لم تعد
المواجهة القائمة بين
إيران و"
إسرائيل" مجرّد حلقة جديدة في مسلسل
التصعيد العسكري الذي ألفته المنطقة؛ ما يجري اليوم أعمق من ذلك بكثير، نحن أمام
تحوّل تاريخي في شكل النظام الإقليمي، ومعركة يراد لها أن تكون بوابة لشرق أوسط
جديد يُعاد فيه ترتيب القوى، وتُرسم فيه خرائط النفوذ على نحو غير مسبوق منذ
الحرب
العالمية الأولى.
إنها ليست
حربا تقليدية، بل مشروع استراتيجي شامل، تدور رحاه من طهران إلى غزة، مرورا ببيروت
وبغداد وصنعاء. وفي قلب هذا المشروع، تسعى واشنطن وتل أبيب، بتنسيق مع عواصم
أوروبية وعربية، إلى إعادة ضبط الإيقاع السياسي والعسكري في المنطقة، تحت عنوان
جذّاب لكنه مُضلّل: "الاستقرار".
بين العزل
الإيراني والتمكين الإسرائيلي
ليست حربا تقليدية، بل مشروع استراتيجي شامل، تدور رحاه من طهران إلى غزة، مرورا ببيروت وبغداد وصنعاء. وفي قلب هذا المشروع، تسعى واشنطن وتل أبيب، بتنسيق مع عواصم أوروبية وعربية، إلى إعادة ضبط الإيقاع السياسي والعسكري في المنطقة
ليست
مصادفة أن يظهر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الأمم المتحدة عام
2023، حاملا خريطة جديدة للشرق الأوسط؛ خريطة تُهمّش إيران بالكامل، وتضع
"إسرائيل" في موقع القيادة الإقليمية، محاطة بدول
عربية مُطبّعة.
هذه
الخريطة لم تكن مجرّد أداة دعائية، بل جاءت لتؤكد أنَّ هناك من يحاول إعادة تعريف
حدود النفوذ والسيادة في المنطقة، وأن اتفاقية سايكس بيكو لم تعد المرجعية الوحيدة
في رسم الجغرافيا السياسية.
أكثر من
ذلك، فإن تصريحات الرئيس الأمريكي ترامب، التي قال فيها إنه يرى "إسرائيل
صغيرة الحجم" ويطمح إلى "توسيعها"، لم تكن زلّة لسان، بل كانت
إشارة مبكّرة إلى أن ثمة مشروعا يُصاغ في الكواليس، تقوده واشنطن وتنفذه تل أبيب،
لإعادة تشكيل المنطقة على أسس مختلفة جذريا.
نهاية
"الطائفية الوظيفية"
على مدى
عقود من الزمن، استُخدمت الطائفية كأداة تفتيت ناعمة داخل المجتمعات العربية،
واستفادت إيران بوضوح من هذا المناخ، مُدخلة خطابها المذهبي إلى عمق العراق وسوريا
ولبنان واليمن. لكن يبدو أن هذه الورشة الطائفية قد وصلت إلى نهايتها، وأن الإذن
الدولي باستمرار هذا النموذج قد سُحب.
المرحلة
القادمة، كما يظهر، تسير نحو مقاربات جديدة تقوم على تحالفات المصالح المباشرة لا
على الانتماءات المذهبية. وقد تكون إعادة تأهيل إسرائيل إقليميا جزءا من هذا
التصور، لا باعتبارها "عدوا"، بل "شريكا أمنيا" في مواجهة
إيران التي تُقدّم الآن كتهديد وجودي مشترك.
صراع على
النظام لا على النفوذ فقط
يُخطئ من
يعتقد أن المسألة تتعلق بمجرد تقليص نفوذ إيران، الحقيقة أعمق: نحن أمام صراع على
هوية النظام الإقليمي نفسه. هل تكون دول المنطقة فاعلة في تقرير مصيرها، أم مجرّد
ساحات يتقاطع فيها النفوذ الأمريكي والإسرائيلي؟
وهل
تستطيع القوى العربية استعادة بعض من وزنها السياسي، أم أنها ستُدمَج ضمن معادلات
تُكتب خارج حدودها، وتُفرض عليها كأمر واقع؟
الغرب لا
يريد تفكيك الدول العربية هذه المرة، بل إعادة تعريف وظائفها: من مراكز قرار إلى
محطات عبور للنفوذ والاقتصاد والسيطرة. ضمن هذا الإطار، يتم التعامل مع إيران
كعقبة تجب إزاحتها، لا فقط بسبب طموحها النووي، بل لأنها آخر قوة إقليمية تعلن
رفضها الصريح للمنظومة الجديدة.
من سيكتب
مستقبل المنطقة؟
ما يُحاك خلف دخان الحرب اليوم، قد يُحدّد شكل النظام السياسي والأمني لعقود مقبلة، وإن لم نشارك في صياغته، فسيفرض علينا كما فُرضت حدود سايكس بيكو قبل قرن
السؤال
الذي يجب أن يُطرح اليوم، ليس فقط: ماذا تريد واشنطن أو طهران؟ بل: ماذا نريد نحن
كعرب؟ هل نملك الإرادة السياسية لصياغة موقع لنا في خريطة
الشرق الأوسط الجديد؟ أم
سنبقى مجرّد أدوات أو ساحات تصفية حسابات بين قوى أكبر؟
للأسف،
يبدو أن كثيرا من الدول العربية قد تخلّت عن طموح الفعل، واكتفت بدور التكيّف مع
إيقاع الخارج، سواء كان أمريكيا، إسرائيليا، أو حتى إيرانيا.
لكن
المنطقة لا تحتمل هذا الترف بعد الآن، فما يُحاك خلف دخان الحرب اليوم، قد يُحدّد
شكل النظام السياسي والأمني لعقود مقبلة، وإن لم نشارك في صياغته، فسيفرض علينا
كما فُرضت حدود سايكس بيكو قبل قرن.
لسنا أمام
مجرد حرب، بل أمام لحظة تأسيسية لنظام إقليمي جديد، لحظة ستُحدَّد فيها هوية
الفاعلين، وحدود الأدوار، وأشكال النفوذ. وإيران ليست وحدها المعنيّة بالإقصاء أو
التهميش، بل العالم العربي بأسره.
فإمّا أن
نملك الشجاعة السياسية لنكون طرفا في صناعة هذا المستقبل، أو نبقى في الهامش،
بينما يكتب الآخرون خرائطنا باسم "السلام والاستقرار".