كتاب عربي 21

التاريخ ينقل بندقيته على الكتف الآسيوي

نور الدين العلوي
"مسافة قُطعت بصبر وبلا جعجعة خطابية، منهجية عبقرية مستندة إلى عقل عملي صنعته ثقافة المثابرة والصبر"- التلفزيون الصيني
"مسافة قُطعت بصبر وبلا جعجعة خطابية، منهجية عبقرية مستندة إلى عقل عملي صنعته ثقافة المثابرة والصبر"- التلفزيون الصيني
هيمنت أوروبا على تاريخ العالم لمدة خمسة قرون ولا تزال بها بقايا قوة، لكن التاريخ قرر فيما فهمنا من حركته أنه نقل بندقيته على كتفه الآسيوي، ففي بكين وفي الأسبوع الأول من شهر أيلول/ سبتمبر 2025 اجتمع قادة مسلحون بقوى نووية وابتسموا للمستقبل واثقين، لم يرسلوا لأحد تهديدات قذافية، ولكنهم قالوا بصمت حكيم فيه من كنفشيوس وبوذا وماو: نحن هنا ونملك أن نتاجر أولا، ولكننا لسنا عاجزين دون حماية قوافلنا وقوافل أصدقائنا ولدينا فائض قوة يردع ويحمي وقد يبلغ أمدية بعيدة إذا تجرأ علينا ظالم.

ظهرت النتيجة مباشرة في ضحكة صفراء ساخرة ولكن مرعوبة في شمال الأطلسي؛ الرجل البرتقالي ارتج وتظاهر بالقوة ولكن حكماء دولته يجلسون الآن ويحسبون الخطوات، لم يعودوا وحدهم على الخريطة والقطبية الأحادية انتهت. فكيف يستعدون للتفاوض وقد بانت قوة الخصم العدو؟

بكين تستعد لقيادة العالم
تتجمع كل هذه العناصر (البشر والاقتصاد والسلاح) لتقول للغرب (على ضفتي الأطلسي): العالم لم يعد مجالكم وحدكم، هناك شريك قوي ومسلح، فكروا في القسمة أفضل من التفكير في الحرب. من هنا يتغير العالم لخمسة قرون قادمة

تقدمتْ بهدوء في ما لا يثير ريبة عدو، تحكمت في اقتصادها ثم انتشرت مثل ريح في العالم حتى صارت قوة تكنولوجية تبدع ولا تتبع. والاقتدار العلمي أنتج السلاح المتطور، لم تعد رقم خمسة في حق الفيتو فقط وقليلا ما استفادت منه، ولكنها تجاوزت إلى آخر أنواع السلاح وكان الاستعراض دالا. بين حفنة الرز لكل جائع في زمن ماو المؤسس إلى ما شاهد العالم يوم العرض؛ مسافة قُطعت بصبر وبلا جعجعة خطابية، منهجية عبقرية مستندة إلى عقل عملي صنعته ثقافة المثابرة والصبر.

لو سرنا وراء الثقافة الصينية التي أطرت كل هذا النجاح سنتوه عن المعنى الذي نريد. توازن القوة مع القطب الغربي الأوروبي عاد، ليس بروسيا بل بالصين. العالم الآن يقوده قطبان يملكان قوة متضادة، مع تفوق نوعي للصين؛ ليس فقط في نوعية السلاح بل في شبكة الإسناد السياسي والأخلاقي من حول الصين.

لم تتشطر الصين على دولة صغيرة فتدمرها (الصومال) ولم ترسل قوات خارج حدوها لإذلال أحد (أفغانستان)، لم تستولِ بالقوة على ثروات أحد فتبني قوتها بالمنهوب من ثروات العالم (فرنسا في أفريقيا)، بل دخلت بالتجار والصنائعية. وجنود الصين لم يذهبوا إلى حروب تصيب ضمائرهم بوجع وأجسادهم بمخلفات يورانيوم منضب، شباب واقف عند حدوده لم يتجاوزها حتى الآن ولكنه يبدو قادرا على حماية قوافل تجارته في العالم وهي مهمة عظيمة، والصين تمد الطرقات لقوافل الشاحنات التجارية وليس لنقل الدبابات. الصين تملك تفوقا أخلاقيا على الغرب سيكون له دور مهم في جلب الحلفاء الباحثين عن حماية لا تهين كرامتهم. أما حديث الغرب الأوروبي عن حقوق الإنسان الصيني وإنسان العالم فغزة خففت العبء على الصين، إنها تشاهد أخلاق الغرب في غزة.

تملك أيضا جوارا نوويا مفعما بنوايا الاستقلال عن الغرب، لقد حضروا حفل نقل القوة وشاركوا معلنين ما يشبه تحالفا دوليا نوويا. بعض الحضور ليسوا أصدقاء، فالهند لها أجندتها لكن حماس رئيس وزرائها يشبه إعلان سلام مع الصين. لم تغب باكستان وحضرت إيران وتركيا وجنوب أفريقيا؛ قوى صاعدة وعلاقتها بالصين بنيت بهدوء وروية وتعد بالمزيد.

