة، وظهرت على حقيقتها دولة استعمارية استيطانية عنصرية، وخسرت سردية
الضحية الأبدية ومقولة الديمقراطية الفريدة، وخرافة الملاذ الآمن، فلطالما قدمت
إسرائيل نفسها كقاعدة متقدمة للغرب الإمبريالي الحضاري في شرق أوسط همجي بريري
متطرف إرهابي، ولا تكف دولة الإبادة الاستعمارية عن استحضار تراث مختلق يهودي
مسيحي من أثينا العقلانية إلى أورشليم الروحانية. فقد شكلت أثينا في المخيال
الغربي ركيزة رمزية للحضارة الغربية، كمدينة- دولة تقوم على الديمقراطية والعقلانية
والفلسفة، وشكلت أورشليم ركيزة مدينة الله الروحانية التي تقوم على الأنبياء
والشريعة والأخلاق.
وقد تقمص مؤسسو
الصهيونية ودولة المستعمرة الأوائل صورة إسرائيل كأثينا، وروّجت لنفسها كمدينة-
دولة حضارية عالمية متوسطية، وعقلانية ديمقراطية في صحراء من الاستبداد والعنف
والهمجية والتخلف العربي الإسلامي، واستحضرت صورة أورشليم النبوية المتخيلة، لإضفاء
قداسة مزيفة على حقيقة ديانة عنصرية تقوم على إله عرقي خطير منح عرقا متوهما صفة
أبدية كشعب الله المختار دون استحقاق.
ولكن الزلزال
الجيوسياسي الذي أحدثه "طوفان الأقصى" أطاح بكل الأساطير والخرافات
المؤسسة للدولة الاستعمارية الصهيونية، وجرد المستعمرة اليهودية من كافة الاكسسوارات
الزائفة وباتت عارية وحائرة ومنبوذة؛ تبحث عن أسطورة بائدة كإسبرطة العظمى التي
كانت نهايتها وخيمة.
x.com/hasanabuhanya