قضايا وآراء

فلسطين أمام العاصفة: بين الانحناء والمواجهة

رائد أبو بدوية
"الانحناء للعاصفة قد يبدو حكمة، لكنه ليس قدر الفلسطيني ولا خياره"- الأناضول
"الانحناء للعاصفة قد يبدو حكمة، لكنه ليس قدر الفلسطيني ولا خياره"- الأناضول
فلسطين اليوم أمام لحظة فاصلة؛ هي ليست مجرد إدارة لأزمة إنسانية، بل اختبار لإرادة شعبٍ يُحاول حماية وجوده وسيادته في مواجهة إعادة هندسة إقليمية تُفرض من الخارج. في ظل عودة الهيمنة الأمريكية وسياسات الاحتلال الإسرائيلية، يصبح السؤال الأساسي: هل الانحناء للعاصفة حتمية أم أن الصمود خيار؟

عودة السطوة الأمريكية.. والعربدة في الإقليم

الشرق الأوسط يعود اليوم إلى مدار واشنطن بعد عقدٍ من التعددية الهشة؛ الحرب على غزة منحت الولايات المتحدة فرصة نادرة لإعادة فرض سطوتها على الإقليم، مستندة إلى إرهاق القوى المحلية والإقليمية، وانشغال أوروبا بالصراعات، وارتباك النظام الدولي أمام تصاعد الأزمات.

الإدارة الأمريكية تتعامل مع الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي كملف إدارة أزمات، لا كقضية عدالة، فيما تنظر العواصم العربية إلى هذا المشهد كقدرٍ لا يمكن مقاومته

لكن هذه العودة ليست مجرد "وساطة"، بل عربدة سياسية واستراتيجية تسعى لتثبيت الهيمنة الأمريكية على قواعد اللعبة: من صياغة مستقبل غزة، إلى ضبط الإقليم وفق معادلة "الاستقرار مقابل الولاء"، ولو على حساب العدالة والحقوق الوطنية. فالإدارة الأمريكية تتعامل مع الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي كملف إدارة أزمات، لا كقضية عدالة، فيما تنظر العواصم العربية إلى هذا المشهد كقدرٍ لا يمكن مقاومته، وترى إسرائيل تفويضا مفتوحا لاستكمال مشروعها الاستيطاني الزاحف في الضفة والقدس.


تسوية بلا حلّ.. وإدارة بلا سيادة

في ظل هذه الهيمنة، تتبلور ملامح صفقة ما بعد الحرب: إشراف دولي أو إقليمي على غزة، دور مدني محدود للسلطة الفلسطينية في الضفة، وتوافق عربي-إقليمي-أمريكي على تثبيت هذا الواقع مقابل تطبيع متدرّج واستقرار اقتصادي شكلي. أما إسرائيل فستبقى صاحبة الكلمة في الأمن والحدود والموارد، فيما يُراد للفلسطينيين أن يتحولوا إلى شعب تحت إدارة لا تحت سيادة. إنها تسوية بلا حل، ودولة بلا استقلال، تحول القضية الفلسطينية إلى ملف إدارة أزمة إنسانية طويلة الأمد.

بين الانحناء والمواجهة: أي خيار للفلسطينيين؟

الانحناء قد يكون تكتيكا مؤقتا لتجنّب الانكسار، لكنه يتحول إلى استسلام سياسي إن صار قبولا دائما بالواقع المفروض. والصمود اليوم لا يعني المغامرة العسكرية، بل القدرة على تعطيل مسار التصفية وإبقاء الصراع مفتوحا على أفق العدالة، لا على مقايضة اقتصادية.

إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني ليست ترفا تنظيميا، بل شرط بقاء وطني في لحظة يُعاد فيها تعريف من هو الفلسطيني وما هو حقه

إعادة تعريف السلطة ومنظمة التحرير

اللحظة الراهنة تفرض إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني على أسس قوية وواضحة؛ أهمها إعادة الدور السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي جامع للشعب الفلسطيني، وتفعيل مؤسساتها التمثيلية لإعادة القرار الوطني إلى موقعه المستقل، وإعادة تعريف السلطة الفلسطينية كأداة نضال سياسي وقانوني، لا كجهاز إدارة خدمات، وأخيرا توحيد الضفة وغزة ضمن رؤية سيادية واحدة ترفض أي إشراف خارجي ينتقص من وحدة الكيان السياسي الفلسطيني.

إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني ليست ترفا تنظيميا، بل شرط بقاء وطني في لحظة يُعاد فيها تعريف من هو الفلسطيني وما هو حقه. فالمطلوب اليوم ليس مجرد رفض صفقات التصفية، بل مقاومة ذكية تجمع بين السياسة والقانون والميدان، وتُبقي الصراع مفتوحا على أفق العدالة.

وفي النهاية، الانحناء للعاصفة قد يبدو حكمة، لكنه ليس قدر الفلسطيني ولا خياره. فالأعاصير لا تُواجَه بالركوع، بل بتجذير الجذور في الأرض التي لا تباع ولا تُشترى. والاستسلام يعني القبول بأن تُمحى فلسطين من الخريطة ومن الذاكرة، وأن يتحول الشعب إلى "ملف" والإرث إلى "مشروع إداري". لكن الفلسطيني الذي عاش النكبة وصمد تحت الحصار، لن يركع لعاصفة عابرة مهما اشتدت. قد تُفرَض خرائط جديدة، وقد تتبدل الأدوار، لكن فلسطين لا تُختزل في معبرٍ أو إدارةٍ أو هدنة مؤقتة. إنها حقيقة تاريخية وأخلاقية أعمق من كل الصفقات، وأبقى من كل القوى. وحين تهدأ العاصفة، سيكتشف العالم من جديد أن الفلسطيني، كما كان دائما، آخر من يُهزم وأول من ينهض.
التعليقات (0)