تتجمع كل هذه العناصر (البشر والاقتصاد والسلاح) لتقول للغرب (على ضفتي الأطلسي): العالم لم يعد مجالكم وحدكم، هناك شريك قوي ومسلح، فكروا في القسمة أفضل من التفكير في الحرب. من هنا يتغير العالم لخمسة قرون قادمة.

الغرب ينهزم

كل الذين خضعوا للاستعمار الغربي يعرفون أخلاقه وكيف وقد عانوه لقرون، لذلك فعيونهم تبحث عن حليف بديل. وقد أجهزت غزة على حكومات الغرب، حتى أن شعوبها تثور عليها وقد قرفت من نفاقها. في نافذة صغيرة من الديمقراطية حدثت في السنغال وصل شاب منتخب بأغلبية فقام بأول خطوة سياسية، إنهاء وجود الاحتلال الفرنسي في بلاده ثم سافر إلى تركيا وعقد صفقات استقلال. لقد خسرت فرنسا وربحت السنغال وربحت كل الشعوب الطامحة الي الديمقراطية. الغرب الذي صنع خطاب الديمقراطية وعذب به العالم ينكشف أخلاقيا وسياسيا ويخسر كلما تحرر شعب من ربقته.

الغرب يخسر أيضا في مستوى التكنولوجيا، لم يعد سلاحه هو الأفضل ولا سيارته هي الأمتن أو الأرخص، كل ما احتكره من معرفة تسربت من بين يديه، والقوى الصاعدة تمكنت من تسليح نفسها وملكت استقلالها الاقتصادي وهي تكشف الطريق لمن تخلف عن الركب.

الغرب يخسر لأن دوله لم تعد برأي واحد وزعاماتها ظهرت صغيرة ومنحرفة، بل متواطئة ضد شعوبها لمصلحة الصهيونية العالمية الفضيحة الأخلاقية الكونية. ويقوم ترامب هذه الأيام بالإجهاز على وحدة الغرب عبر سياسات الرسوم وهي سياسة تقسم الغرب وتشتت قواه، ويتم الدفع حالا في أوكرانيا؛ آخر حروب الغرب التي نراه يخسرها لصالح القطب الجديد.

من يريد أن يستقل عن الغرب ويحرر إرداته السياسية فهذه أيام مناسبة لفعل ذلك، المطلوب فقط التركيز على الرأس لا على أعضاء أخرى.

والعرب في كل هذا؟
الدرس الصيني الأول أن الخروج ممكن طبقا للمنهج الصيني وليس بالالتحاق بالصين. لقد علّمت الصين العالم أن الغرب ليس قدرا وأن تجاوزه ممكن، من هنا بدأت الصين وقد انتهت سيدة قرارها وتتحدث مع الغرب من علٍ

إذا فتح المرء اليوتيوب العربي فإن الإجابة هناك؛ مواضيع التركيز في منشورات العرب تدور حول فتاوى المرأة، فإذا ارتقى الناشر نشر طلاسم البحث عن الكنوز، فإذا تطور نشر عن كرة القدم وأخبار الفنانين الذين لم يذهب أي منهم إلى غزة أو يذكرها على ركح، فحتى مسرحية حمل الكوفية على الكتفين انتهت.

العرب سرة جغرافيا العالم، لكنهم هامش اقتصادي وبشري لم يفلحوا في التحرر السياسي ولا الاقتصادي. أسوأ حكام العالم يظهرون فقط في الرقعة العربية، وأكثر النخب انحطاطا أخلاقيا تقود الشعوب إلى حتوفها. شعوب العالم تتطور بجوار العرب؛ الأتراك والأفارقة والآسيويون يتطورون، تجارب مختلفة تتدرج في طرق الديمقراطية والتنمية واحترام الحاكم لشعبه، لكن المنطقة العربية منقسمة ومشتتة، وقد اختبرتها غزة فإذا نصفها واقف مع العدو يطعن في صدق المقاومة ويشمت في شهدائها.

سيكون عليهم بعد ظهور القطب الثاني أن يختاروا بين الخروج من الهامش واللعب على تناقض الأحلاف، أو الاستكانة إلى الغرب المنهار كما جرت به سياساتهم. هل هذه دعوة للالتحاق بقطب الصين؟ هذه دعوة للاستفاقة من رقاد القرون. الدرس الصيني الأول أن الخروج ممكن طبقا للمنهج الصيني وليس بالالتحاق بالصين. لقد علّمت الصين العالم أن الغرب ليس قدرا وأن تجاوزه ممكن، من هنا بدأت الصين وقد انتهت سيدة قرارها وتتحدث مع الغرب من علٍ. تاريخ جديد يبدأ ويمكن للعرب اعتماد النصيحة المتوارثة "طلبوا العلم ولو في الصين".
التعليقات (0)

خبر عاجل